محفوظ بشرى ----- قراءة مغايرة للمشهد السياسي والاجتماعي للثورة السودانية
هذه الكتابة محاولة لقراءة المشهد السياسي والاجتماعي للثورة السودانية، من زاوية تتخذ من العموميات مرتكزاً للتحليل، نسبة للتغيرات السريعة والمستمرة في المشهد الذي لا يزال ينضج على نار الأحداث، مما يجعل البناء على حدث محدد سيعطي فقط قراءة جزئية قابلة للاستبدال السريع لصالح القراءة الأكثر شمولاً عقب استقرار المشهد. نكتبها على أمل مراجعتها وتدقيقها وضبطها لاحقاً.
- - - - - - - - - -
- - - - - - - - - -
السودان خلف دخان الجنجويد
1- محمد حمدان دقلو
1- محمد حمدان دقلو
في شيخوخة الدول، تمثل الاستعانة بالقبائل البدوية أو بالمرتزقة خياراً مفضلاً لقادة الأنظمة المحتضرة بغرض الانتصار في حروبهم ضد أعدائهم. ويمثل صعود محمد حمدان دقلو حلقة في هذه السلسلة المستمرة، مثلما حدث مع العباسيين مع الأتراك والديلم، والأيوبيين مع المماليك والأندلسيين في زمن المعتمد بن عباد حين استعانوا بجنود دولة بدوية – إن صح الوصف – بقيادة يوسف بن تاشفين، والفونج مع الهمج، وقريب من هذا ما يتهم بفعله الصادق المهدي إبان الديمقراطية الثالثة بإنشائه السلف الأول للجنجويد – المراحيل – في صراعه ضد الحركة الشعبية.
الخيط الناظم بين هذه الأمثلة السابقة رغم ما يبدو من اختلاف الحالة التاريخية لكل منها عن البقية؛ هو دخول محاربين من غير الجيش النظامي للدولة، ليحاربوا نيابة عنها، إلا في حالة المعتصم حيث جعل منهم الجيش النظامي في خطأ إستراتيجي بجعل قوة الدولة العسكرية كلها في يد قومية واحدة، مما فتح الباب لاحقاً لتكرار الأمر من قوميات أخرى.
تأتي الاستعانة بالمرتزقة من قبل الحكام في لحظات ضعفهم لأسباب كثيرة، على رأسها ضعف الجيش النظامي وفساده أو عدم الثقة فيه أو ضغط التكلفة الرسمية العالي على موارد الدولة التي استنزفت بسوء الإدارة. وفي حالة عمر البشير تحققت الأسباب الثلاثة المذكورة، إلا أن صعود حميدتي الذي فاق صعود الشيخ موسى هلال، كان نتيجة التطور في مفهوم الارتزاق لدى هلال مما جعله يمثل خطراً جديداً على النظام المتهالك، وهو نفسه ما حدث لحميدتي وقواته عقب استقلالهم مالياً عن البشير مما جعلهم مرة أخرى خطراً مضافاً عليه لم يسعفه الوقت لتلافيه بخلق مزيد من الكيانات شبه العسكرية المرتزقة.
يمثل حميدتي في أحد تجلياته، صعود الأطراف إلى مركز القوة في السودان مرة أخرى عقب فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885-1898)، وهي فترة لها إسقاطات كبيرة جداً في النظر حالياً إلى حميدتي من قبل نخب السودان كما سنبين في مكان آخر.
إلا أن الصعود الأول لقوى الأطراف (سأقتبس لها من د.جمال حمدان مصطلح الهلال الخارجي) الذي له تأثير على مسار التاريخ السوداني كان بسيطرة الهمج على مفاصل الدولة في عصر الفونج بدءاً من الوزير محمد أبولكيلك، حين بلغت الدولة أوجها في عهد بادي أبوشلوخ ثم بدأت التفكك مباشرة بعد الحرب الحبشية، وكانت لحظة استعانة المتصارعين من الفونج بالهمج بداية نهايتهم.
