الفونج: نهضة نوبية أم كارثة رعوية؟ (العقل الرعوي 18)
د.عبد الله علي إبراهيم
لا أعرف سداداً لانطباق العبارة العربية العجوز "قلب له ظهر المجن" كسدادها في وصف تحول النور من إعلاء دولة الفونج في مقالات تعود إلى 2013 و2015 إلى تبخيسها في أحاديثه الأخيرة عن العقل الرعوي. فقال إن سلطنة الفونج ثمرة حلف رعوي بزعامة عمارة دنقس على الفونج وضم العبدلاب القواسمة بقيادة عبد الله جماع. وهو الحلف الذي قضى على دولة علوة النوبية المسيحية. فالسلطنة بهذا العقل الرعوي ارتداد حضاري قطعت به عرانا بالثقافة الكوشية إلى يومنا. وهذا الحط من قيمة السلطنة انقلاب لمائة وثمانين درجة عن آراء للنور سبقت عدّ فيها الفونج مشهداً ل "نهضة نسبية" كان بوسعها إدخال السودان "على حقبة الحداثة من مدخلٍ خاصٍّ به" لولا تدخل الحكم التركي المصري (1821-1885) "في الصورة وحرفه للمسار". ولم ير في السلطنة، كما رأى مؤخراً، خراباً للإرث "السودانوي" بجذوته التي "انطبخ عليها في القدم مزيج الشخصية السودانية، ومواريثها ذات الأضلاع الأربعة؛ الكوشي، والمسيحي، والإحيائي الإفريقي، والإسلامي الصّوفي". وعنى بالأخيرة صوفية عهد الفونج بالطبع.
خرج النور برأيه السالب الأخير عن الفونج بالكلية من مدرسة الاستمرارية أو التواصل التي تقول بوحدة العرق والثقافة السودانيين لم يشوش عليها تبدل الأديان أو وفود الأقوام. بينما ترى المدرسة النقيض تَقَطع ذلك العرق والثقافة بفعل وفود الأفكار والأقوام إلى السودان. وكان النور اتبع خطة مدرسة التواصل من قبل كما رأينا في عقيدته السودانوية أعلاه.
سنعرض هنا لآراء مدرسة الاستمرارية لنرى بعد شقة النور عنها بعد تبخيسه للفونج، وتحوله إلى مدرسة انقطاع الثقافة السودانية عن منشأها في كوش بحلول العرب والمسلمين. وسنستعين في هذا العرض بأفكار المؤرخ الأمريكي جي اسبولدنق مؤلف "عصر الفونج البطولي" (1985) ممن وصفه النور نفسه في أحاديث تشريح العقل الرعوي بالتضلع في العلم والحذق فيه. وسنأخذ آراءه هذه من مقاله عن أصل الفونج (1972) عربها المرحوم محمد عبد الله عجيمي في كتاب سيصدر في إطار مهرجان تجديد ذكرى سنار القائم الآن. ولسنا هنا بصدد موافقة اسبولدنق في ما ذهب إليه أو معارضته بالطبع. والغاية باختصار أن نطلع القارئ على ما وجب للنور الإحاطة به من المعارف في حقل التاريخ السوداني ونقضه قبل أن يذيع فساد دولة الفونج كما فعل في مقالاته موضوع نظرنا.
خلافاً للنور لا يرى اسبولدنق أن الفونج من صنع أعراب جفاة أفارقة وعرب. فجدد خبر الرحالة بروس، الذي غشي سنار في 1772، والقائل إن الحلف الفونجاوي مع قواسمة عبد الله جماع وقع تحت شرط الفونج بعد هزيمة العرب في أربجي. وهذا على خلاف ما جاء في تاريخ ملوك السودان (المعروف بتاريخ كاتب الشونة) الذي قال بحلف انداد لا ظافر وخاسر. وعلى غير من نسبوا الفونج إلى الأمويين والبرنو والشلك، كان رأي اسبولدنق أنهم قوم من النيل الأبيض ضيّق عليهم الشلك فترحلوا إلى النيل الأزرق. وسماهم جماعة من النوبة الجنوبية قطنوا بين الرنك وملكال. ولم يأت بهم الرعي إلى سنار بل رغبتهم في الارتباط بطريق التجارة الشمالية التي ساقتهم للاصطدام بالعرب في أربجي.
