الدكتور محمد الفنيش يتحدث في "مركز الحوار العربي" عن
"مالك بن نبى كما عرفته.. انسانا ومفكراً "
المكان: مقر "مركز الحوار العربي" بواشنطن، والزمان احدى أمسيات شهر رمضان المبارك (31/1/1996)، والحديث عن الفيلسوف الجزائري المعروف مالك بن نبى .. والمتحدث هو الدكتور محمد الفنيش.
استمرت الندوة لمدة تزيد على الثلاث ساعات.. وقد أعقب الحديث - كما جرت العادة - أسئلة الحاضرين وتعليقاتهم.. وكان الاهتمام بأفكار بن نبى بالغا.. وقد طلب الحاضرون أن يكون هناك لقاء آخر مع المحاضر لاستكمال الحديث والحوار وتم ذلك فعلا في سهرة أخرى (الاثنين 5/2/96).
لقد اكتسبت الندوة أهمية اضافية بسبب المعرفة الوثيقة للمحاضر بالمفكر الجزائري (الذي توفاه الله في 31/10/1973)، فقد ربطت الدكتور الفنيش بالأستاذ مالك علاقة روحية وفكرية عميقة ترجع الى سنة 1956 حين جاء بن نبى لاجئا الى القاهرة وكان الدكتور الفنيش وقتها طالبا في كلية التجارة بجامعة القاهرة، تشغله - كما شغلت الكثيرين من أبناء جيله - قضايا الاصلاح والتغيير في أوطانهم. وقد تعرف الطالب على الأستاذ في أعقاب العدوان العدوان الثلاثي على مصر وأقام معه - مع طالبين آخرين من شمال افريقيا - في بيت واحد جمع أربعتهم في منطقة الدقي. ولم تنقطع هذه الصلة بعودة محمد الفنيش الى ليبيا عام 1960 ثم سفره الى أميركا عام 1965، وعودة بن نبى الى الجزائر سنة 1963.. وتمت لقاءات كثيرة بينهما في طرابلس وفي الجزائر وفي أميركا.. الى أن رحل الأستاذ مالك عن هذه الدنيا..
لقد ألقى المحاضر ضوءا على أهمية هذه المرحلة في حياة بن نبى (النصف الثاني من الخمسينات وأوائل الستينات) وأثرها في انتشار فكره في العالم العربي والاسلامي. فقد عرف القراء والمهتمون بفكر بن نبى، الكثير عن حياته كما رواها هو في كتابه "مذكرات شاهد للقرن"، الذي صدر الجزء الأول منه (الطفل 1905 - 1930) أولا في الجزائر بالفرنسية عام 1966، ثم صدر الجزء الثاني (الطالب 1930 - 1939) في أوائل السبعينات، وقد ترجمه الأستاذ مالك بنفسه الى العربية. فقد توّقف مالك عند 1939 ولم ينشر شيئا عن بقية مراحل حياته وتطوراتها.. من هنا تأتي أهمية الحديث عن هذه المرحلة اللاحقة من شاهد قريب لسبين: لأن المعروف عنها بطريق مباشر محدود جدا.. ولأنها هي المرحلة التي بدأت فيها كتبه تنقل الى العربية وتصل الى المنطقة ويبدأ فيها هو اتصاله المباشر بالمشرق العربي مقيما وزائرا ومحاضرا.
أهمية فكر مالك بن نبى
في معرض الحديث عن دور مالك بن نبى وأهمية فكره والجوانب الانسانية فيه - ذكر المحاضر- فيما ذكر - النقاط العامة الآتية:
"1- مالك مفكر رائد وأصيل - صاحب منهج ونظرية فلسفية في الحضارة تتعدى أهمية فكره وعبقريته حدود العالم العربي والاسلامي - واذا كانت المعرفة بآثاره والتقدير لها مازالتا دون المستوى الذي تستحقه ويجب أن تكون عليه- فان ذلك يرجع أساسا الى أوضاع النخبة وعوامل الضعف التي تحيط بها في أوطاننا، والى أن جهات كثيرة - وبالأخص مراصد الاستعمار - كما كان يسميها مالك - ليس لها مصلحة في أن ينتشر فكر مثل فكر بن نبى.