في لحظة تاريخية حرجة، كانت سلطنة الفونج تتنازعها ثلاث قوى في الوقت نفسه السلطان صاحب النفوذ الاسمي في سنار، والهمج أصحاب النفوذ الحقيقي والعسكري، وقبائل الوسط النيلي المستعربة الطامحة للسيطرة على الدولة في ظل ضعف السلطان بقيادة الشيخ الأمين مسمار شيخ الحلفايا وحلفائه.
بدلاً من التحالف المنطقي بين الأمين مسمار والهمج لصنع حلف جديد استناداً على استحالة انفراد الهمج بالدولة بدون سلطان من الفونج أو على الأقل نائبه حاكم الحلفايا لإسباغ الشرعية اللازمة على الحكم؛ دخلت القوى الثلاث؛ الأمين مسمار بشرعيته كطرف ثان في تحالف إنشاء الدولة، والسلطان بشرعية التحالف ذاتها التي تعطيه الحق الأوحد في حكم البلاد، والهمج بشرعية الوزارة والقوة العسكرية الرئيسة؛ في حروب مستمرة لعشرين سنة تغيرت فيها التحالفات وانفضت، لتكون النتيجة بلاداً مفككة بلا قوة عسكرية تقف في وجه الغزو التركي لاحقاً.
الآن نحن نقف في النقطة نفسها التي كانت تقف فيها الدولة في تلك المرحلة؛ القوى الثلاث على وشك الدخول في حرب بينها، الجنجويد بقيادة حميدتي، نخبة الوسط النيلي بقيادة قوى الحرية والتغيير، النظام الحاكم بقيادة عساكر الدولة العميقة المسيطرين على المجلس العسكري وعلى الجيش. يُفترض أن حميدتي في مقام الوزير الهمجاوي، فيما المجلس/النظام في مقام السلطان صاحب الشرعية الاسمية، وقوى الحرية والتغيير في مقام الأمين مسمار!
من وجهة نظري، إن التحالف بين حميدتي وقوى إعلان الحرية والتغيير فرصة لوضع عقد سياسي جديد، وطريقة لتصفية النظام الحاكم الذي لا يزال حياً وبكامل قوته، ممثلاً في أجهزته الخالصة مثل الأمن والمخابرات، والأمن الشعبي، والدفاع الشعبي، الخ، كما أن وجوده في الجيش بل وفي جزء من قوات حميدتي لا يخفى، وهذه وجهة نظر سأفصلها لاحقاً.
خلال ثلاثين عاماً تمت تصفية الجيش وتنقيته من غير الموالين لنظام البشير، ومن يعتقد أن بإمكان ضابط أن يصل إلى رتبة لواء فما فوق، دون أن يكون موالياً للبشير ونظامه أو يحظى برضاه؛ فهو يغالط في وقت لا يحتمل المغالطات. إن دولة البشير العميقة في الجيش، هي بنفس قوة دولته في الاقتصاد والأمن والخدمة المدنية. هذه الدولة العميقة بتمثّلاتها المختلفة، هي الخطر الحقيقي ليس على الثورة فحسب بل على السودان كله.
طبيعة قوات حميدتي بوصفها مرتزقة، تجعل تغلغل النظام داخلها لا يبلغ العمق الذي تسيطر فيه على تلك القوات المكونة في أغلبها من جنود في أعمار صغيرة. وبعد استقلالها المالي نسبياً عن النظام، صارت قبضة النظام عليها واهنة، وهو ما ظهر في استدعاء البشير لها لقمع المتظاهرين ومخالفة حميدتي لهذا الأمر، في حين لو لم يكن حقق استقلاله المالي بعد لما تردد في القيام بمذبحة.
لا يمكن إغفال التغيرات التي طرأت على حميدتي وقواته عقب الرفاهية النسبية التي حظيا بها مؤخراً وتعرفها على نمط حياة مختلف عما تعوده الجنود عندما كانوا يقاتلون في الهلال الخارجي، وهو باب للتحليل لم يفتح بعد، وإن كان باستطاعتنا الاقتباس من التاريخ وملاحظات ابن خلدون لتخمين ما ستؤول إليه أمورهم.
