مقبرة أثرية تحوي كنوز ذهبية،
قدم
المحاضرة الأستاذ الباحث / الدكتور محمد المكاوي مصطفي وزير التخطيط
الأسبق وشارك في النقاش البروفيسور يوسف فضل حسن (معهد الدراسات الأفريقية
والآسيوية-جامعة الخرطوم ) والبروفيسور عبد الرحيم محمد خبير (عميد كلية
الدراسات العليا بجامعة بحري). وأدار الجلسة الدكتور مبارك بشير (أمين
الشئون العلمية بجامعة العلوم والتقانة) وحضرها جمهور غفير من مواطني
وأعيان أم درمان ولفيف من أهل الفكر والثقافة بالبلاد.
إبتدر المحاضر حديثة بفذلكة تاريخية عن تاريخ العمل الآثاري في السودان بوجه عام وفي مدينة أم درمان على وجه التخصيص. وأبان أن آثار السودان عرفها العالم لأول مرة بعد إجراء المسح الآثاري الأول للنوبة(1907 - 1911م) والذي شمل (95) موقعاً بين الشلال الثاني ووداي السبوع، وأعقبه المسح الآثاري الثاني (1929 – 1934م) بعد أن أجري التوسع الثاني لخزان أسوان. وأشار إلي الإكتشافات المهمة لهذه المسوحات الرائدة التي أماطت اللثام عن الحضارات النوبية غير المدونة (المجموعة " أ " ونظيراتها " ب "و "ج "). ونوه الدكتور محمد المكاوي بالعمل الذي إضطلعت به جامعتي بوسطن – هارفارد الأمريكية برئاسة عالم الآثار الأمريكي الشهير جورج أندرو رايزنر.
وأورد المحاضر خلفية علمية – مهنية لعالم الآثار البريطاني أنتوني آركل الذي شغل منصب أول مدير لمصلحة الآثار السودانية (1938 – 1948م) والذي يعتبر مؤسس لدراسات عصور ما قبل التاريخ في السودان .وأثمرت المسوحات والحفريات الآثارية التي قام بها عن ظهور حضارات العصور الحجرية الثلاث (العصر الحجري القديم – خور أبو عنجة، العصر الحجري الوسيط – الخرطوم الباكرة، فالعصر الحجري الحديثة وتمثله حضارة الشهيناب).
أبرز المحاضر بانوراما تاريخية مفصلة ومدعمة بالمراجع العلمية المهمة للحضارات الأولي في السودان القديم والتي يعتقد الدكتور محمد المكاوي أن أم درمان هى مهدها وأن حضارات العصور الحجرية فيها كان لها الفضل في نشر الوعي الحضاري والثقافي في وادي النيل وأجزاء واسعة من القارة الأفريقية.
قدم المكاوي وصفاً للأدوات الحجرية التي وجدت في موقع خور أبو عنجة والذي يرجع للعصر الآشولي مستنداً إلي كتيب أنتوني آركل المعنّون " العصر الحجري القديم في السودان الإنجليزي – المصري 1947م ". وتشمل هذه الأدوات فؤوس يدوية وهي أبرز الموجودات، فضلاً عن نُوى، مفارم،سكاكين ومكاشط صنعت من حجر الصوان والحجر النوبي الرملي،وإستخدمت في الصيد وإعداد الطعام وقطع الأشجار والقتال.وقورنت هذه الأدوات الحجرية التي ترجع للعصر الآشولي في خور أبوعنجة بمثيلاتها في شمال السودان خاصة في وادي حلفا، جزيرة صاي ومنطقة دنقلا. وتم التنويه بالدراسات الشاملة للعصر الحجري القديم والتي أجرتها بعثة جامعة ميثودست الجنوبية بولاية تكساس برئاسة البروفيسور الفرد ويندورف وظهرت في المؤلف المعروف باسم " ما قبل التاريخ في النوبة –1968م ". وأشير إلى عمل البعثة المشتركة لدراسات ماقبل التاريخ برئاسة البروفيسور الأمريكي جويل شاينر التي أنجزت دراسات عن هذه الحقبة(آثارية وجيولوجية)بشمال السودان(أنظر: ج. شاينر1971م:عصر ماقبل التاريخ وجيولوجيا شمال السودان).كما تناول الباحث الدراسة الموسوعية للبروفيسور وليام آدمز (جامعة كنتكي – الولايات المتحدة الأمريكية) التي خطها في كتابه المعروف باسم " النوبة رواق أفريقيا"(الطبعةالثالثة2010م)والتي قدم فيها الأخير عرضاً مفصلاً للحضارات السودانية منذ أقدم العصور وإلي العصور التاريخية المتأخرة.
