حول التراث الحضاري للأمير عبد القادر الجزائري
نص حديث الأستاذ إدريس الجزائري في ندوة "مركز الحوار"
يوم الأربعاء 6 كانون الأول/ديسمبر 2000، أقام "مركز الحوار العربي في واشنطن" ندوة خاصة عن التراث الحضاري للأمير عبد القادر الجزائري، تحدث فيها سفير الجزائر السابق في واشنطن الأستاذ إدريس الجزائري (وهو حفيد الأمير عبد القادر الجزائري). وقد بدأ السفير الجزئري أمسية الحوار بالقول:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف عباده.
يطيب لي- ونحن نحتفل بشهر رمضان الذي باركه الله سبحانه و تعالى بقوله: " أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان" (صدق الله العظيم) - أن أحدثكم عن شخصية عربية إسلامية هي الأمير عبد القادر الجزائري الذي احتفلنا قبل أسبوع بذكرى 168 لمبايعته أميرا للجزائر في 27 نوفمبر 1832.
لقد ترك لنا الأمير عبد القادر تراثا حضاريا يعتز ويفتخر به العرب وجميع المسلمين على حد سواء .عمل في سبيل الله وكأنه "يموت غدا" وعمل لصالح الإنسان وكأنه "يعيش أبدا". فكان يجاهد من أجل إعلاء كلمة الله بإيمان قوي وعزم ثابت. كما كان يناضل من أجل وطنه وأمته لتحقيق العدل و المساواة بإخلاص كامل ونزاهة مثالية وروح إنسانية سمحاء . وهذه صفات رفيعة قلما اجتمعت في إنسان واحد .
إنني لا أهدف من حديثي هذا التغني بشخصية الأمير أو تمجيده، بل أريد أساسا أن أتكلم عنه ابتغاء في الدروس والعبر التي خلّفها لنا عسى أن نستفيد منها للخروج من متاهات الحاضر وحبا في مواهبه الأدبية والشعرية.
ولد عبد القادر بن محي الدين في عام 1807 وترعرع بين أحضان أمه لالا زهرة التي كانت من النساء المتعلمات والمتدينات حتى بلغ السابعة من عمره. ثم أخذه أبوه الشيخ محي الدين إلى زاوية القيطنة التي كان يديرها. وهي زاوية امتدت سمعتها من الإسكندرية شرقا إلى شنقيط جنوبا حيث كان العلماء والأئمة يفدون إليها للمزيد من العلم والمعرفة . وقام بعد استكمال دراسته في وهران بفريضة الحج رفقة أبيه.
ثم قاتل الأمير الغزو الاستعماري لمدة 17 سنة من 1830 إلى 1847.
وانتهى ذلك القتال بسبب عدم تكافئ ميزان القوة بين جيشه وجيش العدو وبسبب سحب دعم سلطان المغرب له تحت ضغط لا يطاق من فرنسا بموجب معاهدة طنجة في سبتمبر 1844. ومع أن فرنسا وعدته بنقله وأسرته إلى أرض إسلامية في الشرق، فإنها نقضت عهدها ونقلته إلى طولون ثم بو ثم امبواز في فرنسا حيث قضى خمس سنوات تحت إقامة جبرية.
ولكن نتيجة ضغوط دولية أطلق نابوليون الثالث سراحه. فذهب إلى بروسة بتركيا ومكث هناك، مدة ثلاث سنوات، إلى أن دمرها زلزال فانتقل الأمير بعد ذلك إلى دمشق حيث بقي فيها إلى أن وافته المنية عام 1883.
وكما قال أبو تمام:
"من الناس ميّت وهو حيّ بذكره وحيٌّ سليم وهو في الناس ميّت."
مازال الأمير حيّا في الأذهان والقلوب. وكيف لا وهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة - تلك الدولة التي برزت إلى الوجود بفضله بعد انهيار النظام العثماني.
كان الأمير فعلا فارسا مغوارا خاض معارك ضارية ضد الجحافل الفرنسية الغازية وبطولاته معروفة. ولكن قلّ ما قيل عن جوانب أخرى من شخصيته الفذة. فأثبت أولا وقبل كل شيء عبقريته كمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة.
