الهُروبُ إلى الأَمام مِن .. حَلايب! .. بقلم/ كمال الجزولي
(1)
أوجز الفاروق عمر "رضي الله عنه" مفهوم "السُّلطة السِّياسيَّة" في الإسلام، بقوله: "ولاَّنا الله على الأمـَّة لنسـدَّ لهم جوعتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم". يترتَّب على هذا الفهم المدني الواضح لطبيعة الدَّولة في الإسلام أن محاولة الحاكم التستُّر خلف "قيم عليا"، دينيَّة كانت أم دنيويَّة، يروغ بها عن صعوبات المجابهة المستقيمة مع مسؤوليَّاته العمليَّة المفترضة على صعيد مصالح المحكومين وشواغل حياتهم، يعدُّ "هروباً" صريحاً، وإن يكن إلى "الأمام"!
خذ عندك، مثلاً، حديث حسبو محمد عبد الرحمن، نائب رئيس جمهوريَّة السُّودان، ومسئول القطاع السِّياسي للحزب الحاكم، والذي أدلى به أمام مؤتمر أحد قطاعات حزبه، في 12 سبتمبر الجَّاري، حيث هالَ عامَّة المسلمين وخاصَّتهم بمفارقته الصَّادمة لكلِّ ما تراكم لديهم من مدارك عن مقاصد الإسلام الكليَّة. فقد صعد الرَّجل المنبر، لا ليعترف بأنهم قد حقَّ عليهم "اعتزال" الأمَّة التي "أعجزهم" سـدُّ جوعتها، وتوفير حرفتها، وأقدموا، فوق ذلك، على زيادة أسعار معاشها، حتَّى إذا راحت تصرخ جزعاً، فتحوا عليها جحيم بنادقهم فأردوا المئات قتلى وجرحى مضرَّجين بزكيِّ النجيع، ولكن ليقول، لا فضَّ فوه: "ما جئنا لنطعم الناس ونسقيهم ونوفر لهم الكهرباء والزلط، وإنما لنرسِّخ المعاني التي نؤمن بها .. فنظامنا صمد لأنه ربط قيم السَّماء بالأرض!" (المجهر ـ ألوان؛ 13 سبتمبر 2014م). وليت الرَّجل اهتمَّ، مقدار قلامة ظفر، بتوضيح جليَّة تلك "المعاني" التي يؤمنون بها، أو كيفيَّة "ترسيخها"، لولا أن كلَّ همِّه قد انصبَّ على "الهروب إلى الأمام" من هذا العجز البائن!
وقياساً على ذلك، لئن كان النظام غير عابئ، أصلاً، بالقضايا "الاجتماعيَّة"، من طعام وشراب وكهرباء وظلط، ويسارع للهروب إلى الأمام كلما ووجه بشئ منها، فليس لأحد أن يستغرب هروبه للإمام، من باب أولى، عند مجابهته بالقضايا "الوطنيَّة"، كبُرت أم صغُرت، وأبرزها قضيَّة "مثلث حلايب" التي عادت تطفو، مؤخَّراً، على سطح الأخبار، بمناسبة الحديث، كالعادة، عن الانتخابات، وعن تقسيم الدَّوائر الانتخابيَّة.
(2)
وحدها الانتخابات هي التي أضحت تقرع، في مواسمها، جرساً عالياً بسيرة هذا المثلث الشامل لبلدات "حلايب ـ شلاتين ـ أبو رماد"، والكائن على حدودنا الشَّماليَّة الشَّرقيَّة مع البحر الأحمر، وتبلغ مساحته 20,580 كيلو متر مربَّع، ويقطنه حوالي 200.000 نسمة من قبائل البشاريين والعبابدة السُّودانيين، وظلَّ، إلى أواسط تسعينات القرن المنصرم، يرفرف عليه علم السُّودان، ويُتعامل فيه بالعملة السُّودانيَّة، ويحرسه الجيش السُّوداني، ويمثل، تقليديَّاً، دائرة انتخابيَّة تبعث بنائب عنها إلى برلمانات السُّودان المتعاقبة. كان ذلك قبل أن تضع "الشَّقيقة" مصر يدها عليه، وتحتله بعد إجلاء القوَّة السُّودانيَّة عنه عام 1992م، ثمَّ تضمُّه إليها عام 1995م، في عقابيل افتضاح تورُّط نخبة الخرطوم الحاكمة في محاولة اغتيال الرَّئيس المصري، وقتها، حسني مبارك.
