تلقينا اليوم. أخبار مؤسفة عن حريق التهم جزءا من دار الضيافة بجامعة وادي النيل Rest House ..
ويعد المبنى من المباني التاريخية بمدينة عطبرة والتي يناهز عمرها المائة عام..
أعاد الحادث للذاكرة مطالباتي المتعددة بالاهتمام بالتراث العمراني و المباني التاريخية..
والمقال أدناه المنشور في مايو 2018 واحدة من هذه الدعوات المتكررة.
التراث العمراني: هوية واستثمار
د. علي محمد عثمان العراقي
راجت خلال الأيام الماضية أخبار وصدرت بيانات على خلفية سعي ولاية الخرطوم لتقسيم (حوش الخليفة) بأمدرمان إلى جزئين وذلك لتمرير كبري امدرمان – توتي، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة نية الولاية إلا أن هذا الأمر يدفعنا لطرق موضوع التراث العمراني والمباني التاريخية في المدن السودانية.
يشمل التراث العمراني المباني التاريخية والنسيج العمراني للأحياء القديمة ونمط التصميم، وتأتي أهمية هذه المكونات لتعبيرها عن تاريخ المجتمعات وقدرتها على التعاطي مع البيئة وابداع منتج يدل على الهوية والتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات المحلية. ولهذا البعد ولإمكانية توظيفه اقتصاديا لا تجد مدينة في كثير من الدول وخاصة في اوربا وامريكا إلا وعبرت عن ذلك بحرصها على أن يكون مركز المدينة City Center محافظا على نفس النمط والخصائص العمرانية للعصر الذي بني فيه فلا يهدم ولا يعاد تجديده إلا بما يعزز من مكوناته الاصيلة وليصبح عنوانا على تاريخ المدينة وهويتها.
تزخر المدن السودانية بأنماط متعددة من التراث العمراني، فتجد المباني التاريخية من فترة الحكم التركي في الخرطوم ومدني والكاملين وسواكن وبربر وغيرها، ومباني فترة الحكم الوطني في المهدية بأمدرمان وغيرها، والمباني التي تعود للحكم الانجليزي في معظم مدن السودان. وكل هذه الأمثلة وغيرها قابلة للتعامل معها كتراث عمراني يحافظ عليه ويؤهل ويطرح للتوظيف والاستثمار، ولكي تتضح الصورة دعونا نستعرض بعض المفاهيم في هذا المنحى.
تستخدم المباني التاريخية لوظائف سياحية مما يفيد النسيج الحضري من عدة أوجه:
1) ترميم المباني التاريخية،
2) توفير وظيفة حية للمبنى التاريخي والذي غالباً ما يكون غير مأهول،
3) توفير بيئة حضرية جاذبة وإيجاد مراكز مدن أكثر أماناً وجذباً للسكن،
4) تفادي الآثار البيئية التي تنتج باستخدام المبنى الحديث للوظيفة نفسها.
إن اتخاذ قرار ببدء عملية إحياء لمبنى تاريخي واحد أو لجميع المباني أو اتخاذ قرار بعدم إحيائها أصلاً يحتاج لدراسة ومعرفة تفصيلية بحجم العائدات المتوقعة والأرباح المنتظرة من المشروع والتكاليف الاجتماعية وهيكل رأس المال المستخدم في عملية الإحياء هل هو عام أم خاص؟ وما هي الآثار التوزيعية للمشروع؟ ويؤكد هذا أن عملية إحياء المباني التاريخية ليست محض برامج معمارية ولكنها مشروعات تنمية اقتصادية واجتماعية وإن كانت في محصلتها النهائية تهدف إلى تمكين المجتمع المحلي فلا بد من الاهتمام بضمان توفر الخصائص التراثية التي تقود إلى استدامة المشروع؛ ولعل إحدى ضمانات استدامة مشروع الإحياء وجود خطة تفصيلية لإدارة المشروع تبنى على قيمته التاريخية وتستوعب جميع المحاور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلاقات المشروع ووضعه في برامج التنمية بالبلاد.