وجدير بالذكر أن الدكتور محمد المكاوي على رأي مفاده أن حضارة خور أبو عنجة (العصر الحجري القديم -الآشولي) (300.000ق.م) أعقبتها تاريخياً حضارة الشهيناب (العصر الحجري الحديث 4500 -3000ق.م) بمنطقة أم درمان. غير أن هذا الرأي قد تجاوزه الزمن سيما وأن حفريات جامعة الخرطوم والتي كان لي شرف المشاركة فيها (1977 – 1983 – 1990م) بمنطقة شمال أم درمان (السروراب) كشفت عن حضارة تنتمي للعصر الحجري الوسيط (الميزوليثك) هي " حضارة السروراب -2 " تمثل مرحلة إنتقالية بين الحضارتين السالفتين(أنظر أدناه لمزيد من التفاصيل). وتعتبر حضارة الشهيناب التي بزغ فجرها منذ بداية العصر الحجري الحديث في أفريقيا هي الأنموذج الذي إستقت منه العديد من حضارات العصر الحجري الحديث في وادي النيل وفي أقاليم متفرقة من شمال وأواسط وغرب أفريقيا. ولعل أبرز سمات هذه الحضارة أنها عرفت ولأول مرة في التاريخ الأفريقي إستئناس الحيوان، كما إستخدمت النار وأدوات عرفت بالأزاميل الحجرية (القاوج Gouge ) وأخرى عظمية (سلتيCelt ). وأثبت الشاهد الأثري صلتها بالعديد من المستوطنات التي تؤرخ للعصر الحجري الحديث حيث وجدت فخارياتها المصقولة والمتميزة والمزخرفة بالحزوز المتموجة المنقطة وبالمثلثات وتلك التي على هيئة حراشف السمك في أجزاء عديدة من أواسط السودان وشمال وادي النيل (حضارة الفيوم) وأصقاع بعيدة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وأكد المكاوي في حديثه أن حضارة الشهيناب أكثر الحضارات تقدماً في فترة العصر الحجري الحديث وأنها انتقلت عن طريق مهاجرين شمالاً ووصلت إلي منطقة عبكا (Abka) في أقصى شمال البلاد. ويستدل على ذلك بالتشابه في الفخار بين حضارتي الشهيناب وعبكا، وأن هذا النوع من الفخار المصقول ذي الزخرفة المتميزة إكتشف لاحقاً في أم درمان " أثناء الحرب العالمية الثانية " عندما كان الجنود يحفرون " خنادق " تحت جسر النيل الأبيض.
وخلص الدكنور محمد المكاوي إلي أن الحضارات القديمة التي إنبثق فجرها في أم درمان وبخاصة حضارة العصر الحجري القديم الأسفل (الآشولي) في خور أبو عنجة وحضارة العصر الحجري الحديث في الشهيناب (50كم شمال أم درمان) هي المرتكز الأساسي لتاريخ السودان القديم.
وعقَب البروفيسور يوسف فضل حسن على هذه المحاضرة القيمة وركز في حديثه على بعض النقاط وهي:أولاً: أن السودان يعتبر بلداً رائداً في مجال التقدم والحضارة الإنسانية رغم أن أول ظهور للإنسان كان في أثيوبيا (وادي الأباي) حوالي ثلاثة مليون سنة مضت كما وأن الحفريات الأثرية كشفت عام 1959م عن بقايا إنسانية ترجع إلي مليوني سنة بموقع أولدفاي قورج بسهل سرنقيتي في شرق تنزانيا.
أفاض المؤرخ يوسف فضل في الحديث عن تاريخ العمل الآثاري في السودان ذاكراً أن الرواد الأوائل وعلى رأسهم أ.ج آركل ورونالد أوليفر ووليم آدامز كان لهم دور كبير في إثراء العمل الآثاري والتاريخي بالبلاد. وأِشاد بالمجهود الذي قام به المحاضر في دراسته لتاريخ السودان القديم وإرتكازه على دراسات مرجعية موثقة. وتوقع أن يظهر الكتاب الذي يأمل الدكتور المكاوي إخراجه إلي حيز الوجود عن تاريخ السودان القديم بحلة قشيبة وبآراء سديدة تنير الطريق للباحثين وبخاصة السودانيين بغية الكشف عن حضارات هذا القطر ذي التاريخ المؤثل والذي لم نعرف عنه حتى اليوم برغم المكتشفات الأثرية المتلاحقة في العقود الأخيرة – سوى النذر اليسير. فلاتزال هناك الآلاف من المستوطنات الأثرية في حاجة إلي العمل العلمي الجاد لإخراج كنوزها إلي حيز الوجود.
