ميسون السويدان تفتح النار
الوهابية ضيّعت الدين
هاشم عبد الستار
على السطح، يبدو النزاع مدرسياً بين الاتجاه الظاهري في التعامل مع النص وبين الإتجاه الباطني الذي يرى المعنى ثاوياً وعميقاً في ما وراء الكلمات، أو ما يعرف بالمدرسة الدلالية، أي التي تبحث في الدلالات البعيدة والعميقة للكلمة والمعاني غير الظاهرة.ميسون السويدان |
أغمِضْ عيونَكَ وافتحْ ما بِداخِلِها |
هل تُبصِرُ العينُ إنْ لم تُنصِتِ الرُّوحُ؟ |
أجابني صوتُها، والصوتُ مبحُوحُ |
لا تَطرُقِ البابَ إنَّ البابَ مفتوحُ |
فهي في تغريدتها المثيرة للجدل لم تكن من نتاج ميسون، بل هي أشبه باستعارة من قصيدة شهيرة لابن الرومي يتحدث فيها عن البحث عن الله وخلص فيها الى أنك لن تجد الله تعالى إلا بقلبك.
كلّما الأنوارُ خانَتْ |
أشرقتْ شمسُكَ فِيَّا |
كلُّ حبٍّ غيرُ حــ |
ـبِّ اللهِ لا يبقى وَفِيّا |
أنت فوقي أنت تحتي |
أنت حولي أنت فِيَّا |
حين خاف الناسُ منّي |
أنت مَن خاف عليَّا |
حين راح الناس عنّي |
أنت من عاد إليَّا |
كِذبُ حالي كهدايا ليس ترقى للغلافِ.. بِتُّ أجري حول نفسي.. ترتجي رجلاي رَفسي.. وألفُّ الأرض بحثاً عن دواءٍ لالتِفافي.
هذه المقدمة التوضيحة تكشف الجانب المجهول الذي أراد التكفيريون إسدال ستار من العتمة عليه هو ما كانت ميسون تريد الإضاءة عليه حتى لا ينجح التكفيريون في الترويج لدعوى الوقوع في الكفر في ضوء نصوص تعمّد التكفيريون إساءة فهمها لينزوعوا عن ميسون صفة الإسلام.
تحت السطح، يكمن نزاع رؤيوي بطابع لاهوتي، عبّر عن نفسه في دائرة التابو، في سياق محاولة انتزاع مشروعية من طرف يجد نفسه في موقع الضحية زعماً، وأراد صد الهجوم بطريقة تنكيلية تنزع الصفة الدينية عن الخصم.
ميسون السويدان، إبنة الداعية الاسلامي الكويتي المعروف طارق السويدان، هي شاعرة وطالبة دراسات عليا، وقد نالت جزء من العقاب الذي ناله والدها من قبل خصومه الوهابيين بدرجة أساسية. فثمة من تربّص بها الدوائر للنيل من والدها عبر النيل منها.
الشابة ميسون مغرّدة ناشطة في موقع (تويتر) ولها أتباع كثر لصفحتها، وكانت تخوض نقاشات ساخنة مع من يختلفون معها، خصوصاً أتباع الإتجاه السلفي الوهابي.
في تغريدة لافتة وذات دلالة عميقة، كتبت ميسون عن مشاهداتها في مكة المكرمة، وما اقترفته الوهابية هناك من مظاهر تشدّد والتزييف العمراني الذي تسلل الى المدينة المقدّسة والذي ذهب بوقار وعبق وهوية هذا المكان المقدّس الذي يقصده المسلمون قاطبة إما بأجسادهم أو بقلوبهم وأرواحهم.
