المصالحة المنتظرة
اليان مارون ضاهر
كان أبو فادي يملك قطعة أرض صغيرة، بنى فيها بيتاً وزرع محيطها بالأشجار والأزهار... وكان يعيش بسلام مع عائلته، زوجته وأولاده وزوجاتهم وأحفاده، ومع جيرانه أيضاً... وكان الجوّ السائد يمتاز بالألفة والوفاق...
وفي يوم أسود، علم أبو سام أنّ هنالك كنزاً كبيراً في قطعة أرض أبو فادي... وأراد الحصول عليه بكلّ الطرق... فحاول أوّلاً إغراء أبو فادي بالمال، وعرض عليه مبلغاً ضخماً، كما عرض عليه أن يُعطيه قطعة أرض ليُقيم عليها منزلاً جديداً، ولكنّ أبو فادي المتجذّر بأرضه، والمتعلّق بأروقة منزله، والمعتاد على رائحة حقله رفض.
فكّر أبو سام كثيراً، علّه يجد طريقة لا يُثير بها الشبهات، يأخذ بها أرض أبو فادي ويتمتّع بالكنز الضخم. وفي النهاية، وجدها.
قام ببث الفتنة بين أبو فادي وكلّ جيرانه، وبات ينشر الشائعات والأقاويل الى أن تخلخلت العلاقة بينهم.
عندها حاول مجدّداً شراء الأرض، ولكنّه اصطدم بالجواب نفسه...
فانتقل الى الجزء الثاني من الخطّة الشيطانية، وقام بقلب أولاد أبو فادي على بعضهم، ولم يفهم الوالد ماذا يحدث، فهو الذي انشأ أولاده على حبّ بعضهم قبل كلّ شيء، وها هو يشهد على خلافاتهم اليوميّة والتي ربّما لو لم يكن موجوداً، لكانت تطوّرت لأكثر من خلافات كلامية...
وتحوّلت قطعة الأرض هذه، والتي كانت أشبه بالجنّة، أو "بقطعة سما" الى ما يُشبه قطعة من الجحيم على الأرض، بسبب ما لحق بها من دمار وخراب، وبالأكثر بسبب ما بات يشعر به أصحابها تجاه بعضهم.
وبقي أبو سام مترقّباً، يُشاهد الخلافات تزداد، ويُغذّيها مستتراً، ثمّ يظهر كمصلح ويركض مدّعياً رغبته بجمع الأطراف المتصارعة وإعادة الألفة بينهم.
وما زاد في الطين بلّة، توسيع دائرة الخلاف، فبات الجيران منقسمون مع أهل البيت، حيث وقف جزء مع كلّ ولد بدل أن يَسعوا لجمعهم وإعادتهم الى الصواب والمنطق والعقل.
ومات أبو فادي وفي قلبه حرقة، وفي نفسه قلق واضطراب على ما سيحدث بعد رحيله، وما سيحلّ بأولاده وأرضه. واستمرّ الإقتتال الى ما لا نهاية، ولم يجرؤ أي طرف على التراجع أوّلاً خوفاً من أن يقوم الطرف الآخر بالقضاء عليه نهائيّاً.
وغريب كيف تمكّن هذا البائس أبو سام من تسميم أفكار الأشقّاء، بحيث باتوا يخافون من بعضهم ويكرهون بعضهم حتّى بدأوا يُربّون أولادهم على هذه المشاعر السوداء المقرفة... وكبر الأولاد، ودخلوا في المعركة أيضاً...
وقدم أغراب من الضيع المجاورة حتّى للمشاركة في المعارك التي كان يبدو أنّها ستستمرّ الى ما لا نهاية...
وعندما أنهك الإقتتال عائلة المرحوم أبو فادي، فوّض أبو سام رجله أبو عبد من مملكة قريبة، وكان قد أوهمه أنّه صديقه، فوّضه حتّى يجمع أولاد أبو فادي حول صحن "قطايف" ويُصلح بينهم...
ظاهريّاً فقط، فما إن قبل الأولاد بهذه التسوية، حتّى تمّ إقصاؤهم وفبركة الأفلام والإتهامات ضدّهم، فمات منهم من مات، وسُجن من سُجن ونُفي من نُفي...
وأبو سام يترقّب نضوج الظروف لكي ينقضّ على ما تبقّى من قطعة الأرض هذه... وبعد مرور زمن ليس بقصير، عاد الوعي الى أولاد أبو فادي بأعجوبة، وفهم بعضهم المخطّط الجهنّمي الذي كانت تُخيطه لهم أيادي العنكبوت أبو سام...
وحاولوا إعادة المياه الى مجاريها، سرّاً في البدء حتّى لا يتمّ تفشيلهم، ولاحقاً لم يهتمّوا لمن يعلم أو لا...
الإقتتال انتهى، والحمد لله، ومن بقي من أحفاد أبو فادي يُديرون قطعة الأرض هذه، ولكن المشكلة، هي رغم أنّ بعضهم بات اليوم يتمتّع بوعي كاف وقدرة على القراءة ما بين السطور واستشعار المخاطر والمؤامرات الخارجيّة، إلّا أنّ البعض الآخر لا يزال يحمل في أعماق أعماقه الحقد والكره الذي تربّى عليه، ورغم كلّ محاولات المصالحة، والمصالحات الوهمية، أو الآنية أو الاستراتيجيّة، إلّا أنّ المصالحة الأولى هي التي تبدأ من الداخل، من الإقرار بأن الجميع أخطأوا، ولا يُريدون العودة الى الخطأ نفسه...
ولا زلنا ننتظر المصالحة الحقيقيّة، على أمل ألّا تكون "الف" المصالحة ركيكة أو مزيّفة وتصبح "مصلحة"... ولا يزال أبو سام يترقّب... فمن سيحصل على مبتغاه؟
اليان مارون ضاهر
Comments
Post a Comment