ولمعرفة مدى التأثيرات التي أدت إليها مشروعات الحفاظ على المباني التاريخية في بعض الدول؛ فقد رصدت دراسات متعددة مجموعة من المتغيرات يقود تحليلها لمعرفة ما طرأ على مركز المدينة ، والمتغيرات هي:
حجم الاستثمارات العامة- الخاصة في الجوار، حجم الاستثمار في المباني التراثية،عدد الاعمال الجديدة،عدد الاعمال الصغيرة،حجم التوسعات في الاعمال،
عدد الوظائف الجديدة، مبيعات التجزئة، ضريبة القيمة المضافة، ضريبة الملكية على العقارات،
عدد غرف الفنادق، معدل إشغال الفنادق، مساحات المكاتب بالقدم المربع، عدد الوحدات السكنية، المبيعات العقارية، معدلات الايجار، عدد تصاريح البناء المصدرة، عدد المؤسسات الثقافية.
وتعد هذه المتغيرات جزءاً من منظومة متكاملة تبدأ بدراسة منظومة القيم في الموقع وتنتهي باتخاذ القرار ببدء مشروعات الحفاظ أو عدمها
وما من شك أن لمشروعات الحفاظ على المباني التاريخية والتراث العمراني تأثيرات اقتصادية تتراوح بين زيادة معدلات التوظيف وتحسين دخل القطاع العائلي إلى توفير المكان كمقصد للسياحة التراثية هذا فضلا عن التغيير الذي يطرأ على قيم الملكيات والعقارات جراء تحسين بيئتها بمشروعات الحفاظ.
ونشير هنا إلى أنه وخلال العقدين الماضيين فقد تطور الوعي العالمي بقضايا الحفاظ على التراث العمراني ودخل مرحلة جديدة بتوظيفه في عمليات الإحياء الحضري لبعض المدن، ومن أبرز التجارب في هذا الصدد مدن فيرونا- ايطاليا، سلفادور دي باهيا- البرازيل، ادنبره- اسكوتلندا، جنت-بلجيكا، كويتو-الاكوادور، سانت بطرسبرج-روسيا، المينا- غانا. ومع تنوع هذه المدن واختلاف معطياتها فإنها جميعا تتفق بأن استراتيجيات الإحياء والتجديد الحضري بها تلتزم مبادئ ومكونات منها:
1) وجود عدد من استراتيجيات التنمية الشاملة،
2) تحديد المناطق التاريخية بشكل واضح ودقيق وتعطى الأولوية في الترويج كاستثمارات للقطاع الخاص،
3) تقديم حزمة من الحوافز المالية لجذب ومساندة رأس المال الخاص،
4) يلتزم القطاع العام بالاستثمار في تطوير البنيات الأساسية وتقديم الخدمات العامة،
5) تجرى عمليات الحفاظ والتأهيل للمباني التاريخية بإشراف السلطات الحكومية وبتعاون ودعم فني من منظمات المجتمع المدني المحلية والعالمية والقطاعين العام والخاص،
6) تنشأ برامج للدعم والمساندة خاصة بجذب قطاع الأعمال الصغير والمتوسط وضمان إدماجه في مشروعات الإحياء،
7) توضع خطة شاملة للتخطيط والإدارة بما في ذلك الرقابة لمسار التغيرات التي تطرأ
ويعد التراث العمراني جزءا من منظومة الاقتصاد الابداعي الذي يعبر عن توجهات القرن الحادي والعشرين ويضمن تعظيم الاستفادة من جميع موارد المجتمع بما في ذلك التراث العمراني، هذا فضلا عن تعزيز الهوية الوطنية وتمتين النسيج الاجتماعي. ولعل هذا ما دفع مؤسسات التمويل الدولية كالبنك الدولي إلى تمويل الدول في مشروعاتها لإعادة إحياء المناطق التاريخية وتبرز في ذلك تجارب تونس والمغرب وتنزانيا والصين وغيرها.
وهذه دعوة للولايات والمحليات بالانتباه إلى المباني التاريخية التي تزخر بها المدن، وأن تدمجها في خطط التطوير الحضري فتستهدفها بعمليات الحفاظ وإعادة الإحياء ولتكون إحدى الموارد السياحية التي تعزز صورة المدينة وتميزها ، وأن يتم توظيفها في برامج تحريك الأنشطة الاقتصادية بالمدينة فتحول لمتاحف أو فنادق تراثية أو أسواق شعبية أو بازار للحرف التقليدية أو غيرها من الأنشطة؛ فتسهم بذلك في فتح مسارات لتشغيل الشباب وادماجهم في الدورة الاقتصادية عبر سلسلة القيمة.
نقلا عن صحيفة إيلاف
Comments
Post a Comment