وعلى طريقة نيتشه الذي كشف الغطاء عن موت الإله في قلوب الشعوب المسيحية الأوروبية، فإن ميسون تحدثت بلغة مشابهة حين قالت بأنها جاءت الى مكة بحثاً عن الله، ولم تجده في الحرم. خصوم والدها اعتبروا هذه العبارة كفراً واضحاً دون عناء التفكير في الدلالات والمعنى الخفي في عبارة ميسون، الشاعرة والأديبة. بطبيعة الحال، إن أقصى ما يظهره المعنى أن ميسون ربما أساءت التعبير مع الخالق ولم تقصد البته الكفر بوجود الخالق، بل كفرت بممارسات الخلق إزاء الخالق، الذي لم يعد موجوداً في سلوك المخلوقين الذين يشرفون على البيت الحرام.
عاصفة من التغريدات انطلقت في تويتر نقداً وتجريحاً وتشهيراً، فيما كانت تؤثر ميسون الصمت في البداية واضطرت في البداية أن تمحو تغريدتها التي كتبتها وبررت ذلك بوجود (عقول جاهلة)، إلا أنها بعد ذلك قررت أن تخوض حرباً مضادة وقامت بنشر سلسلة تغريدات في حسابها ضد أولئك الوهابيين الذين قاموا بوصمها بالكفر. وقالت (أتظنونني سأسكت عنكم يا مكفّرون؟ لا والله لن أسكت.. لم أتمسّك بديني كل هذه السنين في الغرب حتى يأتي “المسلمون” ليسلبوني إياه). وهنا بدت ميسون مباشرة في عبارتها وهجومها على فريق محدد وهم المكفّرين الوهابيين.
سلسلة من التغريدات تنطوي على توصيفات ناقدة للمدرسة الوهابية، كقولها: (لقد عدنا والله إلى الجاهلية، أنتم تعذّبون المسلمين بالشتم حتى تخرجوهم من دينهم.. وأنا والله لن أخرج من دين الله ولو كره المكفرون)، ثم تخلص لنتيجة (هذا الدين الذي تدافعون عنه ليس بديني. هذا صحيح. أنا ديني الإسلام والرحمة وأنتم دينكم التكفير والنَّقمة).
وتضرب ميسون أمثلة على ذلك منها: (لم أذهب إلى مكة لأرى من يدَّعي أنَّه يمثِّل الدين يضرب أرجل النساء بالعصا ويهشّهن كالغنم.. أنا لست بعيراً بيد راعٍ، أنا إنسانة جاءت لتلقى ربها)، وأيضاً: (لم أذهب إلى مكة كي أرى متاجر إسرائيل على بُعد خطوات من بيت الله الحرام).
وفي تغريدة لاذعة وذات مغزى سياسي واضح، كتبت ميسون: (لم أذهب إلى مكة لأرى آلاف الفقراء المساكين يقفون بين يدي الله بأثوابهم البالية فيجبرهم الإمام أن يدعوا للملوك والسلاطين الذين لا يصلّون أصلاً).
وفي تعليق نقدي حول ما اقترفته الوهابية من جرائم في المدينة المقدسة حتى لم يعد للدين من أثر في قلوب الناس: (لم أذهب إلى مكة ليبكي قلبي ما فعلتموه بهذه المدينة الطاهرة.. بالمسجد الحرام، ذهبت إليها بحثاً عن الله.. فلم أجدْه عندكم.. نعم، ما وجدته إلا بقلبي). وتشرح: (لو أنّي بحثت عن الله في مكّة.. أو في مذهبكم التكفيري العنيف الملطّخ بالدماء لكَفرتُ من زمان. هذا صحيح.. فالحمد لله أنّي لم أبحث عنه إلا بقلبي).
وفي لغة صارمة وجازمة تنطوي على تحدي، تقول ميسون: (إن لم يسعنا الإسلام جميعاً - فاذهبوا أنتم. أنا هنا في رحاب الله باقية. مسلمة أنا لن أتخلّى عن ديني ولو قاتلتموني عليه بالسلاح).
وهنا توضّح ميسون ما عنته بعدم العثور على الله في مكة بقولها: (أنتم قتلتم الحلّاج …أنتم قتلتم الروحانية في مكة.. أنتم قتلتم الله في قلوب الناس.. أنتم شوّهتم دين الله، ألا شاهت وجوهكم).