2- بن نبى ليس كاتبا محترفا.. هو صاحب قضية.. التفكير والكتابة بالنسبة اليه كانتا سلاحه في المعركة.. هو ابن المستعمرات الذي اثقلت مأساة المستعمرين كاهله.. وهو العربي المسلم الذي هالته فداحة انحطاط أمته واستقالة حضارتها من التاريخ.. وهو الانسان وشاهد القرن العشرين الذي رأى أثار حربين عالميتين مدمرتين ويخشى من حضارة اتسع علمها وكثرت وسائلها وتخلف ضميرها، أن تنتهي بنفسها وبالعالم كله معها الى هاوية لا قرار لها ولا رجوع فيها... هو اذا صاحب قضية تهز المأساة الانسانية أعماقه، ليس مشغولا بترف عقلي زائد - ولكن يقدم فكرا يرتبط بمنهج يتصل بعمق المأساة الانسانية وصميم المشكلة الاجتماعية..
3- كانت صلته بالحضارات الغربية عميقة.. فقد عاش أغلب حياته في أوروبا.. ولكن جذوره ظلت متصلة ببلاده وبتاريخ أمته -. لقد كان دارسا "للحالة" الغربية لا يراها بعين السائح المبهور ولكن بعين الناقد الذي يعرف محاسنها ويعشقها.. ولكنه يحس أيضا بمساوئها ولا تغيب عنه مواطن الضعف فيها.. لم يكن بن نبى "عابر سبيل" كالكثيرين من جحافل الشرقيين الذي يقدمون الى الغرب فينتهي بعضهم الى حيث ترمي الحضارة نفاياتها.. ويعود بعضهم بلغة جديدة أو شهادة في فن من الفنون ولكن بدون فهم عميق لحضارة هذا الغرب وأصولها وجذورها.. سموها .. وبريقها..
3- جمع بن نبى الى جانب صرامة العقل المنهجي المولع بتحليل الظاهرة الاجتماعية ودقة المهندس والنفس الطويل للمؤرخ .. شفافية روح المؤمن وتفانى الداعية الذي كرس حياته كلها لقضية واضحة لا يحيد عنها .. وهذا مزيج لا يتيسر بسهولة.
4- أشك أن أحدا في العالم الثالث فهم وسائل الاستعمار وأساليبه وقضية "الصراع الفكري في بلاد المستعمرات" كما فهمها وعاشها مالك بن نبى.
5- حين نتحدث عن مالك بن نبى فاننا لا نتحدث عن رجل عاش حياته يبحث عن مغنم قريب أو بعيد في دنيا الناس.. ولكننا نتحدث عن رجل تقي نقي من الصالحين الذين ينظرون بنور الله. ولا أظنه - ان شاء ربه - الا أن يحشر في زمرة المجاهدين والشهداء وحسن اولئك رفيقا.. ولا أظنني عرفت من قريب أو بعيد رجلا شغلته قضية عامة انشغال مالك بقضية أمته.. وهذه شهادة انسان عرف مالك عن قرب وعاش معه وسافر معه.. وامتدت صلته به الى آخر سنين حياته".
لقطات من السيرة الذاتية
كان لما نشره احسان عبد القدوس في نهاية 1956 بمجلة (روز اليوسف)- وكذلك مصطفى محمود- عن اللقاء بالمفكر الجزائري والحديث عن أفكاره، دور مهم في بداية التعريف به فقد حفز ما نشر عددا من الطلبة المهتمين، للبحث عنه ومحاولة التعرف على أفكاره التي وجدوا فيها جديدا يختلف عما عهدوه في تلك الفترة. وكان من بين هؤلاء الأستاذ عمر كامل مسقاوي (وزير النقل حاليا في لبنان)، والدكتور عبد الصبور شاهين (الأستاذ في جامعة القاهرة)، والدكتور عبد السلام الهراس / أستاذ الأدب الأندلسي في جامعة فاس، والدكتور محمد الفنيش ... وكان لهؤلاء وغيرهم من الطلبة دورا مهما في التعريف بمالك ونشر أفكاره. فقد تولى عمر مسقاوي جزءا من الترجمة والاشراف عليها كما تولى نشر الكتب بعد وفاة الأستاذ مالك.. وترجم عبد الصبور شاهين عددا من الكتب.