هل يتلون الرأي العام في الخرطوم ضد حميدتي بصورة الخليفة عبد الله التعايشي؟ أم أن الاعتراض عليه حقاً بسبب الجرائم في دارفور؟ لمناقشة هذه النقطة، فلنقارن بين رد الفعل وسط قوى الحرية والتغيير والموالين لها تجاه ضباط المجلس العسكري، وتجاه حميدتي، بالإجابة على السؤال: من خطط وأمر وسهل لحميدتي وقواته قتل أهل دارفور؟ هل هو البشير فقط؟ أم المؤسسة العسكرية ممثلة في كبار ضباطها الموجودين الآن في اللجنة الأمنية للبشير/المجلس العسكري؟ من أين أتى حميدتي بالأسلحة والغطاء الجوي والتموين لشن حروبه؟
إن أيدي كثيرة ملطخة بالدماء نفسها التي تغطي يدي حميدتي، وعلى رأسها أيدي الضباط العظام الآمرين من لدن عمر البشير ووزير دفاعه وهيئة أركانه، انتهاء برئيس المجلس العسكري الذي يؤكد – في محاولة لمداراة حميدتي في ما أؤمن – أن الدعم السريع من رحم الجيش!
رفض التعامل مع حميدتي أو التحالف معه، إن كان خارج الصورة الكابوسية للخليفة عبد الله التعايشي في الذاكرة الجمعية لسودانيي الوسط النيلي؛ فالأولى أن يوازي رفض بقية المشاركين في مأساة دارفور، وليس التفاوض معهم وطرح منحهم جزءاً من السلطة في الفترة المقبلة!
مصافحة حميدتي والجلوس معه للمفاوضات، لا يختلف كثيراً عن التحالف معه مرحلياً. فإن كان المحرك الأخلاقي هو الدافع للحملة عليه وعلى قواته؛ فالأجدى عدم التعامل معه منذ البداية بأي شكل.. أليس كذلك!
إن الضرورات التي أباحت محظور التعامل مع حميدتي، لا زالت قائمة، وفي ما أرى أنها تبيح التحالف معه ضد النظام وكياناته النشطة الآن من جماعات دينية وأجهزة أمنية ومجلس عساكر النظام.
أخلاقياً، لا يمكن بأي شكل من الأشكال قبول حميدتي وقواته، بل يجب محاسبتها على ما ارتكبت من جرائم، ومحاكمة المتورطين معها في كل ما سبق.. هذا الكلام لا يماري فيه أحد، كما لا يجب افتراض أن الحركات المسلحة الدارفورية بريئة من الجرائم أيضاً وسجنها في صورة الضحية فقط.
حسناً هذا على المستوى النظري، فماذا عن المشهد الواقعي أمامنا الآن؟ كيف يمكننا فعل كل ما ذكرناه أعلاه في حال تشكيل حكومة مدنية انتقالية أو في ظل حكومة منتخبة؟ كيف سنتعامل مع قوة مسلحة شبه نظامية مثل قوات الدعم السريع/الجنجويد؟ ما هي الخيارات إذا رفضت قوى الحرية والتغيير التحالف مع حميدتي، ما الذي سيحدث له بعد تشكيل الحكومة المدنية لاسيما بعد وضعه في خانة العدو المطلق؟ هل سيتم اعتباره جزءاً من المجلس العسكري بعد تسلم حكومة مدنية ويجري عليه ما يجري على المجلس؟ هل سيصبح نظامياً وتغفر له جرائمه؟ هل ستشن عليه الحكومة حرباً بالجيش، أم سيتم التعامل معه بدون حرب؟ كيف ستفكك الحكومة قواته؟
إن مؤامرات اللجنة الأمنية ضد حميدتي يجب أن تثير قلق قوى الحرية والتغيير، فهي تدل على رغبتها في إزاحته رغم أنهم هم من صنعوه في البداية، إلا إن كان هناك من يعتقد ان اللجنة الأمنية للبشير تتحرك دائماً من أجل مصلحة الثورة والسودان فعليه ألا يشعر بالقلق بالطبع.