وهكذا، ما أن يحلَّ الموسم، ويصلُّ جرس الانتخابات، حتَّى يجد "نيام أميَّة" أنفسهم مرغمين على الإفاقة، يمضمضون شفاههم بكلمتين ظاهرهما الحدب على أرض الوطن، وباطنهما الهروب إلى الأمام، تفادياً لمسؤوليَّتهم التاريخيَّة عن استعادتها من الأيدي "الشقيقة"! ثمَّ ما أن ينقضي الموسـم، وتُلملم زكائب القصاصات، وورق الدِّعاية، والصَّناديق "المخجوجة"، حتى ينفضوا أيديهم عن الأمر كله، ويديروا ظهورهم للقضيَّة برمتها، وتعود ريمة لعادتها القديمة إلى حين انتخابات أخرى!
وقد حدث في 2009م أن رضخت الحكومة لاعتراضات مصر على شمول الانتخابات السُّودانيَّة للمثلث، باعتبار تبعيَّته لـ "السَّيادة المصريَّة" .. كذا، فقرَّرت استتباعه لدائرة "أوسيف"، بدلاً من أن يكون، كما ظلَّ دائماً، دائرة مفردة! لكن، حين طعن مؤتمر البجا ضدَّ ذلك الإجراء، اكتفت مفوَّضيَّة الانتخابات، وهي، نظريَّاً، هيئة مستقلة إداريَّاً وماليَّاً، بإعلان العودة لاعتماد المثلث دائرة جغرافيَّة مفردة، تاركة التنفيذ، بطبيعة الحال، للحكومة! غير أن مصر أقامت الدُّنيا، ولم تقعدها، رافضة إجراء أيِّ انتخابات في المثلث، سواء بإلحاقه بأوسيف، أم باعتباره دائرة مفردة، فإذا بالحكومة تتراجع، وتلزم .. الصَّمت!
عقب ذلك قام موسى محمد احمد، رئيس مؤتمر البجا وجبهة الشَّرق، ومساعد رئيس الجمهوريَّة، من جهته، بعقد مؤتمر صحفي، في الذكرى الثالثة لإبرام "اتفاق الشَّرق بأسمرا ـ 2006م"، حيث جدَّد مطالبتهم بإحالة ملف حلايب إلى التحكيم الدَّولي بلاهاي، معلناً أنه سيتناول القضيَّة مع الحكومة المصريَّة لدى زيارة كان يعتزم القيام بها للقاهرة مطلع نوفمبر 2009م. لكن السُّلطة، ما أن علمت بنواياه تلك، حتى سارعت إلى منعه من زيارة القاهرة، بتاتاً، لا بصفته الرَّسميَّة، ولا الحزبيَّة، ولا حتى للعلاج!