وإختتم النقاش والتعقيب شخصي الضعيف موضحاً الأهمية التاريخية لمدينة أم درمان حيث تضم كافة إثنيات (أعراق) وثقافات هذا الوطن. بيد أن أهميتها في العصر الحديث – كما هو معلوم – مستمدة من كونها حاضرة دولة المهدية (1885 – 1898م) التي تعتبر أول حركة وطنية قام بها السودانيون في العصر الحديث ضد المستعمر، رغم أن طابعها وأهدافها كانا تقليديين وإسلاميين أكثر مما كانا لدوافع دنيوية محضة.وأسماها الإمام المهدي بـ " البقعة الطاهرة " و عرفت بـ " العاصمة الوطنية "في مقابل الخرطوم التي ظلت قصبة البلاد الإدارية منذ العهد التركي (1823م).
ويشير السجل الآثاري التاريخي إلي بزوغ حضارات عريقة في منطقة أم درمان منذ عصور ما قبل التاريخ وإلي العصور التاريخية اللاحقة. وأجد نفسي في توافق مع ما ذكره المحاضر من أن حضارة خور أبو عنجة تمثل أول الحضارات والمرتكز لتاريخ السودان القديم. وقد قُيضّ لي المشاركة في التصنيف النوعي الأولي للأدوات الحجرية لموقع خور أبو عنجة والذي أجرته زميلتي الأستاذة شادية صلاح عبدالرحمن علي طه(جامعة الخرطوم 1979م) في أواخر السبعينات الماضية. وقامت لاحقاً في الثمانينات الماضية ببحث آخر أكثر شمولية عن حضارة العصر الحجري القديم في أواسط السودان إستناداً إلي المخلفات الحضارية للعصر الآشولي نالت به درجة الماجستير من جامعة كمبردج البريطانية.وجدير بالذكر أن للأدوات الحجرية ب"خور أبوعنجة" مايماثلها بمنطقة شمال أم درمان جمعت من على سطح الأرض في خور أبو دلالة،وادي سيدنا وجبل المعيقل-ثلاثون ميلاً شمال أم درمان-كذلك تلاحظ وجودها في مناطق متفرقة بشرق وغرب (كردفان ودارفور)البلاد.
أشار كاتب هذه الأسطر إلي التنقيبات الآثارية التي أجراها بشمال أمدرمان (موقع السروراب) في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات الماضية تحت إشراف عالم الآثار السوداني الراحل البروفيسور أحمد محمد على الحاكم ((الرئيس الأسبق لقسم الآثار بجامعة الخرطوم، 1971 – 1981م والمدير السابق للهيئة القومية للآثار والمتاحف السودانية (1990 – 1994م))والتي تعتبر جزءً أساسياً من أطروحته لنيل درجة الماجستير في علم الآثار من جامعة الخرطوم (1982م). كما أدرج بعضاَ من نتائج حفرية موقع السروراب -2 في الدراسة المقارنة لمواقع ما قبل التاريخ (تقنية الخزف)في أواسط السودان والتي شكلت محور دراستة للدكتوراه بجامعة ساوثهامبتون ببريطانيا (1995م).
والمأمول أن يستفيد الباحث الدكتور المكاوي من نتائج الحفريات الآثارية الحديثة بأم درمان وبخاصة بموقع السروراب -2. وتنبع أهمية هذا الموقع من أنه يرجع للعصر الحجري الوسيط (الميزوليثك) ويكمل بذلك الفجوة الحضارية بين حضارتي خور أبو عنجة (العصر الحجري القديم – الحقبة الآشولية) والشهيناب (العصر الحجري الحديث)بمنطقة أم درمان.وعثر في هذا الموقع على موجودات حضارية (فخار – أدوات حجرية وعظمية، خرز، مواد عضوية) وتم تأريخه بكربون 14 المشع إلي 10.000 سنة قبل الوقت الحاضر وتشابه معثوراته تلك التي حصل عليها أنتوني آركل نظيرتها بموقع حضارة الخرطوم الباكرة (العصر الحجري الوسيط) والذي وجد في المنطقة التي يحتلها مستشفي الخرطوم التعليمي حالياً.