فأمام تفاقم الأوضاع نتيجة انتهاك حرمات الشعب من قبل جيش العدو لجأ القوم إلى الشيخ محي الدين، أبي الأمير، ليقود المقاومة، وذلك لانتمائه لأسرة شريفة ولما كان له من أخلاق مثالية عالية ونفوذ واسع، وطلبوا منه أن يتولى أمرهم. ولكن هذا الأخير اعتذر نظرا لكبر سنه. وفضّل أن يرشح ابنه عبد القادر لما كان له من صفات قيادية نادرة.
وهكذا بوعظ من الشيخ محي الدين في ذلك اليوم الأغر أي 27 نوفمبر (تشرين الثاني)1832 اجتمع أعيان وشيوخ القبائل ومسؤولو الشعب والكثير من المواطنين الواعين في سهل "غريس" في ولاية معسكر عند شجرة "الدردارة" وطلبوا من عبد القادر ابن محي الدين أن يستلم حكم أمرهم. فقبل بهذه المسؤولية الجسيمة التي أسندت إليه مؤكدا على تمسكه بدولة القانون بقوله "سأحكم والقانون بيدي"، وكان قد أصر على أن تتمّ المبايعة إقتداء بالقرآن الكريم و السنة النبوية. قال الله سبحانه وتعالى بالإشارة إلى بيعة الرضوان عند شجرة أم غيلان " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينةَ عليهم وأثابهم فتحا قريبا" (صدق الله العظيم). وكانت المبايعة عبارة عن انتخاب شعبي شامل حسب العرف التقليدي آنذاك.
وقد تجدّدت هذه المبايعة في أنحاء أخرى، وعُقدت اجتماعات تأييد وولاء مماثلة كثيرة غمرت أغلبية الأراضي الجزائرية، تعبيرا بذلك عن الشرعية الوطنية لا الجهوية أو المحلية لتعيين الأمير، أمير الشرق والغرب وأمير الشمال والجنوب وأمير العرب والبربر.
ومن هذا المنطلق، شرع الأمير في تشييد هياكل الدولة الجزائرية الحديثة. ومن ضمن أهم الأعمال التي قام بها في هذا الصدد نذكر :
1- أنشأ المجلس الشورى العالي الأميري. وكان هذا المجلس يتألف من 12 عضواً كلهم من كبار العلماء والفقهاء وكان يرأسه قاضي القضاة. أما قرارات المجلس فكانت تصدر بإجماع أفراده.
2- إنشاء عدد من الوزارات كان يسميها "النظارات" فوضع على رأس كل نظارة وزيرا خاصا يدير شؤونها. ومن النظارات الهامة نجد نظارة الخارجية ونظارة المالية ونظارة الحربية ونظارة الأوقاف .
3- إنشاء نظام قضائي منقسم إلى فرعين : مدني وعسكري أي أن الجيش يخضع للقانون كما هو الحال بالنسبة للمدنيين.
4- قسّم التراب الوطني إلى ثماني مقاطعات نظرا لاتساع البلاد والغزو الفرنسي والمجهود الضروري تكريسه من أجل تنظيم وتوعية الشعب للكفاح. ونصَّب على رأس كل واحدة خليفة بدعم أهل المنطقة أنفسهم.
5- سبك عملة خاصة حتى يعطي للدولة استقلالها المالي.
6- ولحماية الشعب وهذه المؤسسات الوطنية قام بتكوين جيش منظم تنظيما دقيقا بلغ عدده ما يفوق 16 ألف جندي وقسم هذا الجيش إلى 3 فروع:
1- الخيالة.
2- الجيش المحمدي أو المشاة.
3- رجال المدفعية أو الرماة.
ولم تبرز عبقرية الأمير في إنشاء جيش منظم قادر على خوض المعارك ضد العدو فقط، بل أيضا في قدرته على التفكير الاستراتيجي المتكيف مع سير الحرب. ففي البداية كان الأمير يواجه العدو مباشرة في معارك طاحنة فكبَّده في البداية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات مثل ما وقع في معركة وادي المقطع.