توثفت صلة بن نبى بالكثيرين من الطلبة الوافدين على القاهرة للدراسة من مختلف البلاد العربية. وكان بعضهم يتوافد على البيت الذي يقيم فيه للاستماع اليه كما ألقى العديد من المحاضرات في نوادي الطلبة كبيت الطلبة العرب، ونادي الطلبة المغاربة، ونادي الطلبة الفلسطينيين.
بدأت ترجمة كتبه الى العربية في 1957 وكان أولها "شروط النهضة" الذي سبق أن نشر بالفرنسية في باريس عام 1947.. وأعقب ذلك كتاب "الظاهرة القرآنية"، و"وجهة العالم الاسلامي". ثم بدأ كتابة بعض كتبه بالعربية مباشرة.. وطبعت له وزارة الاعلام المصرية في القاهرة كتاب "فكرة الأفريقية الأسيوية" بالفرنسية، وهو من البحوث النادرة التي حاولت تأصيل هذه الفكرة ودورها في المستقبل في عالم يسوده معسكران قويان، ومكان العالمين العربي والاسلامي ودورهما داخل هذا الاطار.
سافر الأستاذ مالك لأول مرة الى سوريا ولبنان في صيف 1959 يصحبه في هذه الرحلة الدكتور الفنيش والتقى هناك بعدد من المفكرين والكتّاب وألقى عددا من المحاضرات في دمشق وبيروت وطرابلس وحلب.. ونشرت هذه المحاضرات بعد ذلك في كتابه (تأملات). ودعي مرة أخرى سنة 1960 من طرف "الاتحاد القومي" ليلقي محاضرتين في دمشق وحلب نشرتا أيضا في نفس الكتاب..
واستمرت صلته بهذين البلدين، فقد سجل وصيته في المحكمة الشرعية في طرابلس وحمّل فيها عمر مسقاوي مسؤولية نشر كتبه(1971). ثم عاد في عام 1972 فمر بدمشق وهو قافل من رحلة الحج الأخيرة ليلقي محاضرتي الوداع هنالك.. كانت الأولى في 28 آذار/مارس 1972، تحت عنوان (دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين) في رابطة الحقوقيين، والثانية (رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين) في مسجد المرابط.
زار الأستاذ مالك ليبيا مرات عديدة منذ نهاية الخمسينات وربطته بالكثيرين من شبابها وكتابها صلات فكرية وصلات ود ومحبة وأجرى في هذه الزيارات الكثير من اللقاءات، والقى العديد من المحاضرات في مؤسسات مختلفة، كما تم زواجه الثاني من سيدة جزائرية في طرابلس في 1961 وقد رزق منها بثلاث بنات (لم يرزق بأولاد من زوجته الأولى الفرنسية التي رافقته أغلب رحلة عمره منذ أيام الدراسة الأولى في باريس). وكانت رحلته الأخيرة الى طرابلس/ليبيا في صيف 1972.. وكان يحس وقتها بأنها رحلة الوداع..
زار الولايات المتحدة الأميركية سنة 1971 وألقى عددا من المحاضرات في تجمعات الطلبة العرب والمسلمين في عدد من الولايات..
عاد الى الجزائر بعد الاستقلال عام 1963 حيث عين مديرا للتعليم العالي وأصدر هناك عدة كتب من أهمها "آفاق جزائرية"، "مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي"، و"المسلم في عالم الاقتصاد". وقد استقال من منصبه عام 1967 وتفرغ للعمل الفكري الى أن اختاره الله الى جواره".
مشكلة حضارة...
ترك مالك بن بنى أكثر من 16 كتابا في مواضيع هي في غاية الأهمية خاصة بالنسبة للعالمين العربي والاسلامي والعالم الثالث عموما. وليس من المتيسر بالطبع - في حديث واحد - يتضمن أيضا عرضا لجوانب من السيرة الذاتية لصاحب الأفكار، ايفاء فكر بن نبى - في جوانبه المختلفة - حقه.
لقد رأى المحاضر الدكتور محمد الفنيش أن يركز على نقطة أساسية هي مشكلة الحضارة والدورة الحضارية.. فقد أبرز بن نبى مشكلة العالم المتخلف باعتبارها قضية حضارة أولا وقبل كل شيئ ووضع كتبه تحت عنوان "مشكلات الحضارة".