(3)
الشَّاهد أن إعلان المفوَّضيَّة المار ذكره كان بمثابة المهماز الذي أيقظ "أمَيَّة" من سُباتها، فانطلق سادتها يتبارون، كالعادة، في الهروب إلى الأمام! وصفه أمين حسن عمر بأنه "خطوة طبيعيَّة وإن تأخرَّت"! وأضاف، كمن يدفع، في اللاوعي، اتهاماً ما: "حلايب سودانيَّة دون نقاش"! لكنه، مع ذلك، انقلب يتلجلج قائلاً إن هذا ليس من اختصاص حكومته، بل "من اختصاص المفوَّضيَّة!" (سودانايل عن "الشروق" القاهريَّة، 15 أكتوبر 2009م)؛ فانظر كيف تستحيل "السَّيادة" مسألة "فنيَّة" تتحمَّلها المفوَّضيَّة المسكينة! و"دعا" إبراهيم غندور مصر لـ "تمكين" مواطني المثلث من "المشاركة في الانتخابات!" (المصدر نفسه)؛ فلكأنَّ "تمكين" المواطنين من ممارسة "حقوقهم" في وطنهم المغتصب مِمَّا يمكن تحقيقه بمحض "مناشدة" الغاصب! أمَّا كمال حسن علي، سفير السُّودان بالقاهرة، فقد جاء هروبه تهافتاً بسعي حكومته، حتَّى قبل استعادة حلايب، "لجعلها منطقة تكامل بين الشَّعبين!" (شبكة الشُّروق؛ 25 مايو 2013م)، وأمَّا مصطفى عثمان، فقد أبدع في الهروب، بقوله: "نحن (لا نريد!) أن تكون حلايب (قضية خلافيَّةّ!) مع مصر!" (سودانايل ـ نقلاً عن "الشـروق" القاهريَّة، 16 أكتوبر 2009م)؛ واعجـب لحاكم "لا يريد!" أن يكون "احتلال!" جزء من تراب بلاده "محلَّ خلاف!" مع "المحتل"!
بالمقابل، لم يُجدِ شئ من كلِّ هذا في إلهاء الحكومة المصريَّة، وقتها، عن التَّشديد، بأعلى صوت، وبأقوى نبرة، على أن قضيَّة حلايب "محسومة نهائيَّاً!" كونها "أرضاً مصريَّة!" (المصري اليوم، 17 يوليو 2010م).
(4)
واليوم أيضاً، وبصرف النظر عن أيِّ موقف سياسي من انتخابات العام 2015م، أكد بعض أعضاء المجلس التَّشريعي لولاية البحر الأحمر "استحالة" التنازل عن أي شبر من حلايب (سودانايل ـ الشروق؛ 10 سبتمبر 2014م). وهذا سنخ هروب مفضوح إلى الأمام يتخذ، غالباً، شكل "الحنجوري"! كما أعلنت لجنة الانتخابات بالولاية اكتمال ترسيم "حلايب" ضمن الدَّوائر الانتخابيَّة، كونها تمثِّل دائرة معتمدة منذ العام 1953م! وفي سياق نفس "الحنجوري" قال السَّفير محيي الدين سالم إن مشكلة حلايب موجودة منذ "القِدَم!"، لكنها لم توقف علاقة البلدين، فقيادتهما واعـية بمصـالح الشـُّعوب!" (إس إم سي، 1 سبتمبر 2014م). وعلقت مصادر في السَّفارة بالقاهرة على تفويج وفد شعبي مصري إلى حلايب، وعقده مؤتمراً هناك، مطلع العام، بأن العلاقات بين البلدين "ينبغي أن تكون مبنية على التعاون!" (حريَّات؛ 22 يناير 2014م). ولم يجد مالك حسين، رئيس لجنة الدِّفاع ببرلمان السُّودان، ما يعلق به على تعيين القاهرة، قبل أيَّام، رئيساً لمحليَّة حلايب، بعد أن تمَّ تحويلها من قرية إلى مدينة، سوى أن "الحكومة ستتخذ حيال ذلك ما يلزم من إجراءات!" (سودان تريبيون، 22 سبتمبر 2014م).
على أن الخارجيَّة المصريَّة، من الجَّانب الآخر، أجملت، هذه المرَّة أيضاً، وكما في كلِّ مرَّة، موقف حكومتها، قائلة، بصرامة وحسم، إن المثلث جزء لا يتجـزأ مـن الأراضي المصـريَّة، ولا يمكن التفاوض حوله مع السُّودان (أخبار الواقع؛ 9 سبتمبر 2014م). وفي المستوى الشَّعبي نعى الإعلامي عمرو أديب على الرئيس المعزول مرسي أنه هو الذي "أعطى حلايب للسُّودان (!) لأنه غير وطني وإرهابي وجاسوس!" (شبكة محيط، 9 سبتمبر 2014م). كما اتَّهمت صحيفة الوفد الخرطوم بـ "استفزاز!" القاهرة "بإثارتها قضيَّة حلايب من جديد!" (9 سبتمبر 2014م).