حتى الآن لدى حميدتي وقوى الحرية والتغيير عدو مشترك يتمثل في نظام البشير الذي انقلب عليه، هذا غير الوضع المعقد له ولقواته في الحالين، إن استعاد النظام زمام الدولة؛ وإن أفضت المفاوضات الحالية إلى حكم مدني، فسيظل قوة مهددة للدولة، إلا أن احتمالات وضع عقد سياسي جديد أو مخرج له في ظل حكومة مدنية تظل أفضل له من عودة النظام القديم للسيطرة وتصفية حساباته معه مثلما فعل مع موسى هلال، لا سيما باستصحاب التصريحات من عدة حركات مسلحة دارفورية تُظهر أن بالإمكان عقد مصالحة مع حميدتي وفق صيغة مناسبة.
التحالف المرحلي مع حميدتي ضد العدو المشترك، قد ينجز تصفية الدولة العميقة التي ينكر كثيرون وجودها رغم كل الدلائل، كما سيمكن من التعامل مع الفوضى التي قد تحدثها جماعات الهوس الديني لتقتات عليها. بعد انتهاء المرحلة سنكون أمام مليشيا ودولة، وليس كما هو الوضع الآن: اللادولة + مليشيا + جيش مسيطر عليه من قبل النظام الفاسد + نظام كامن سيحول الأوضاع إلى جحيم لأي حكومة.
ما لم يتم العثور على ضباط موثوق أنهم وطنيون ولا يمتون للنظام بصلة، للتحالف معهم ضد الجنجويد وضد الدولة العميقة؛ فإن لا خيار يبدو أمامي غير التعامل مع الجنجويد على ما في هذا من كراهة.
غرض هذه الكتابة، كما أوضحت في صفحتي على فيسبوك، بحث ضروة التحالف بين قوى الحرية والتغيير مع حميدتي ضد نظام البشير المسيطر على مفاصل السودان، قبل أن تتحالف معه قوة أخرى تحقق له ما يريده، لا سيما أنه يبحث الآن عن حلفاء مدنيين من غير الإسلاميين، اضطر لمحاولة صناعتهم في الحراك القومي السوداني، وفي الإدارات الأهلية، فهو بحاجة إلى غطاء شرعي يقيه العاصفة المقبلة في حال تسلم المدنيون الحكم.
ما كتبته هنا لا يعني بحال من الأحوال أنني أنظر إلى قوى الحرية التغيير – وهو نفسه تحالف مرحلي – بوصفها الثورة السودانية، أو كأنها مبرأة من العيوب والأخطاء، بل إنها تتحمل اللوم الأكبر في وصول الأمور إلى ما هي عليه الآن بقطعها للمسار الثوري خوفاً وطمعاً، فيما كان بإمكانها تجنيبنا البحث عن حلول مرة المذاق دونها الخراب. وهذا ما سأبينه في الجزء الخاص بها.
الخيط الناظم بين هذه الأمثلة السابقة رغم ما يبدو من اختلاف الحالة التاريخية لكل منها عن البقية؛ هو دخول محاربين من غير الجيش النظامي للدولة، ليحاربوا نيابة عنها، إلا في حالة المعتصم حيث جعل منهم الجيش النظامي في خطأ إستراتيجي بجعل قوة الدولة العسكرية كلها في يد قومية واحدة، مما فتح الباب لاحقاً لتكرار الأمر من قوميات أخرى.
تأتي الاستعانة بالمرتزقة من قبل الحكام في لحظات ضعفهم لأسباب كثيرة، على رأسها ضعف الجيش النظامي وفساده أو عدم الثقة فيه أو ضغط التكلفة الرسمية العالي على موارد الدولة التي استنزفت بسوء الإدارة. وفي حالة عمر البشير تحققت الأسباب الثلاثة المذكورة، إلا أن صعود حميدتي الذي فاق صعود الشيخ موسى هلال، كان نتيجة التطور في مفهوم الارتزاق لدى هلال مما جعله يمثل خطراً جديداً على النظام المتهالك، وهو نفسه ما حدث لحميدتي وقواته عقب استقلالهم مالياً عن البشير مما جعلهم مرة أخرى خطراً مضافاً عليه لم يسعفه الوقت لتلافيه بخلق مزيد من الكيانات شبه العسكرية المرتزقة.