ولكن نظرا لعدم تكافؤ ميزان القوى بين جيشه وجيش العدو، عمد الأمير إلى بناء حصون دفاعية في الهضاب العليا. ومن الجدير بالذكر أن هذه الحصون كانت بعيدة عن المدن حتى يتجنب إلحاق الضرر بالمدنيين. ومن أشهرها حصن تازا وسبدو وتاكدمت وبوغار.
ثم في مرحلة أخرى، لجأ إلى حرب العصابات المبنية على الكرّ والفرّ. وأدخل مفهوم العاصمة المتنقلة بزملاته التي بلغ عدد سكانها أكثر من 60 ألف نسمة من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ مع ممتلكاتهم المادية ومرافقهم الاجتماعية.
وتشكّل الدولة التي أنشأها الأمير أساس الدولة الجزائرية الحديثة للأسباب التالية:
1- تمّ انتخاب تعيين رئيس الدولة في شخص الأمير على أساس انتخاب شعبي شامل.
2- أقيمت أسبقية السلطة المدنية على السلطة العسكرية كما قال الأمير:
" ومن عادة السادات بالجيش تحتمي وبي يحتمي جيشي وتحرص أبطالي"
3- تمّ توحيد صفوف الشعب الجزائري على مبدأ الدين والقومية والمصير المشترك كما تمّ تعيين إطارات الدولة على أساس مقاييس موضوعية من الديانة والكفاءة بغض النظر عن أصلهم أو قبائلهم.
4- أقيم الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية.
5- تمّ الاعتراف بسيادة الجزائر من قبل دول العالم وحتى من قبل العدو بموجب معاهدة التافنة في أول جوان (يونيو/حزيران) 1837 قبل أن تنقض فرنسا عهدها.
لذلك فإن إعلان أول نوفمبر 1954 جعل استرجاع السيادة الجزائرية التي فرضها الأمير على الوجود هدفا رئيسيا له ولم يرمِ إلى إقامة سيادة لا وجود لها مسبقا. وفعلا كانت السيادة التي أعلن عنها الأمير مصدر إلهام للذين ناضلوا فيما بعد من أجل استرجاعها، أمثال شيخ بلحداد والمقراني ولالا فاطمة أنسومر وبوعمامة والأمير خالد وغيرهم من صناع الشخصية الجزائرية كالشيخ عبد الحميد بن باديس.
مازال الأمير حيا في الأذهان والقلوب وكيف لا وهو مثالنا في فهم الدين الحنيف وتفسيره تفسيرا صحيحا فاقتدى بمحي الدين بن عربي، الشيخ الأكبر، الذي كان قد تتلمذ بدوره على يد الصوفي الكبير أبي مدين شعيب من تلمسان وأصر الأمير على إيجاد وطبع المخطوط للفتوحات المكية لمحي الدين بن عربي الأمر الذي مكّن الإنسانية اليوم من الإلمام بهذا التراث الحضاري فلولاه لانقرض.
وكان هذا الرجل يقول إن فهم الإنسان في توحيد الإله إمّا أن يكون ظاهرا محضا فيؤدي به ذلك إلى التجسيم والتشبيه. وهذا مذموم ومذهبه باطل وإن استنبط ذلك من نصوص الشريعة. وإمّا أن يكون جاريا مع حكم الشريعة كما قال به السلف. وهذا هو الموقف السليم المحمود. وإمّا أن يكون باطنيا محضا يعتنق مبدأ الباطنية الذي يصرف النظر عن الشرع ويحكم على أساس شخصي بحت. وهذا المذهب كالظاهرية باطل لأنه يجرد التوحيد حالا وفعلا، ويؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع ويبني كل شيء على أسس إنسانية فقط.
ومن ثمة جاءت مواقف الأمير متميزة وأصيلة فكان يفضل حجة الإقناع في فصل النزاعات الدينية على الالتجاء إلى العنف كما قال:
" لو جاءني من سعى إلى طريق لقدته إليها يسرا لا بسيفي" .