(5)
ضاع وقت طويل في الخَوَر، والانكسار، والتَّعامي، والهُروب إلى الأمام، حتَّى ربَّما نحتاج، غداً، لما لم نكن لنحتاجه، بالأمس، من كثير جهد ووقت لإثبات أن "حلايب" سودانيَّة، أو أنها كانت تمثِّل، بالفعل، دائرة مفردة في الانتخابات الأولى التي جرت في نوفمبر 1953م، وكان اسمها، آنذاك، "الدَّائرة/70 ـ الأمرأر والبشاريين"، وقد فاز بها محمد كرار كجر؛ أو في الانتخابات الثانية التي جرت في فبراير ـ مارس 1958م، عندما تغيَّر اسمها إلى "الدَّائرة/97 ـ البشاريين"، وقد فاز بها حامد كرار، دَع الوقائع المتراكمة منذ ما بعد اتفاقيَّة الحكم الثنائي للسُّودان بين بريطانيا ومصر في 1899م، بل وربَّما منذ احتلال الباشا للسُّودان في 1821م. غير أننا ينبغي ألا نغفل، في أيِّ وقت، عن أمرين أساسيين: أولهما أن المطلوب هو فعلٌ ملموس يعيد حلايب، بأسرع ما يمكن، إلى حظيرة قدس الوطن، فمرور الزَّمن ليس من المصلحة، بل إن من شأنه، على العكس تماماً، تكريس الأمر الواقع؛ وثانيهما أن التاريخ لن يسائل عن هذه القضيَّة الحزب الحاكم، فحسب، أو مجموعة الأحزاب المتوالية معه وحدها، بل وأحزاب المعارضة السِّياسيَّة كافَّة، وكلِّ مؤسَّسات المجتمع المدني خارج السُّلطة، شاملة جميع المثقفين الوطنيين الدِّيموقراطيين، خصوصاً مَن يعيشون ويعملون في مصر بالذَّات.
في هذا الإطار نعيد إلى الأذهان رؤوس المقترحات العمليَّة التي كان دفع بها إلى المناقشة خبير القانون الدَّولي العالِم سلمان محمَّد احمد، وتتلخص في إحياء فكرة فريق عمل كان تشكَّل في منتصف تسعينات القرن المنصرم، ودعمِه بعناصر من الشَّباب المدرَّب على المناهج الحديثة من مختلف المدارس والاتِّجاهات، كي يجتهد في تحضير ملف متكامل للقضيَّة بغرض الحفاظ على الذَّاكرة العلميَّة والوثائقيَّة، مع الحرص على إبقاء شكوى السُّودان ضدَّ مصر حيَّة أمام مجلس الأمن الدَّولي، وقد تمَّ رفعها منذ 20 فبراير 1958م، وعدم اليأس من اجتذاب الطرف الآخر إلى طاولة التفاوض التي كان اقترحها بنفسه في21 فبراير 1958م (الرَّاكوبة؛ 3 فبراير 2014م).
وإذا جاز لنا أن نضيف إلى مقترحات سلمان هذه، فإننا نرى أهميَّة قصوى لتعيين هذا العالِم المرموق على رأس فريق العمل الوطني المشار إليه، كما نذكِّر، إلى ذلك، بما كنَّا قلنا، في مناسبة سابقة، من أن هذه القضيَّة لن تُحلَّ بغير الدِّبلوماسيَّة، أو التحكيم والعدالة الدَّوليَّة، وكلاهما مِمَّا لا يمكن تأسيسه إلا على قواعد صلبة من الحقائق، والوثائق، والمعرفة العلميَّة، سائلين الله بُعداً .. للطريق الثالث!
Comments
Post a Comment