يمثل حميدتي في أحد تجلياته، صعود الأطراف إلى مركز القوة في السودان مرة أخرى عقب فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885-1898)، وهي فترة لها إسقاطات كبيرة جداً في النظر حالياً إلى حميدتي من قبل نخب السودان كما سنبين في مكان آخر.
إلا أن الصعود الأول لقوى الأطراف (سأقتبس لها من د.جمال حمدان مصطلح الهلال الخارجي) الذي له تأثير على مسار التاريخ السوداني كان بسيطرة الهمج على مفاصل الدولة في عصر الفونج بدءاً من الوزير محمد أبولكيلك، حين بلغت الدولة أوجها في عهد بادي أبوشلوخ ثم بدأت التفكك مباشرة بعد الحرب الحبشية، وكانت لحظة استعانة المتصارعين من الفونج بالهمج بداية نهايتهم.
في لحظة تاريخية حرجة، كانت سلطنة الفونج تتنازعها ثلاث قوى في الوقت نفسه السلطان صاحب النفوذ الاسمي في سنار، والهمج أصحاب النفوذ الحقيقي والعسكري، وقبائل الوسط النيلي المستعربة الطامحة للسيطرة على الدولة في ظل ضعف السلطان بقيادة الشيخ الأمين مسمار شيخ الحلفايا وحلفائه.
بدلاً من التحالف المنطقي بين الأمين مسمار والهمج لصنع حلف جديد استناداً على استحالة انفراد الهمج بالدولة بدون سلطان من الفونج أو على الأقل نائبه حاكم الحلفايا لإسباغ الشرعية اللازمة على الحكم؛ دخلت القوى الثلاث؛ الأمين مسمار بشرعيته كطرف ثان في تحالف إنشاء الدولة، والسلطان بشرعية التحالف ذاتها التي تعطيه الحق الأوحد في حكم البلاد، والهمج بشرعية الوزارة والقوة العسكرية الرئيسة؛ في حروب مستمرة لعشرين سنة تغيرت فيها التحالفات وانفضت، لتكون النتيجة بلاداً مفككة بلا قوة عسكرية تقف في وجه الغزو التركي لاحقاً.
الآن نحن نقف في النقطة نفسها التي كانت تقف فيها الدولة في تلك المرحلة؛ القوى الثلاث على وشك الدخول في حرب بينها، الجنجويد بقيادة حميدتي، نخبة الوسط النيلي بقيادة قوى الحرية والتغيير، النظام الحاكم بقيادة عساكر الدولة العميقة المسيطرين على المجلس العسكري وعلى الجيش. يُفترض أن حميدتي في مقام الوزير الهمجاوي، فيما المجلس/النظام في مقام السلطان صاحب الشرعية الاسمية، وقوى الحرية والتغيير في مقام الأمين مسمار!
من وجهة نظري، إن التحالف بين حميدتي وقوى إعلان الحرية والتغيير فرصة لوضع عقد سياسي جديد، وطريقة لتصفية النظام الحاكم الذي لا يزال حياً وبكامل قوته، ممثلاً في أجهزته الخالصة مثل الأمن والمخابرات، والأمن الشعبي، والدفاع الشعبي، الخ، كما أن وجوده في الجيش بل وفي جزء من قوات حميدتي لا يخفى، وهذه وجهة نظر سأفصلها لاحقاً.
خلال ثلاثين عاماً تمت تصفية الجيش وتنقيته من غير الموالين لنظام البشير، ومن يعتقد أن بإمكان ضابط أن يصل إلى رتبة لواء فما فوق، دون أن يكون موالياً للبشير ونظامه أو يحظى برضاه؛ فهو يغالط في وقت لا يحتمل المغالطات. إن دولة البشير العميقة في الجيش، هي بنفس قوة دولته في الاقتصاد والأمن والخدمة المدنية. هذه الدولة العميقة بتمثّلاتها المختلفة، هي الخطر الحقيقي ليس على الثورة فحسب بل على السودان كله.