ولعل أهمية موقعي السروراب -2 ومستشفي الخرطوم (حضارة الخرطوم الباكرة) أنهما يحتويان على فخاريات ذات زخارف متموجة متصلة(Wav ylines)وأخرى متموجة منقطة(Dotted wavy lines)تمثل السمة المميزة لحضارة العصر الحجري الوسيط بأفريقيا والتي وجدت مستوطناتها في العشرات من الأماكن المتباعدة جغرافياً، شملت وادي النيل، منطقة البحيرات الإستوائية وشمال أفريقيا وغربها. وربما كان ذلك بدواعي إتصال حضاري مباشر أو غير مباشر، حيث أن الظروف الجغرافية المطيرة في عصر الهولوسين كانت مواتية للتنقل والتداخل الحضاري عبر بقاع شاسعة. وكانت القاسم المشترك لهذه المستوطنات المنتمية لحضارة العصر الحجري الوسيط هو إشتراكها في قيم ومفاهيم جمالية عبرت عن نفسها بصورة جلية في نماذج من صناعة الفخار وزخرفته بطرز متفردة أبرزها الطرز ذو الزخرفة المتموجة. وهذا التجانس القيمي والجمالي يعضد فرضية مؤداها أن هذه المستوطنات المتباعدة الأطراف تمثل أنموذجاً لمنطقة ثقافية مشتركة بؤرتها أم درمان خلال الحقبة المتأخرة لحقبة ما قبل التاريخ في أفريقيا.
ومما يستلفت الإنتباه أن ثمة فجوة حضارية بين حضارات منطقة أم درمان ونظيراتها في شمال السودان في الفترة التي أعقبت نهاية العصور الحجرية وحتى قيام دولة كوش الثانية (مروي) (3000 – 900 ق.م)، إذ لانجد أي منشآت معمارية أو أبنية ذات أهمية إدارية ودينية تشي باُبهه الملك وعظمة السلطان بأم درمان لمدة تربو عن الألفي عام وحتى نهاية مملكة مروي (350م).
وتشير الكشوفات الأثرية لجامعة الخرطوم بشمال أم درمان (أنظر:أحمد محمد علي الحاكم 1979م ، حفريات جامعة الخرطوم في السروراب والباعوضة،شمال أم درمان،مجلة Meroitica5:151-155) إلي أدلة لحضارات ترجع إلي الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد (جزيرة إسلانج، النوفلاب، الباعوضة وجبل أم مرحي). ولعل من المظاهر اللافتة للإنتباه في الحفريات الآثارية بشمال أم درمان الأعداد المهولة لل########ات ومقابر التلال التي تعود للفترة المتأخرة لما بعد حضارة كوش (مروي) (900 ق.م – 350م) والعصور الوسطي المبكرة (350 – 543م). وهذه المقابر التلية أغلبها دائرية الشكل، يعلوها الحصى والتراب من الخارج ويبرز مخططها الداخلي على هيئة " حدوة الحصان ". ووجدت بداخلها هياكل عظمية لأفراد من مختلف الأنواع (الجندر) والأعمار وكلهم من عامة الناس. كما لوحظت مقابر على هيئة الطوة (المقلاة) أو بيضاوية الشكل لها ما يشابهها في حضارة البان قريف (Pan- grave)، بجنوب مصر وفي الصحراء الشرقية قبل ما يزيد عن 1500 سنة خلت.
وبإجالة النظر في عادات الدفن الجنائزية التي وجدت في المقابر التلية التي ترجع للفترة المتأخرة لحضارة كوش المروية ومابعدها في شمال أم درمان,نلحظ انها متماثلة بدرجة كبيرة مع تلك التي تم التعرف عليها في شمال كردفان وفي المنطقة الممتدة من نبتا الى الجزيرة، سنار، وجبل موية (النيل الأزرق)،علاوة على تشابهاتها التي لاتخطئها العين مع المعثورات الحضارية لذات الفترة على إمتداد النيل الأبيض.وقد أدى كل ذلك إلى إفتراض أنها تمثل ثقافة واحدة عادة ماتوصف بـ " ثقافة تنقاسي " نسبة إلي الموقع الأنموذجي لها بتنقاسي في الإقليم الشمالي للبلاد.
ومما سلف ذكره، من الواضح أن هناك صلات ثقافية وحضارية بادئة للعيان بين مختلف المجموعات السكانية التي قطنت السودان القديم (كوش) منذ أزمنة موغلة في القدم. وتاريخ أم درمان الحضاري كما كشفت عنه المعثورات الأثرية ذو صلة وثيقة العُرى بالعديد من أجزاء السودان الأخرى. وتؤمي كل الشواهد الأثرية المتوفرة إلي قواسم حضارية مشتركة في العادات والتقاليد والفنون لسكان هذا القطر المترامي الأطراف منذ آجال بعيدة. وهذه الخاصية الفريدة لا تجترحها إلا أمة تشعر بتمايز عن غيرها من الأمم. وهذا لا يتأتي بالطبع إلا ببلوغ الحد الأدني من التجانس الثقافي والحضاري الذي يسمح بوجود كيان معنوي جدير بأن ينعت بـ" الشخصية القومية" ، بغض النظر عن الولاءات العرقية والجهوية والعقدية. وهذا ما كان من شأن السودان منذ عشرات القرون . فالسودان كتراكم ثقافي-تاريخي وكبنية سياسية مؤسسية –أي دولة- كان معروفاُ منذ آلاف السنين. والله المستعان وهو الهادي إلي سواء السبيل.
بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير
إبتدر المحاضر حديثة بفذلكة تاريخية عن تاريخ العمل الآثاري في السودان بوجه عام وفي مدينة أم درمان على وجه التخصيص. وأبان أن آثار السودان عرفها العالم لأول مرة بعد إجراء المسح الآثاري الأول للنوبة(1907 - 1911م) والذي شمل (95) موقعاً بين الشلال الثاني ووداي السبوع، وأعقبه المسح الآثاري الثاني (1929 – 1934م) بعد أن أجري التوسع الثاني لخزان أسوان. وأشار إلي الإكتشافات المهمة لهذه المسوحات الرائدة التي أماطت اللثام عن الحضارات النوبية غير المدونة (المجموعة " أ " ونظيراتها " ب "و "ج "). ونوه الدكتور محمد المكاوي بالعمل الذي إضطلعت به جامعتي بوسطن – هارفارد الأمريكية برئاسة عالم الآثار الأمريكي الشهير جورج أندرو رايزنر.
وأورد المحاضر خلفية علمية – مهنية لعالم الآثار البريطاني أنتوني آركل الذي شغل منصب أول مدير لمصلحة الآثار السودانية (1938 – 1948م) والذي يعتبر مؤسس لدراسات عصور ما قبل التاريخ في السودان .وأثمرت المسوحات والحفريات الآثارية التي قام بها عن ظهور حضارات العصور الحجرية الثلاث (العصر الحجري القديم – خور أبو عنجة، العصر الحجري الوسيط – الخرطوم الباكرة، فالعصر الحجري الحديثة وتمثله حضارة الشهيناب).
أبرز المحاضر بانوراما تاريخية مفصلة ومدعمة بالمراجع العلمية المهمة للحضارات الأولي في السودان القديم والتي يعتقد الدكتور محمد المكاوي أن أم درمان هى مهدها وأن حضارات العصور الحجرية فيها كان لها الفضل في نشر الوعي الحضاري والثقافي في وادي النيل وأجزاء واسعة من القارة الأفريقية.
قدم المكاوي وصفاً للأدوات الحجرية التي وجدت في موقع خور أبو عنجة والذي يرجع للعصر الآشولي مستنداً إلي كتيب أنتوني آركل المعنّون " العصر الحجري القديم في السودان الإنجليزي – المصري 1947م ". وتشمل هذه الأدوات فؤوس يدوية وهي أبرز الموجودات، فضلاً عن نُوى، مفارم،سكاكين ومكاشط صنعت من حجر الصوان والحجر النوبي الرملي،وإستخدمت في الصيد وإعداد الطعام وقطع الأشجار والقتال.وقورنت هذه الأدوات الحجرية التي ترجع للعصر الآشولي في خور أبوعنجة بمثيلاتها في شمال السودان خاصة في وادي حلفا، جزيرة صاي ومنطقة دنقلا. وتم التنويه بالدراسات الشاملة للعصر الحجري القديم والتي أجرتها بعثة جامعة ميثودست الجنوبية بولاية تكساس برئاسة البروفيسور الفرد ويندورف وظهرت في المؤلف المعروف باسم " ما قبل التاريخ في النوبة –1968م ". وأشير إلى عمل البعثة المشتركة لدراسات ماقبل التاريخ برئاسة البروفيسور الأمريكي جويل شاينر التي أنجزت دراسات عن هذه الحقبة(آثارية وجيولوجية)بشمال السودان(أنظر: ج. شاينر1971م:عصر ماقبل التاريخ وجيولوجيا شمال السودان).كما تناول الباحث الدراسة الموسوعية للبروفيسور وليام آدمز (جامعة كنتكي – الولايات المتحدة الأمريكية) التي خطها في كتابه المعروف باسم " النوبة رواق أفريقيا"(الطبعةالثالثة2010م)والتي قدم فيها الأخير عرضاً مفصلاً للحضارات السودانية منذ أقدم العصور وإلي العصور التاريخية المتأخرة.
