سائحين زي ديل بزوروني، أنا ما قائل
د.عبد الله علي إبراهيم
شرفني السائحون مرة بزيارة في داري في سياق عرضهم لمبادرتهم المسماة "نداء الإصلاح والنهضة". وهي المبادرة التي أرادوا منها الخروج بالوطن من أزمته المتطاولة. ولأن عدم العروض جفا جئتهم ببلح وفول سنة الإنقاذ فينا. وقلت لهم، بالنظر إلى خلفياتهم في الجهاد : "دا زاد المجاهد برضو". واستغرقنا في ضحكة طويلة.
أعجبني من أمرهم أمرين. إنهم يتفهمون اعتراضات غيرهم عليهم لسابق خدمتهم الخالصة، بقلبهم ودمهم، للإنقاذ في مسائل خلافية. ولكنهم لا يريدون أن يستخذوا بهذا التاريخ فتتعطل مساهمتهم المستمرة لرفعة الوطن وخلاصه. لقد استوعبوا درس خبرتهم في الوطن من فوق أجساد شابة بذلوها للموت (أو الشهادة في نظرهم)، اتفقت معهم أو لم تتفق، وكفى بذلك. ومن كان بلا خطيئة فليرمهم بحجر. ناهيك من أنهم لم يطلبوا مغنماً ولا ذكراً. ومحاججة طالب الموت من أشق الأمور.
الأمر الثاني هو مقصدهم من أن يكون الاصلاح القادم عميقاً عن"إرادة في بناء مشروع إصلاحي وطني عام وشامل وعميق وعاجل". وهذ ما أسميه في شغلي بالانتقال من "المقاومة" إلى "النهضة" أي من سقوط النظم السياسية إلى زلزلة الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تفرخ نظم الأزمة (عسكرية، مدنية إلخ) كما يفرخ الماء البقل. وهي أزمة تراوح محلها من يوم استقلالنا إلى تاريخه لأننا لم نحسن بعد التخلص من الاستعمار. فقد أنهت الحركة الوطنية وجوده الجسدي الحي ل"يقوم بعاتي" كما قال عبد الله الطيب. فمن رأي البروف أننا ما نزال نرزح في براثن الأنساق الاستعمارية. فدولتنا غريبة ديار، جبائية ضرائبية، طبقتها الحاكمة عاليه الأبراج تتمرغ في النعيم، محجوبة عن الرعية: إنجليز الخالق الناطق. وقال عبد الله الطيب إن الاستعمار الحي الحق ربما أفضل من الاستعمار الوطني البعاتي. فالبعاتي قبيح المنظر وفي صوته خنخنة. وأصاب السائحون حين تعاقدوا على تغيير لا يقتصر على رأس السعلاة (سعلوة) الأحاجي بل يهدمون باطنها الذي تتوالد منه الرؤوس: كلما أطحت بواحد نبت في موصعه آخر.
في نهاية اللقاء قال شاب منهم مودعاً: "أول مرة أجلس إلى شيوعي". قالها بمزيج من الشغف والحسرة والخوف ربما. ولكن مؤكد أنه لا يدري أن هذا لقاء رتب له هذا الشيوعي نفسه لعقود ثلاثة. كنت مفائلاً دائماً أن للحركة الإسلامية يوماً تستعدل مسارها بعد عثرة كبرى. ومصدر ثقتي أنني عملت معها سنوات نظام الفريق عبود الست نناضل كتفاً لكتف من أجل الديمقراطية. فهي "ربيبة" الديمقراطية في اتحادات الطلاب ونقابات العمال والبرلمان وإن لم ترع حرمتها. ولكنها ستفيق يوماً من ضلالها لتعود سيرتها الأولى.
كنت واثقاً أنهم سيعودون من التيه إلى شريعة الديمقراطية. وسيعودون بهيئة لم ينتظرها أحد من مجاهدين سائحين. سينكرون سيماء "ساحات الفداء" منهم. ولكنهم سيكونوا أكثرنا شرهاً للوطن وديمقراطيته. لقد تربوا في دفع الثمن الغالي له.