أما استعمال القوة لفرض نظرية معينة في الدين فكان يرفضه لأنه وسيلة مخطئة. يرى الأمير أن كل إنسان مهما أتقن علوم الدين لابد أن تبقى المعرفة ناقصة لأن كمال العلم لله وحده سبحانه وتعالى لذلك فإذا فرض إنسان علمه على الآخرين بالقوة فسيفرض كذلك ولا محالة جهله عليهم في الوقت نفسه، وفرض الجهل بالقوة ضلال.
وكان الأمير يعتبر أن إتقان الفقه لم يكن هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتدعيم الإيمان والاقتراب من الله سبحانه وتعالى. ولذلك هدف إلى الاقتراب بالله سبحانه عن طريق الحب الشديد له. فاعتمد في ذلك على قول الإمام مالك رضي الله عنه بأن " من تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق". وعمل الأمير على تطوير حب الله سبحانه وتعالى، وهو هدف التصوف، فأصبح من أبرز زعماء هذا الارتقاء الديني في الإسلام وعبر عن موقفه هذا في كتابه "المواقف في الوعظ والإرشاد" وهو عبارة عن موسوعة تحتوي على 1500 صفحة في لغة عربية قحة.
مازال الأمير حيا في الأذهان والقلوب وكيف لا وكان من أنصار الحوار بين الحضارات الذي تنادي به الأمم المتحدة اليوم. وهذا ما يثبته تبادل المراسلات الكثيف والشامل مع اللواء الفرنسي دومة حول التقاليد الإسلامية ودور المرأة في المجتمع في مناظرة ثرية وجّه اللواء فيها عشرين سؤالا للأمير. وكانت تتعلق هذه الأسئلة بالمساواة بين الرجل والمرأة والميراث والطلاق والحق.
كما تحاور مع كبار الأساقفة الكاثوليكيين ومنهم الأسقف دو بوش، رئيس الأساقفة في الجزائر. وتبادل في حينها أيضا مراسلات مع حركات مضادة للكنيسة منها الماسونية. ولا يعني قبول الأمير هذا الحوار انسياقه مع وجهة نظر خصمه المناظر. ومع ذلك استغلّ بعض الاستعماريين تفتحه للحوار لخدمة مصالحهم الخاصة. وهكذا ادّعى البعض تارة أنه أصبح حليفا لفرنسا ومال لدينها أو تارة أنه انضم إلى الماسونية. فلا بد إذن من تنقيح التاريخ من هذه التشويهات.
وقد انعكس تسامح الأمير وتفتحه للحوار في الرسالة الإنسانية التي خلفها للعالم. وهي رسالة تمركزت على فكرة حقوق الإنسان. والجدير بالذكر أن الأمير أعلن ضرورة احترام تلك الحقوق قبل استعمال المصطلح نفسه.
فكان يعطف فعلا على المسؤولين الجزائريين، ويشفق عليهم عند التقصير بحسن النية عن واجباتهم. كما كان متسامحا مع إطارات الدولة النزيهة اعترافا للوقت والموارد التي كرستها الدولة لتكوينهم. وكذلك كان يتعاطف حتى مع الأسرى من جنود العدو. هذا وأنه عمل على إنقاذ الجالية المسيحية من الموت على يد الدروز في دمشق عام 1860، فنال بذلك إعجاب وتقدير العالم. كما قلّدته دول كثيرة أوسمتها اعترافا بدوره الرائد في الدفاع عن حقوق الإنسان. وأمام هذا الإعجاب كان الأمير يرى بأن موقفه بات طبيعياً لكونه مبنياً على عقيدته الإسلامية، وقد قال الله تعالى: " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (صدق الله العظيم)
إن موقف الأمير هذا كان متزامنا مع موقف هنري دونان الذي أدى إلى فكرة الصليب الأحمر. فلا جدال إذن في أن الأمير كان من المفكرين الأوائل الذين بشّروا بهذا المفهوم لحقوق الإنسان.