لقد عاب بن نبى على حركة الاصلاح والنهضة التي بدأت في العالم الاسلامي منذ آواخر القرن 19، قصورها في فهم المشكلة الأساسية رغم أن بعض أفكارها مكنت من المحافظة على القيم الاسلامية لمواجهة ثقافة الغرب. فهذه الحركة الى حد بعيد كانت "ترمي أن تجهز المجتمع الاسلامي بالوسائل الملائمة للدفاع عن ذاته أو تبرير نفسه بدلا من أن تقوم بتحويل الشروط الواقعية والأساسية لهذا المجتمع" وبدلا.. "أن تترجم الجهود الذهنية عن نفسها في صورة مذهب دقيق للنهضة ومنهاج منسجم.. كانت تنطلق في صورة شعلات دفاعية أو جدالية.."
لقد نجحت بلاد أخرى، بدأت بوادر حركة النهضة فيها بعد منطقتنا - لأنها اتخذت موقفا مختلفا في مواجهة مشكلاتها. فاليابان مثلا وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ واختارت النموذج الغربي وهي تعلم ما هو جوهرى وأساسي في اختيارها. أما العالم الاسلامي فانه وقف من هذه الحضارة موقف (الزبون) الذي يشترى منتجات هذه الحضارة ويكدسها. فأنشأ بذلك ما يمكن أن يسمى "حضارة شيئية" نتجت عن تكويم منتجات حضارات آخرى. وفي ذلك بالطبع عكس أساسي للمنطق "فالحضارة تلد منتجاتها وليس العكس" وهنالك بالطبع استحالة كيفية واستحالة كميّة لشراء حضارة أو بنائها عن طريق تكديس منتجاتها. اذا السؤال هو كيف يمكن تركيب حضارة وفي زمن معين وهو يرى أن كل حضارة تتكون من عناصر ثلاث (الانسان والوقت والتراب) وهذه العناصر تتوفر لدى كل المجتمعات. ولا بد اذن من التعامل مع هذه العناصر الثلاث الأساسية. والانسان بالطبع هو المفتاح الحقيقي وهو القاعدة التي تقوم عليها الحضارة والتاريخ يعلمنا أنه لا بد من "فكرة" تحرك الانسان وتدفعه لكي يتفاعل مع العنصرين الآخرين.. أي يستخدم عالمه المادي في اطار الزمن. و"الثقافة" هي لحمة الحضارة، وهي في تحليله تتكون من أربعة عناصر (المبدأ الأخلاقي - الذوق الجمالي - المنطق العملي- والتقنية) وهي التي تركب العناصر الأساسية للحضارة وتعطيعها طابعها واتجاهها بفعل المكونات الأساسية التي يمثلها المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي... فعند نقطة انطلاق أية حضارة ليس هناك سوى المبدأ أو الفكرة والعناصر الأساسية الثلاث.. وهو يحلل دورتين حضارتين (الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية) لاستخراج السر الذي يركب العناصر الثلاث...
وهو في دراسته هذه لا يقتصر على المعطيات التاريخية وانما يهتم ايضا بمقاييس التحليل النفسي.. "..ذلك ان المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة لا على أنها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل ك -ظاهرة- يرشدنا التحليل الى جوهرها، وربما يهدينا الى -قانونها- أي الى سنة الله فيها، هو القادر- فيما اعتقد- على أن يستجلي لنا بطريقة أوضح، الدور الايجابي الفعال للفكرة في تركيب تلك الواقعة. اذ يوضح لنا كيف تشرط هذه الفكرة سلوك الفرد وكيف تنظم غرائزه تنظيما عضويا في علاقتها الوظيفية ببناء احدى الحضارات".
وقد ذّكر المحاضر مستمعيه بأنه ليس هناك بديل - لفهم أفكار بن نبى واستيعابها - من قراءة كتبه قراءة متأنية متأملة.. وسيكتشف القارئ بأن ذلك كان استثمارا ثمينا لوقته..
==============================================================================================
مركز الحوار العربي
Comments
Post a Comment