طبيعة قوات حميدتي بوصفها مرتزقة، تجعل تغلغل النظام داخلها لا يبلغ العمق الذي تسيطر فيه على تلك القوات المكونة في أغلبها من جنود في أعمار صغيرة. وبعد استقلالها المالي نسبياً عن النظام، صارت قبضة النظام عليها واهنة، وهو ما ظهر في استدعاء البشير لها لقمع المتظاهرين ومخالفة حميدتي لهذا الأمر، في حين لو لم يكن حقق استقلاله المالي بعد لما تردد في القيام بمذبحة.
لا يمكن إغفال التغيرات التي طرأت على حميدتي وقواته عقب الرفاهية النسبية التي حظيا بها مؤخراً وتعرفها على نمط حياة مختلف عما تعوده الجنود عندما كانوا يقاتلون في الهلال الخارجي، وهو باب للتحليل لم يفتح بعد، وإن كان باستطاعتنا الاقتباس من التاريخ وملاحظات ابن خلدون لتخمين ما ستؤول إليه أمورهم.
هل يتلون الرأي العام في الخرطوم ضد حميدتي بصورة الخليفة عبد الله التعايشي؟ أم أن الاعتراض عليه حقاً بسبب الجرائم في دارفور؟ لمناقشة هذه النقطة، فلنقارن بين رد الفعل وسط قوى الحرية والتغيير والموالين لها تجاه ضباط المجلس العسكري، وتجاه حميدتي، بالإجابة على السؤال: من خطط وأمر وسهل لحميدتي وقواته قتل أهل دارفور؟ هل هو البشير فقط؟ أم المؤسسة العسكرية ممثلة في كبار ضباطها الموجودين الآن في اللجنة الأمنية للبشير/المجلس العسكري؟ من أين أتى حميدتي بالأسلحة والغطاء الجوي والتموين لشن حروبه؟
إن أيدي كثيرة ملطخة بالدماء نفسها التي تغطي يدي حميدتي، وعلى رأسها أيدي الضباط العظام الآمرين من لدن عمر البشير ووزير دفاعه وهيئة أركانه، انتهاء برئيس المجلس العسكري الذي يؤكد – في محاولة لمداراة حميدتي في ما أؤمن – أن الدعم السريع من رحم الجيش!
رفض التعامل مع حميدتي أو التحالف معه، إن كان خارج الصورة الكابوسية للخليفة عبد الله التعايشي في الذاكرة الجمعية لسودانيي الوسط النيلي؛ فالأولى أن يوازي رفض بقية المشاركين في مأساة دارفور، وليس التفاوض معهم وطرح منحهم جزءاً من السلطة في الفترة المقبلة!
مصافحة حميدتي والجلوس معه للمفاوضات، لا يختلف كثيراً عن التحالف معه مرحلياً. فإن كان المحرك الأخلاقي هو الدافع للحملة عليه وعلى قواته؛ فالأجدى عدم التعامل معه منذ البداية بأي شكل.. أليس كذلك!
إن الضرورات التي أباحت محظور التعامل مع حميدتي، لا زالت قائمة، وفي ما أرى أنها تبيح التحالف معه ضد النظام وكياناته النشطة الآن من جماعات دينية وأجهزة أمنية ومجلس عساكر النظام.
أخلاقياً، لا يمكن بأي شكل من الأشكال قبول حميدتي وقواته، بل يجب محاسبتها على ما ارتكبت من جرائم، ومحاكمة المتورطين معها في كل ما سبق.. هذا الكلام لا يماري فيه أحد، كما لا يجب افتراض أن الحركات المسلحة الدارفورية بريئة من الجرائم أيضاً وسجنها في صورة الضحية فقط.