وحبذا لو بقي هذا المفهوم مطبقا بإخلاص في عالمنا اليوم بدلا من أن يستعمل استعمالا انتقائيا من قبل الدول القوية على حساب الشعوب الضعيفة لأغراض سياسية خاصة. فنحن مثلا وللأسف نرى الدول التي تدعي بإعلاء حقوق الإنسان كيف تتجاهل الحقوق نفسها عندما تكون الضحية الشعب الفلسطيني. وهو يدفن يوميا أبناءه من أولاد الحجارة رحمهم الله.
مازال الأمير عبد القادر حيا في الأذهان والقلوب وكيف لا وهو الأديب البارز الذي ساهم في التراث الحضاري العالمي مساهمة معتبرة، فبالإضافة إلى كونه رجل دولة ودين وحوار عُرف في النثر بكتابين معروفين. أولهما هو "المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد" وفيه نقد لأخلاق الغرب وعدم وفائهم لعهودهم له على عكس أخلاق المسلمين. كما هدف الأمير في هذا الكتاب الذي ألفه وهو أسير في أمبواز، إلى تصحيح المغالطات حول العرب والإسلام التي كانت منتشرة آنذاك في فرنسا. أمّا كتابه الثاني فهو " ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" الذي ألفه في بروسة في تركيا، وهو عبارة عن أجوبة لأسئلة طرحها عليه مجمع علمي فرنسي يدعى "الجمعية الآسيوية". وكانت هذه الأخيرة قد اختارت الأمير عضوا مراسلا لها. ناقش الأمير في هذا الكتاب قيمة العلم والعلماء بين الناس، كما تحدث فيه حول عولمة العلم مما يثبت حداثة فكره.
أمّا إنتاجه الشعري فقد جمع ابنه الأمير محمد أغلبيته في كتاب " نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر" وهو ديوان يشمل على قصائد متنوعة المواضيع. فنجد فيه شعر الفخر والحماسة كتلك القصيدة التي تشير إلى دور القيادة في فرض الهوية الوطنية والدفاع عن مكاسبها حيث قال:
" ومنا لم يزل في كل عصر رجال للرجال هم الرجال
لهم همم سمت فوق الثريا حماة الدين دأبهم النضال"
ومن القصائد المشهورة تلك التي يمدح فيها جيشه ومطلعها :
" لنا في كل مكرمة مجال ومن فوق السباك لنا رجال
ركبنا للمكارم كل هول وخضنا أبحر ولها زجال
إذا عنها توانى الغير عجزا فنحن الراحلون لها العجال"
وللأمير قصائد دينية هي امتداد لتأمله الصوفي. نجده مثلا يبرز الفرق بين الظاهر والباطن في الدين كما يبرز الخلاف بين الإيمان الحقيقي والتظاهر الديني. ويشير إلى ذلك في قوله عن مكة المكرمة:
"مكة ذي خير البلاد فديتها فما طاولتها الشمس يوما ولا النسر
فيها كعبتان: كعبة طاف حولها حجيج الملاء بل ذاك عندهم الظفر
وكعبة حجاج الجناب الذي سمى وجل فلا ركن عندهم ولا حجر"
ثم نجد قصائد الحب والعشق التي كان الأمير يوجهها إلى زوجته خيرة بنت سيدي علي بو طالب والتي كان كثيرا ما يناديها بأم البنين. كما كان يعطي المدن الجزائرية ذات القيمة الاستراتيجية الهامة صفة الفتاة العفيفة ويضعها موضع عشقه وإعجابه. وهكذا ألف تلك الأبيات الجميلة حول مدينة تلمسان فقال:
" إلى الصون مدت تلمسان يداها ولبت وهذا حسن صوت نداها
وقد رفعت عنها الإزار فلج به وبرد فؤادا من زلال نداها
وذا روض خديها، تفتق نوره فلا ترضَ من زاهي الرياض عداها
ويا طالما صانت نقاب جمالها عداة، و هم بين الأنام عداها
وكم رائم رام الجمال الذي ترى فأرداه منها لحفظها ومداها
وحاول لثم الخال من ورد خدها فضنت بما يبغي وشط مداها
وكم خاطب لم يدع كفئا لها، ولم يلثم طرفا من وشي ذيل رداها
وآخر، لم يعقد عليها بعصمة وما مسها مسا إبان رضاها
ولم تسمح العذرا إليه بعطفة ولم يتمكن من جميل سناها"