وجدير بالذكر أن الدكتور محمد المكاوي على رأي مفاده أن حضارة خور أبو عنجة (العصر الحجري القديم -الآشولي) (300.000ق.م) أعقبتها تاريخياً حضارة الشهيناب (العصر الحجري الحديث 4500 -3000ق.م) بمنطقة أم درمان. غير أن هذا الرأي قد تجاوزه الزمن سيما وأن حفريات جامعة الخرطوم والتي كان لي شرف المشاركة فيها (1977 – 1983 – 1990م) بمنطقة شمال أم درمان (السروراب) كشفت عن حضارة تنتمي للعصر الحجري الوسيط (الميزوليثك) هي " حضارة السروراب -2 " تمثل مرحلة إنتقالية بين الحضارتين السالفتين(أنظر أدناه لمزيد من التفاصيل). وتعتبر حضارة الشهيناب التي بزغ فجرها منذ بداية العصر الحجري الحديث في أفريقيا هي الأنموذج الذي إستقت منه العديد من حضارات العصر الحجري الحديث في وادي النيل وفي أقاليم متفرقة من شمال وأواسط وغرب أفريقيا. ولعل أبرز سمات هذه الحضارة أنها عرفت ولأول مرة في التاريخ الأفريقي إستئناس الحيوان، كما إستخدمت النار وأدوات عرفت بالأزاميل الحجرية (القاوج Gouge ) وأخرى عظمية (سلتيCelt ). وأثبت الشاهد الأثري صلتها بالعديد من المستوطنات التي تؤرخ للعصر الحجري الحديث حيث وجدت فخارياتها المصقولة والمتميزة والمزخرفة بالحزوز المتموجة المنقطة وبالمثلثات وتلك التي على هيئة حراشف السمك في أجزاء عديدة من أواسط السودان وشمال وادي النيل (حضارة الفيوم) وأصقاع بعيدة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وأكد المكاوي في حديثه أن حضارة الشهيناب أكثر الحضارات تقدماً في فترة العصر الحجري الحديث وأنها انتقلت عن طريق مهاجرين شمالاً ووصلت إلي منطقة عبكا (Abka) في أقصى شمال البلاد. ويستدل على ذلك بالتشابه في الفخار بين حضارتي الشهيناب وعبكا، وأن هذا النوع من الفخار المصقول ذي الزخرفة المتميزة إكتشف لاحقاً في أم درمان " أثناء الحرب العالمية الثانية " عندما كان الجنود يحفرون " خنادق " تحت جسر النيل الأبيض.
وخلص الدكنور محمد المكاوي إلي أن الحضارات القديمة التي إنبثق فجرها في أم درمان وبخاصة حضارة العصر الحجري القديم الأسفل (الآشولي) في خور أبو عنجة وحضارة العصر الحجري الحديث في الشهيناب (50كم شمال أم درمان) هي المرتكز الأساسي لتاريخ السودان القديم.
وعقَب البروفيسور يوسف فضل حسن على هذه المحاضرة القيمة وركز في حديثه على بعض النقاط وهي:أولاً: أن السودان يعتبر بلداً رائداً في مجال التقدم والحضارة الإنسانية رغم أن أول ظهور للإنسان كان في أثيوبيا (وادي الأباي) حوالي ثلاثة مليون سنة مضت كما وأن الحفريات الأثرية كشفت عام 1959م عن بقايا إنسانية ترجع إلي مليوني سنة بموقع أولدفاي قورج بسهل سرنقيتي في شرق تنزانيا.
أفاض المؤرخ يوسف فضل في الحديث عن تاريخ العمل الآثاري في السودان ذاكراً أن الرواد الأوائل وعلى رأسهم أ.ج آركل ورونالد أوليفر ووليم آدامز كان لهم دور كبير في إثراء العمل الآثاري والتاريخي بالبلاد. وأِشاد بالمجهود الذي قام به المحاضر في دراسته لتاريخ السودان القديم وإرتكازه على دراسات مرجعية موثقة. وتوقع أن يظهر الكتاب الذي يأمل الدكتور المكاوي إخراجه إلي حيز الوجود عن تاريخ السودان القديم بحلة قشيبة وبآراء سديدة تنير الطريق للباحثين وبخاصة السودانيين بغية الكشف عن حضارات هذا القطر ذي التاريخ المؤثل والذي لم نعرف عنه حتى اليوم برغم المكتشفات الأثرية المتلاحقة في العقود الأخيرة – سوى النذر اليسير. فلاتزال هناك الآلاف من المستوطنات الأثرية في حاجة إلي العمل العلمي الجاد لإخراج كنوزها إلي حيز الوجود.