د.عبد الله علي إبراهيم
شرفني السائحون مرة بزيارة في داري في سياق عرضهم لمبادرتهم المسماة "نداء الإصلاح والنهضة". وهي المبادرة التي أرادوا منها الخروج بالوطن من أزمته المتطاولة. ولأن عدم العروض جفا جئتهم ببلح وفول سنة الإنقاذ فينا. وقلت لهم، بالنظر إلى خلفياتهم في الجهاد : "دا زاد المجاهد برضو". واستغرقنا في ضحكة طويلة.
أعجبني من أمرهم أمرين. إنهم يتفهمون اعتراضات غيرهم عليهم لسابق خدمتهم الخالصة، بقلبهم ودمهم، للإنقاذ في مسائل خلافية. ولكنهم لا يريدون أن يستخذوا بهذا التاريخ فتتعطل مساهمتهم المستمرة لرفعة الوطن وخلاصه. لقد استوعبوا درس خبرتهم في الوطن من فوق أجساد شابة بذلوها للموت (أو الشهادة في نظرهم)، اتفقت معهم أو لم تتفق، وكفى بذلك. ومن كان بلا خطيئة فليرمهم بحجر. ناهيك من أنهم لم يطلبوا مغنماً ولا ذكراً. ومحاججة طالب الموت من أشق الأمور.
الأمر الثاني هو مقصدهم من أن يكون الاصلاح القادم عميقاً عن"إرادة في بناء مشروع إصلاحي وطني عام وشامل وعميق وعاجل". وهذ ما أسميه في شغلي بالانتقال من "المقاومة" إلى "النهضة" أي من سقوط النظم السياسية إلى زلزلة الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تفرخ نظم الأزمة (عسكرية، مدنية إلخ) كما يفرخ الماء البقل. وهي أزمة تراوح محلها من يوم استقلالنا إلى تاريخه لأننا لم نحسن بعد التخلص من الاستعمار. فقد أنهت الحركة الوطنية وجوده الجسدي الحي ل"يقوم بعاتي" كما قال عبد الله الطيب. فمن رأي البروف أننا ما نزال نرزح في براثن الأنساق الاستعمارية. فدولتنا غريبة ديار، جبائية ضرائبية، طبقتها الحاكمة عاليه الأبراج تتمرغ في النعيم، محجوبة عن الرعية: إنجليز الخالق الناطق. وقال عبد الله الطيب إن الاستعمار الحي الحق ربما أفضل من الاستعمار الوطني البعاتي. فالبعاتي قبيح المنظر وفي صوته خنخنة. وأصاب السائحون حين تعاقدوا على تغيير لا يقتصر على رأس السعلاة (سعلوة) الأحاجي بل يهدمون باطنها الذي تتوالد منه الرؤوس: كلما أطحت بواحد نبت في موصعه آخر.
في نهاية اللقاء قال شاب منهم مودعاً: "أول مرة أجلس إلى شيوعي". قالها بمزيج من الشغف والحسرة والخوف ربما. ولكن مؤكد أنه لا يدري أن هذا لقاء رتب له هذا الشيوعي نفسه لعقود ثلاثة. كنت مفائلاً دائماً أن للحركة الإسلامية يوماً تستعدل مسارها بعد عثرة كبرى. ومصدر ثقتي أنني عملت معها سنوات نظام الفريق عبود الست نناضل كتفاً لكتف من أجل الديمقراطية. فهي "ربيبة" الديمقراطية في اتحادات الطلاب ونقابات العمال والبرلمان وإن لم ترع حرمتها. ولكنها ستفيق يوماً من ضلالها لتعود سيرتها الأولى.
كنت واثقاً أنهم سيعودون من التيه إلى شريعة الديمقراطية. وسيعودون بهيئة لم ينتظرها أحد من مجاهدين سائحين. سينكرون سيماء "ساحات الفداء" منهم. ولكنهم سيكونوا أكثرنا شرهاً للوطن وديمقراطيته. لقد تربوا في دفع الثمن الغالي له.
Comments
Post a Comment