وهكذا لم يكن اسبولدنق من رأي النور في قيام الفونج في سياق اقتصاد رعوي أفريقي عربي. فهو يرد نشأة الدولة إلى إطار نشاط تجاري سبق قيام سنار. وهو نشاط ازدهر تحت إشراف المسلمين الذين توحدوا تحت عبد الله جماع القواسمي. ثم توغلت التجارة جنوباً في النوبة الجنوبية لتستحصل على الذهب، والصمغ، والبخور، والزباد، والأبنوس والعاج. وعليه انجذبت نوبة الجنوب، ومنهم الفونج، إلى شبكة تلك التجارة. وأنعش تلك الشبكة قطع حملات تيمور لنك لطريق التجارة عبر آسيا مما جعلها تنتقل للبحر الأحمر ومصر. وتطابق ذلك مع فترة عبد الله جماع وأربجي. وجاء اسبولدنق بكلمة فصل مؤيداً فرضية كان ألقى بها روبرت هارتمان قبل قرن أو أكثر من الزمان قال فيها إن أفضل فهم للفونج يتمثل في أنهم ورثة مؤسسات النوبة في العصور الوسطى. وسمى سبولدنق قيام سلطنة الفونج ب "نهضة نوبية". وهذا رأي واضح للمدرسة الاستمرارية في أن الفونج لم تقطع عرى الثقافة الكوشية بل حملتها إلى مستويات أخرى من النهضة.
الدلائل التي يأتي بها دعاة الاستمرارية على كوشية سلطنة الفونج تقليدية وكثيرة. فتجد من يرد طقوس التولية السلطانية الفونجية مثل الجلوس على الككر، ولبس الطاقية أم قرينات إلى طقوس الولاية عند كوش والفراعنة. ويأتي اسبولدنق بدلائل مبتكرة مثل أخذه مبادئ وراثة العرش في الفونج المعلومة لنا ليلقي بها الضوء على قواعد التولية عند نوبة القرون الوسطى المسيحية المجهولة. ورأيته منذ الثمانيات رد زواج الكوره إلى طقس من طقوس المسيحية.
هذه الدلائل الثقافية للعلماء على استمرار كوش في الفونج كثيرة. وسنتجاوزها إلى الزاوية غير المتوقعة التي نظر منها النور إلى سلطنة الفونج بعد فصم عراها من إرث كوش. فبما أنه قال بانقطاعها عن ذلك الإرث توقع القارئ منه أن يقيم الدلائل على ذلك. بمعنى آخر: أن يقيم الحجة على خروج الفونج عن إرث الحضارة الكوشية. ولكن المفاجأة التي ادخرها النور له أنه، بدلاً عن ذلك، حاكم السلطنة بتنكبها دين الإسلام. فحاكمها بمعيار مشرقي (الإسلام في هذه الحالة) كان حذرنا من مغبته لأنه وفد الينا حين جرى الحاقنا بالفضاء المشرقي من غير إرادتنا.
خلص النور من نظراته في ثقافة الفونج ودولتها إلى أن سيرتها ومؤسساتها ضعيفة الصلة بتعاليم الإسلام. وانتهى إلى أن شخصية سنار ذات "ثقافة افريقية" لا تعكس التعاليم الإسلامية بقدر ما تعكس طقوس الديانات الأرواحية" المشهور عنها أنها "وثنية". ونعرض في حديث قادم لنواحي ثقافة الفونج المجانبة للإسلام في رأي النور برغم أننا توقعنا منه غير ذلك وهو اطلاعنا على الوجوه التي قطعت بها الفونج عرى علاقتنا الحضارية بكوش.