وإختتم النقاش والتعقيب شخصي الضعيف موضحاً الأهمية التاريخية لمدينة أم درمان حيث تضم كافة إثنيات (أعراق) وثقافات هذا الوطن. بيد أن أهميتها في العصر الحديث – كما هو معلوم – مستمدة من كونها حاضرة دولة المهدية (1885 – 1898م) التي تعتبر أول حركة وطنية قام بها السودانيون في العصر الحديث ضد المستعمر، رغم أن طابعها وأهدافها كانا تقليديين وإسلاميين أكثر مما كانا لدوافع دنيوية محضة.وأسماها الإمام المهدي بـ " البقعة الطاهرة " و عرفت بـ " العاصمة الوطنية "في مقابل الخرطوم التي ظلت قصبة البلاد الإدارية منذ العهد التركي (1823م).
ويشير السجل الآثاري التاريخي إلي بزوغ حضارات عريقة في منطقة أم درمان منذ عصور ما قبل التاريخ وإلي العصور التاريخية اللاحقة. وأجد نفسي في توافق مع ما ذكره المحاضر من أن حضارة خور أبو عنجة تمثل أول الحضارات والمرتكز لتاريخ السودان القديم. وقد قُيضّ لي المشاركة في التصنيف النوعي الأولي للأدوات الحجرية لموقع خور أبو عنجة والذي أجرته زميلتي الأستاذة شادية صلاح عبدالرحمن علي طه(جامعة الخرطوم 1979م) في أواخر السبعينات الماضية. وقامت لاحقاً في الثمانينات الماضية ببحث آخر أكثر شمولية عن حضارة العصر الحجري القديم في أواسط السودان إستناداً إلي المخلفات الحضارية للعصر الآشولي نالت به درجة الماجستير من جامعة كمبردج البريطانية.وجدير بالذكر أن للأدوات الحجرية ب"خور أبوعنجة" مايماثلها بمنطقة شمال أم درمان جمعت من على سطح الأرض في خور أبو دلالة،وادي سيدنا وجبل المعيقل-ثلاثون ميلاً شمال أم درمان-كذلك تلاحظ وجودها في مناطق متفرقة بشرق وغرب (كردفان ودارفور)البلاد.
أشار كاتب هذه الأسطر إلي التنقيبات الآثارية التي أجراها بشمال أمدرمان (موقع السروراب) في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات الماضية تحت إشراف عالم الآثار السوداني الراحل البروفيسور أحمد محمد على الحاكم ((الرئيس الأسبق لقسم الآثار بجامعة الخرطوم، 1971 – 1981م والمدير السابق للهيئة القومية للآثار والمتاحف السودانية (1990 – 1994م))والتي تعتبر جزءً أساسياً من أطروحته لنيل درجة الماجستير في علم الآثار من جامعة الخرطوم (1982م). كما أدرج بعضاَ من نتائج حفرية موقع السروراب -2 في الدراسة المقارنة لمواقع ما قبل التاريخ (تقنية الخزف)في أواسط السودان والتي شكلت محور دراستة للدكتوراه بجامعة ساوثهامبتون ببريطانيا (1995م).
والمأمول أن يستفيد الباحث الدكتور المكاوي من نتائج الحفريات الآثارية الحديثة بأم درمان وبخاصة بموقع السروراب -2. وتنبع أهمية هذا الموقع من أنه يرجع للعصر الحجري الوسيط (الميزوليثك) ويكمل بذلك الفجوة الحضارية بين حضارتي خور أبو عنجة (العصر الحجري القديم – الحقبة الآشولية) والشهيناب (العصر الحجري الحديث)بمنطقة أم درمان.وعثر في هذا الموقع على موجودات حضارية (فخار – أدوات حجرية وعظمية، خرز، مواد عضوية) وتم تأريخه بكربون 14 المشع إلي 10.000 سنة قبل الوقت الحاضر وتشابه معثوراته تلك التي حصل عليها أنتوني آركل نظيرتها بموقع حضارة الخرطوم الباكرة (العصر الحجري الوسيط) والذي وجد في المنطقة التي يحتلها مستشفي الخرطوم التعليمي حالياً.
ولعل أهمية موقعي السروراب -2 ومستشفي الخرطوم (حضارة الخرطوم الباكرة) أنهما يحتويان على فخاريات ذات زخارف متموجة متصلة(Wav ylines)وأخرى متموجة منقطة(Dotted wavy lines)تمثل السمة المميزة لحضارة العصر الحجري الوسيط بأفريقيا والتي وجدت مستوطناتها في العشرات من الأماكن المتباعدة جغرافياً، شملت وادي النيل، منطقة البحيرات الإستوائية وشمال أفريقيا وغربها. وربما كان ذلك بدواعي إتصال حضاري مباشر أو غير مباشر، حيث أن الظروف الجغرافية المطيرة في عصر الهولوسين كانت مواتية للتنقل والتداخل الحضاري عبر بقاع شاسعة. وكانت القاسم المشترك لهذه المستوطنات المنتمية لحضارة العصر الحجري الوسيط هو إشتراكها في قيم ومفاهيم جمالية عبرت عن نفسها بصورة جلية في نماذج من صناعة الفخار وزخرفته بطرز متفردة أبرزها الطرز ذو الزخرفة المتموجة. وهذا التجانس القيمي والجمالي يعضد فرضية مؤداها أن هذه المستوطنات المتباعدة الأطراف تمثل أنموذجاً لمنطقة ثقافية مشتركة بؤرتها أم درمان خلال الحقبة المتأخرة لحقبة ما قبل التاريخ في أفريقيا.
