يربح الشيوعيون بالاستنارة والتسامح
د.عبد الله علي إبراهيم
كتب أحدهم في مناسبة احتفال الحزب الشيوعي بالعيد الأربعين لتأسيسه في 1988 يقول إن فيضان 1946م الشهير تحذير من عنده تعالى لأننا سمحنا للحزب الشيوعي أن ينشأ بييننا وأن يحتفل بتلك المنشأة في أربعينها هذا العام. وربط آخر بين احتفال الحزب الشيوعي بأربعينه واحتفال السفارة الأمريكية باستقلال أمريكا في شهر واحد. وهو يوحي هنا بشيء من العمالة أو ما أشبهها. وهذه ركاكة عجيبة تهدر فيها رجاحة العقل بالكلية. وفيها مؤشر إلى ما يمكن أن تبلغه العقول الصغيرة من سقط التحليل وغلواء العداء. ولا سبيل إلى حرب هذه الركاكة إلا بنشر الاستنارة والتسامح. وهي معاني للأسف لا يوليها حتى الحزب الشيوعي (الخاسر الأول من سيادة الجاهلية والتعصب) اهتمامه الدقيق.
إن المكابر وحده هو الذي لا يثني على المعرض الجيد الذي أقامه الحزب الشيوعي في عيده الأربعين. والمعرض في صورته هذه إضافة مقدرة للتقليد الوثائقي الذي تميز به الحزب الشيوعي في حياتنا السياسية. فقد سبق للحزب إصدار كتاب (ثورة شعب) وقد أضحى مرجعا معتمداً في نضال شعبنا ضد الدكتاتورية الأولى. كما نشر المرحوم محمد سليمان كتابه (اليسار في عشر سنوات. إن أفضل الديمقراطيات ما أنبنى على حس بالتاريخ لا حكمة منه. وأفضل حس بالتاريخ ما أنبنى على وعي دقيق بمنزلة وخطر الوثائق. ومما يحمد للحزب الشيوعي تنمية هذا الحس على أنه الحزب الأكثر خسارة في وثائقه من جراء حالة الطواريء السياسية التي عاشها أكثر تاريخه.
لم تعجبني مع ذلك الطريقة (الحزبية) التي سجل بها الشيوعيون تاريخهم. فقد رتبوا المعرض بصورة تطابق فيها تاريخ حزبهم مع تاريخ وقائع العقيدة الصحيحة في الحزب. فتاريخهم باختصار هو تاريخ من استشهدوا على العقيدة الصحيحة أو ما زالوا يجاهدون لأجلها. فلم أر مثلا موضعا للسيد أحمد سليمان أول وزير شيوعي في السودان أو في الإمبراطورية البريطانية كما يروى أنه قال ذلك لملكة بريطانيا حين زارت السودان. وتكرر حذف الأدوار بالنسبة لعوض عبد الرازق (غير أنه انتهازي) وعمر مصطفى المكي، رحماهما الله وأحسن اليهما.
يخل هذا التبويب بالحس التاريخي. وهذه نقيصة كبرى في حركة تزعم أنها تاريخيةا (إي أن نصرها إملاء تاريخي) كالحزب الشيوعي. وهو خلل يجعل الكتابة مثل الحرباء يتشكل مع بيئة المنتصرين وخالصيّ العقيدة. وهذه الحربائية ما جعل كتاب (تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي) كتابا ضخماً بلا قيمة. وأخطر آفات هذا الترتيب المخل للتاريخ أنه يربي الناس على الجاهلية وعدم التسامح. وتتفشى هذه الآفات بغير شك حين تفتح التاريخ للمونتاج ومحاكمة الماضي بالحاضر ولنزعات الجحود.
ولعل أكثر الجماعات حاجة إلى سيادة روح الاستنارة والتسامح (كمردودين جميلين من التاريخ) هو الحزب الشيوعي. فهو مما يكسب بتلك الروح لأن خصومه كثر وقد أثخنوه بالجراح الكبيرة. يكفي أن هناك من يتهمه الآن بأنه روح شريرة حلت بجسدنا منذ 1946 وقد صاحبت الكوارث ميلاده وطقوسه الكبيرة. بين مثل هذه الدعوة والاعتداء على الحزب الشيوعي مسافة قصيرة جداً.