حسناً هذا على المستوى النظري، فماذا عن المشهد الواقعي أمامنا الآن؟ كيف يمكننا فعل كل ما ذكرناه أعلاه في حال تشكيل حكومة مدنية انتقالية أو في ظل حكومة منتخبة؟ كيف سنتعامل مع قوة مسلحة شبه نظامية مثل قوات الدعم السريع/الجنجويد؟ ما هي الخيارات إذا رفضت قوى الحرية والتغيير التحالف مع حميدتي، ما الذي سيحدث له بعد تشكيل الحكومة المدنية لاسيما بعد وضعه في خانة العدو المطلق؟ هل سيتم اعتباره جزءاً من المجلس العسكري بعد تسلم حكومة مدنية ويجري عليه ما يجري على المجلس؟ هل سيصبح نظامياً وتغفر له جرائمه؟ هل ستشن عليه الحكومة حرباً بالجيش، أم سيتم التعامل معه بدون حرب؟ كيف ستفكك الحكومة قواته؟
إن مؤامرات اللجنة الأمنية ضد حميدتي يجب أن تثير قلق قوى الحرية والتغيير، فهي تدل على رغبتها في إزاحته رغم أنهم هم من صنعوه في البداية، إلا إن كان هناك من يعتقد ان اللجنة الأمنية للبشير تتحرك دائماً من أجل مصلحة الثورة والسودان فعليه ألا يشعر بالقلق بالطبع.
حتى الآن لدى حميدتي وقوى الحرية والتغيير عدو مشترك يتمثل في نظام البشير الذي انقلب عليه، هذا غير الوضع المعقد له ولقواته في الحالين، إن استعاد النظام زمام الدولة؛ وإن أفضت المفاوضات الحالية إلى حكم مدني، فسيظل قوة مهددة للدولة، إلا أن احتمالات وضع عقد سياسي جديد أو مخرج له في ظل حكومة مدنية تظل أفضل له من عودة النظام القديم للسيطرة وتصفية حساباته معه مثلما فعل مع موسى هلال، لا سيما باستصحاب التصريحات من عدة حركات مسلحة دارفورية تُظهر أن بالإمكان عقد مصالحة مع حميدتي وفق صيغة مناسبة.
التحالف المرحلي مع حميدتي ضد العدو المشترك، قد ينجز تصفية الدولة العميقة التي ينكر كثيرون وجودها رغم كل الدلائل، كما سيمكن من التعامل مع الفوضى التي قد تحدثها جماعات الهوس الديني لتقتات عليها. بعد انتهاء المرحلة سنكون أمام مليشيا ودولة، وليس كما هو الوضع الآن: اللادولة + مليشيا + جيش مسيطر عليه من قبل النظام الفاسد + نظام كامن سيحول الأوضاع إلى جحيم لأي حكومة.
ما لم يتم العثور على ضباط موثوق أنهم وطنيون ولا يمتون للنظام بصلة، للتحالف معهم ضد الجنجويد وضد الدولة العميقة؛ فإن لا خيار يبدو أمامي غير التعامل مع الجنجويد على ما في هذا من كراهة.
غرض هذه الكتابة، كما أوضحت في صفحتي على فيسبوك، بحث ضروة التحالف بين قوى الحرية والتغيير مع حميدتي ضد نظام البشير المسيطر على مفاصل السودان، قبل أن تتحالف معه قوة أخرى تحقق له ما يريده، لا سيما أنه يبحث الآن عن حلفاء مدنيين من غير الإسلاميين، اضطر لمحاولة صناعتهم في الحراك القومي السوداني، وفي الإدارات الأهلية، فهو بحاجة إلى غطاء شرعي يقيه العاصفة المقبلة في حال تسلم المدنيون الحكم.
ما كتبته هنا لا يعني بحال من الأحوال أنني أنظر إلى قوى الحرية التغيير – وهو نفسه تحالف مرحلي – بوصفها الثورة السودانية، أو كأنها مبرأة من العيوب والأخطاء، بل إنها تتحمل اللوم الأكبر في وصول الأمور إلى ما هي عليه الآن بقطعها للمسار الثوري خوفاً وطمعاً، فيما كان بإمكانها تجنيبنا البحث عن حلول مرة المذاق دونها الخراب. وهذا ما سأبينه في الجزء الخاص بها.
يتبع
المصدر: الفيس بوك صفحة
Comments
Post a Comment