د.عبد الله علي إبراهيم
لا أعرف سداداً لانطباق العبارة العربية العجوز "قلب له ظهر المجن" كسدادها في وصف تحول النور من إعلاء دولة الفونج في مقالات تعود إلى 2013 و2015 إلى تبخيسها في أحاديثه الأخيرة عن العقل الرعوي. فقال إن سلطنة الفونج ثمرة حلف رعوي بزعامة عمارة دنقس على الفونج وضم العبدلاب القواسمة بقيادة عبد الله جماع. وهو الحلف الذي قضى على دولة علوة النوبية المسيحية. فالسلطنة بهذا العقل الرعوي ارتداد حضاري قطعت به عرانا بالثقافة الكوشية إلى يومنا. وهذا الحط من قيمة السلطنة انقلاب لمائة وثمانين درجة عن آراء للنور سبقت عدّ فيها الفونج مشهداً ل "نهضة نسبية" كان بوسعها إدخال السودان "على حقبة الحداثة من مدخلٍ خاصٍّ به" لولا تدخل الحكم التركي المصري (1821-1885) "في الصورة وحرفه للمسار". ولم ير في السلطنة، كما رأى مؤخراً، خراباً للإرث "السودانوي" بجذوته التي "انطبخ عليها في القدم مزيج الشخصية السودانية، ومواريثها ذات الأضلاع الأربعة؛ الكوشي، والمسيحي، والإحيائي الإفريقي، والإسلامي الصّوفي". وعنى بالأخيرة صوفية عهد الفونج بالطبع.
خرج النور برأيه السالب الأخير عن الفونج بالكلية من مدرسة الاستمرارية أو التواصل التي تقول بوحدة العرق والثقافة السودانيين لم يشوش عليها تبدل الأديان أو وفود الأقوام. بينما ترى المدرسة النقيض تَقَطع ذلك العرق والثقافة بفعل وفود الأفكار والأقوام إلى السودان. وكان النور اتبع خطة مدرسة التواصل من قبل كما رأينا في عقيدته السودانوية أعلاه.
سنعرض هنا لآراء مدرسة الاستمرارية لنرى بعد شقة النور عنها بعد تبخيسه للفونج، وتحوله إلى مدرسة انقطاع الثقافة السودانية عن منشأها في كوش بحلول العرب والمسلمين. وسنستعين في هذا العرض بأفكار المؤرخ الأمريكي جي اسبولدنق مؤلف "عصر الفونج البطولي" (1985) ممن وصفه النور نفسه في أحاديث تشريح العقل الرعوي بالتضلع في العلم والحذق فيه. وسنأخذ آراءه هذه من مقاله عن أصل الفونج (1972) عربها المرحوم محمد عبد الله عجيمي في كتاب سيصدر في إطار مهرجان تجديد ذكرى سنار القائم الآن. ولسنا هنا بصدد موافقة اسبولدنق في ما ذهب إليه أو معارضته بالطبع. والغاية باختصار أن نطلع القارئ على ما وجب للنور الإحاطة به من المعارف في حقل التاريخ السوداني ونقضه قبل أن يذيع فساد دولة الفونج كما فعل في مقالاته موضوع نظرنا.
خلافاً للنور لا يرى اسبولدنق أن الفونج من صنع أعراب جفاة أفارقة وعرب. فجدد خبر الرحالة بروس، الذي غشي سنار في 1772، والقائل إن الحلف الفونجاوي مع قواسمة عبد الله جماع وقع تحت شرط الفونج بعد هزيمة العرب في أربجي. وهذا على خلاف ما جاء في تاريخ ملوك السودان (المعروف بتاريخ كاتب الشونة) الذي قال بحلف انداد لا ظافر وخاسر. وعلى غير من نسبوا الفونج إلى الأمويين والبرنو والشلك، كان رأي اسبولدنق أنهم قوم من النيل الأبيض ضيّق عليهم الشلك فترحلوا إلى النيل الأزرق. وسماهم جماعة من النوبة الجنوبية قطنوا بين الرنك وملكال. ولم يأت بهم الرعي إلى سنار بل رغبتهم في الارتباط بطريق التجارة الشمالية التي ساقتهم للاصطدام بالعرب في أربجي.