(الخرطوم 14سبتمبر1988م)
د.عبد الله علي إبراهيم
كتب أحدهم في مناسبة احتفال الحزب الشيوعي بالعيد الأربعين لتأسيسه في 1988 يقول إن فيضان 1946م الشهير تحذير من عنده تعالى لأننا سمحنا للحزب الشيوعي أن ينشأ بييننا وأن يحتفل بتلك المنشأة في أربعينها هذا العام. وربط آخر بين احتفال الحزب الشيوعي بأربعينه واحتفال السفارة الأمريكية باستقلال أمريكا في شهر واحد. وهو يوحي هنا بشيء من العمالة أو ما أشبهها. وهذه ركاكة عجيبة تهدر فيها رجاحة العقل بالكلية. وفيها مؤشر إلى ما يمكن أن تبلغه العقول الصغيرة من سقط التحليل وغلواء العداء. ولا سبيل إلى حرب هذه الركاكة إلا بنشر الاستنارة والتسامح. وهي معاني للأسف لا يوليها حتى الحزب الشيوعي (الخاسر الأول من سيادة الجاهلية والتعصب) اهتمامه الدقيق.
إن المكابر وحده هو الذي لا يثني على المعرض الجيد الذي أقامه الحزب الشيوعي في عيده الأربعين. والمعرض في صورته هذه إضافة مقدرة للتقليد الوثائقي الذي تميز به الحزب الشيوعي في حياتنا السياسية. فقد سبق للحزب إصدار كتاب (ثورة شعب) وقد أضحى مرجعا معتمداً في نضال شعبنا ضد الدكتاتورية الأولى. كما نشر المرحوم محمد سليمان كتابه (اليسار في عشر سنوات. إن أفضل الديمقراطيات ما أنبنى على حس بالتاريخ لا حكمة منه. وأفضل حس بالتاريخ ما أنبنى على وعي دقيق بمنزلة وخطر الوثائق. ومما يحمد للحزب الشيوعي تنمية هذا الحس على أنه الحزب الأكثر خسارة في وثائقه من جراء حالة الطواريء السياسية التي عاشها أكثر تاريخه.
لم تعجبني مع ذلك الطريقة (الحزبية) التي سجل بها الشيوعيون تاريخهم. فقد رتبوا المعرض بصورة تطابق فيها تاريخ حزبهم مع تاريخ وقائع العقيدة الصحيحة في الحزب. فتاريخهم باختصار هو تاريخ من استشهدوا على العقيدة الصحيحة أو ما زالوا يجاهدون لأجلها. فلم أر مثلا موضعا للسيد أحمد سليمان أول وزير شيوعي في السودان أو في الإمبراطورية البريطانية كما يروى أنه قال ذلك لملكة بريطانيا حين زارت السودان. وتكرر حذف الأدوار بالنسبة لعوض عبد الرازق (غير أنه انتهازي) وعمر مصطفى المكي، رحماهما الله وأحسن اليهما.
يخل هذا التبويب بالحس التاريخي. وهذه نقيصة كبرى في حركة تزعم أنها تاريخيةا (إي أن نصرها إملاء تاريخي) كالحزب الشيوعي. وهو خلل يجعل الكتابة مثل الحرباء يتشكل مع بيئة المنتصرين وخالصيّ العقيدة. وهذه الحربائية ما جعل كتاب (تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي) كتابا ضخماً بلا قيمة. وأخطر آفات هذا الترتيب المخل للتاريخ أنه يربي الناس على الجاهلية وعدم التسامح. وتتفشى هذه الآفات بغير شك حين تفتح التاريخ للمونتاج ومحاكمة الماضي بالحاضر ولنزعات الجحود.
ولعل أكثر الجماعات حاجة إلى سيادة روح الاستنارة والتسامح (كمردودين جميلين من التاريخ) هو الحزب الشيوعي. فهو مما يكسب بتلك الروح لأن خصومه كثر وقد أثخنوه بالجراح الكبيرة. يكفي أن هناك من يتهمه الآن بأنه روح شريرة حلت بجسدنا منذ 1946 وقد صاحبت الكوارث ميلاده وطقوسه الكبيرة. بين مثل هذه الدعوة والاعتداء على الحزب الشيوعي مسافة قصيرة جداً.
(الخرطوم 14سبتمبر1988م)
Comments
Post a Comment