***
هذا وقد أظهر الأمير حبه الفطري للبادية التي كان يستلطفها لبساطتها وصفائها وجمالها. والقصيدة المشهودة حول البادية عبارة عن الحنين إلى بلاده الذي شعر به وهو تحت الإقامة الجبرية في أمبواز. قال الأمير فيها:
"يا عاذرا لامرىء قد هام في الحضر وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتا خف محملها وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
أو كنت أصبحت في الصحراء مرتقيا بساط رمل به الحصباء كالدرر
أو جلت في روضة قد راق منظرها بكل لون جميل شيق عطر
تستنشقن نسيما طاب منتشقا يزيد في الروح لم يسرِ على قذر
أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه علوت في مرقب أو جلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها سربا من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيا لها وقفة لم تبقِ من حزن في قلب مضنى ولا كدا لذي ضجر
***
قال الأولى قد مضوا قولا يصدقه نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في بيتين رونقه بيت من الشعر أو بيت من الشعر
أنعامنا إن أتت عند العشي تخل أصواتها كدوي الرعد بالسحر
سفائن البر بل أنجى لراكبها سفائن البحر كم فيها من الخطر
لنا المهارى وما للريم سرعتها بها و بالخيل نلنا كل مفتخر
فخيلنا دائما للحرب مسرجة من استغاث بنا بشره بالظفر
نحن الملوك فلا تعدل بنا أحدا وأي عيش لمن قد بات في خفر
لا نحمل الضيم ممن جار نتركه وأرضه و جميع العز في السفر
وان أساء علينا الجار عشرته نبين عنه بلا ضر و لا ضرر
تبيت نار القرى تبدو لطارقنا فيها المداواة من جوع ومن خصر
عدونا ماله ملجا ولا وزر وعندنا عاديات السبق و الظفر
شرابها من حليب ما يخالطه ماء و ليس حليب النوق كالبقر
أموال أعدائنا في كل آونة نقضي بقسمتها بالعدل والقدر
ما في البداوة من عيب تذم به إلا المروءة والإحسان بالبدر
وصحة الجسم فيها غير خافية والعيب و الداء مقصور على الحضر
من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدا فنحن أطول خلق الله في العمر"
وعلى الرغم من أن هناك اهتماما متزايدا بمعرفة تراث الأمير الديني والأدبي والشعري فإن إنتاجه الفكري هذا في حاجة إلى دراسات معمقة نظرا لغنى مضمونه وتنوع مواضيعه. إن هذا الإنتاج مازال ينتظر بحث الباحثين وتنقيب الناقبين، وكأنه ينادينا في حد تعبير حافظ إبراهيم و يقول لنا:
" أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟"
إن شخصية الأمير إذا شخصية متنوعة الجوانب. جمعت فعلا الرؤية السياسية والعلمية والدينية والأدبية. وتبلورت في بطل اشتهر بالسيف والقلم على حدّ سواء.
ومع ذلك فإن الأمير يبقى مثالا في التواضع إذ أنه لم يكن يطلب الشهرة من وراء عمله، وإنما كل ما قام به كان في سبيل الله ومن أجل الأجيال القادمة ومصلحة الإنسانية جمعاء. كما يظهر ذلك من الأبيات التي كتبها على حصن تازا، ذلك الحصن المنيع الفخم الذي يظهر و كأنه أزلي الوجود.
"ولم يكن مني هذا على الأمل الطويل دليلا
كلا وأن منيتي لقريبة مني وأكون في التراب جديلا
ورضى الإله هو المنى ليكون من بعدي انتفاع الخلق ثم طويلا"
و شكرا على إصغائكم و السلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته.
==============================================================================================
مركز الحوار العربي
Al-Hewar Center – Founded on December 18, 1994 –
24 Years Serving the Arab-American Community
24 سنة في خدمة المعرفة الفكرية والثقافة العربية وقضايا الجالية والعرب في أميركا
***
Comments
Post a Comment