وهكذا لم يكن اسبولدنق من رأي النور في قيام الفونج في سياق اقتصاد رعوي أفريقي عربي. فهو يرد نشأة الدولة إلى إطار نشاط تجاري سبق قيام سنار. وهو نشاط ازدهر تحت إشراف المسلمين الذين توحدوا تحت عبد الله جماع القواسمي. ثم توغلت التجارة جنوباً في النوبة الجنوبية لتستحصل على الذهب، والصمغ، والبخور، والزباد، والأبنوس والعاج. وعليه انجذبت نوبة الجنوب، ومنهم الفونج، إلى شبكة تلك التجارة. وأنعش تلك الشبكة قطع حملات تيمور لنك لطريق التجارة عبر آسيا مما جعلها تنتقل للبحر الأحمر ومصر. وتطابق ذلك مع فترة عبد الله جماع وأربجي. وجاء اسبولدنق بكلمة فصل مؤيداً فرضية كان ألقى بها روبرت هارتمان قبل قرن أو أكثر من الزمان قال فيها إن أفضل فهم للفونج يتمثل في أنهم ورثة مؤسسات النوبة في العصور الوسطى. وسمى سبولدنق قيام سلطنة الفونج ب "نهضة نوبية". وهذا رأي واضح للمدرسة الاستمرارية في أن الفونج لم تقطع عرى الثقافة الكوشية بل حملتها إلى مستويات أخرى من النهضة.
الدلائل التي يأتي بها دعاة الاستمرارية على كوشية سلطنة الفونج تقليدية وكثيرة. فتجد من يرد طقوس التولية السلطانية الفونجية مثل الجلوس على الككر، ولبس الطاقية أم قرينات إلى طقوس الولاية عند كوش والفراعنة. ويأتي اسبولدنق بدلائل مبتكرة مثل أخذه مبادئ وراثة العرش في الفونج المعلومة لنا ليلقي بها الضوء على قواعد التولية عند نوبة القرون الوسطى المسيحية المجهولة. ورأيته منذ الثمانيات رد زواج الكوره إلى طقس من طقوس المسيحية.
هذه الدلائل الثقافية للعلماء على استمرار كوش في الفونج كثيرة. وسنتجاوزها إلى الزاوية غير المتوقعة التي نظر منها النور إلى سلطنة الفونج بعد فصم عراها من إرث كوش. فبما أنه قال بانقطاعها عن ذلك الإرث توقع القارئ منه أن يقيم الدلائل على ذلك. بمعنى آخر: أن يقيم الحجة على خروج الفونج عن إرث الحضارة الكوشية. ولكن المفاجأة التي ادخرها النور له أنه، بدلاً عن ذلك، حاكم السلطنة بتنكبها دين الإسلام. فحاكمها بمعيار مشرقي (الإسلام في هذه الحالة) كان حذرنا من مغبته لأنه وفد الينا حين جرى الحاقنا بالفضاء المشرقي من غير إرادتنا.
خلص النور من نظراته في ثقافة الفونج ودولتها إلى أن سيرتها ومؤسساتها ضعيفة الصلة بتعاليم الإسلام. وانتهى إلى أن شخصية سنار ذات "ثقافة افريقية" لا تعكس التعاليم الإسلامية بقدر ما تعكس طقوس الديانات الأرواحية" المشهور عنها أنها "وثنية". ونعرض في حديث قادم لنواحي ثقافة الفونج المجانبة للإسلام في رأي النور برغم أننا توقعنا منه غير ذلك وهو اطلاعنا على الوجوه التي قطعت بها الفونج عرى علاقتنا الحضارية بكوش.
Comments
Post a Comment