ومما يستلفت الإنتباه أن ثمة فجوة حضارية بين حضارات منطقة أم درمان ونظيراتها في شمال السودان في الفترة التي أعقبت نهاية العصور الحجرية وحتى قيام دولة كوش الثانية (مروي) (3000 – 900 ق.م)، إذ لانجد أي منشآت معمارية أو أبنية ذات أهمية إدارية ودينية تشي باُبهه الملك وعظمة السلطان بأم درمان لمدة تربو عن الألفي عام وحتى نهاية مملكة مروي (350م).
وتشير الكشوفات الأثرية لجامعة الخرطوم بشمال أم درمان (أنظر:أحمد محمد علي الحاكم 1979م ، حفريات جامعة الخرطوم في السروراب والباعوضة،شمال أم درمان،مجلة Meroitica5:151-155) إلي أدلة لحضارات ترجع إلي الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد (جزيرة إسلانج، النوفلاب، الباعوضة وجبل أم مرحي). ولعل من المظاهر اللافتة للإنتباه في الحفريات الآثارية بشمال أم درمان الأعداد المهولة لل########ات ومقابر التلال التي تعود للفترة المتأخرة لما بعد حضارة كوش (مروي) (900 ق.م – 350م) والعصور الوسطي المبكرة (350 – 543م). وهذه المقابر التلية أغلبها دائرية الشكل، يعلوها الحصى والتراب من الخارج ويبرز مخططها الداخلي على هيئة " حدوة الحصان ". ووجدت بداخلها هياكل عظمية لأفراد من مختلف الأنواع (الجندر) والأعمار وكلهم من عامة الناس. كما لوحظت مقابر على هيئة الطوة (المقلاة) أو بيضاوية الشكل لها ما يشابهها في حضارة البان قريف (Pan- grave)، بجنوب مصر وفي الصحراء الشرقية قبل ما يزيد عن 1500 سنة خلت.
وبإجالة النظر في عادات الدفن الجنائزية التي وجدت في المقابر التلية التي ترجع للفترة المتأخرة لحضارة كوش المروية ومابعدها في شمال أم درمان,نلحظ انها متماثلة بدرجة كبيرة مع تلك التي تم التعرف عليها في شمال كردفان وفي المنطقة الممتدة من نبتا الى الجزيرة، سنار، وجبل موية (النيل الأزرق)،علاوة على تشابهاتها التي لاتخطئها العين مع المعثورات الحضارية لذات الفترة على إمتداد النيل الأبيض.وقد أدى كل ذلك إلى إفتراض أنها تمثل ثقافة واحدة عادة ماتوصف بـ " ثقافة تنقاسي " نسبة إلي الموقع الأنموذجي لها بتنقاسي في الإقليم الشمالي للبلاد.
ومما سلف ذكره، من الواضح أن هناك صلات ثقافية وحضارية بادئة للعيان بين مختلف المجموعات السكانية التي قطنت السودان القديم (كوش) منذ أزمنة موغلة في القدم. وتاريخ أم درمان الحضاري كما كشفت عنه المعثورات الأثرية ذو صلة وثيقة العُرى بالعديد من أجزاء السودان الأخرى. وتؤمي كل الشواهد الأثرية المتوفرة إلي قواسم حضارية مشتركة في العادات والتقاليد والفنون لسكان هذا القطر المترامي الأطراف منذ آجال بعيدة. وهذه الخاصية الفريدة لا تجترحها إلا أمة تشعر بتمايز عن غيرها من الأمم. وهذا لا يتأتي بالطبع إلا ببلوغ الحد الأدني من التجانس الثقافي والحضاري الذي يسمح بوجود كيان معنوي جدير بأن ينعت بـ" الشخصية القومية" ، بغض النظر عن الولاءات العرقية والجهوية والعقدية. وهذا ما كان من شأن السودان منذ عشرات القرون . فالسودان كتراكم ثقافي-تاريخي وكبنية سياسية مؤسسية –أي دولة- كان معروفاُ منذ آلاف السنين. والله المستعان وهو الهادي إلي سواء السبيل.
بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير
Comments
Post a Comment