ومن أجل رفع اللبس حول الجهة التي تقصد بها في تغريداتها، كتبت تقول: (مَن كان يعبد محمد بن عبدالوهاب - فإنّه قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت).
وفي لغة أدبية بطابع ديني ترد ميسون على الوهابية التكفيرية وتقول لهم: (أحدٌ أحدْ.. ربُّ المكَفِّرِ شيخُهُ.. رب المكفِّرِ سيفُهُ.. وأنا إلهي ليس يسكن في جمادٍ أو جسدْ.. أَحدٌ أحَدْ.. أحَدٌ أحَدْ). تقمّصت ميسون الجيل الأول من المسلمين الذين واجهوا العنت من بني قومهم بعد دخولهم دين الاسلام، وتذكّر هنا بما جرى على آل ياسر وبلال الحبشي وغيرهم وخاطبت الوهابية التكفيرية قائلة: (إن تضعوا حجر التكفير على صدري فلا أقول إلا: أحدٌ أحدْ.. أنا ما وجدتُك في بلدْ، أنا ما وجدتك في جسدْ، أنا ما وجدتك في سوى قلبٍ لغيرك ما سجدْ). وقد فتحت العبارة قريحة الشعر لدى ميسون التي استكلمت تغريداتها بلون شعري جميل كقولها: (أَحدٌ أحَدْ.. أحَدٌ أحَدْ.. ربُّ المُكفِّرِ قاتلٌ.. ربُّ المكفِّر مُستَبِدْ.. وأنا إلهي في فؤادي.. ليس يقتلُهُ أحَدْ).
في الرد على من يسأل عنها وإلى أي مذهب تنتمي وهل هي تسدي خدمة للأعداء الإفتراضيين بحسب التكفيريين، فردّت عليهم قائلة: (فقلت لأهل الحبِّ كالفقهِ مذهبٌ..ويجمعُنا في الليلِ نورُ مُحمَّدِ).
وفيما حاول أحد المعقّبين على تغريداتها تكفير شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بطريقة مواربة سألته ميسون: (تريد أن تكفّر شيخ الأزهر؟ هيا قولوها بصراحة حتى يصيبكم غضب المصريين فيأتوكم بثورة تطهر الإسلام من دماء التكفير).
والى أولئك الذين طالبوها بالتوبة ردّت عليهم بالجزم: (لا والله ثم الله لن أتوب أو أستغفر ربي من كلمة خرجت من أعماق إيماني، هل يُقال تبْ للذي يصيح: سبحانك مكانك القلب وحده! بل أنتم توبوا عن جهلكم).
وللإجابة عن استفسار أولئك الذين سألوها عن السبب الذي دفع بها لمسح تغريدة البحث عن الخالق، ذكّرتهم بأنها لم تكن تغريدة في الأصل بل كانت (مجرد منشن خاص)، وأنها مسحته خلال دقيقتين (اتقاء لجهلكم - لكنكم قوم تصوّرون وتكفّرون).
ورغبة منها في تأكيد حبها لنموذج التعايش في مصر تذكّر خصومها التكفيريين بواقع العلاقة بين المسلميين والمسيحيين حيث هم أحباب (حيث الناس تعبّر عما في قلوبها بلا خوف أو نفاق.. حيث يُدَلّ التائه.. ولا يُكفَّر من يبحث عن الله).
ومن هنا تتساءل بطريقة استنكارية: (لماذا تصرّون على إثبات زندقة المؤمنين؟ بدلا من أن تدعوا الكفار إلى الإسلام تخرجون المسلمين من الدين جبراً لماذا؟ ماذا يضركم إيماني؟).
وفي الاخير تسدي نصيحة للتكفيريين وهي في الوقت نفسه تحذير لهم بقولها: (اتقوا الله هل جننتم؟ هل بعثكم الله لتخرجوا الناس من دينه؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، شهادة على من يدّعي زندقتي يوم القيامة).
تغريدات ميسون التي تواصلت للرد على من أراد الانتقام من والدها عبرها، أو تكفيرها بصورة مباشرة بحجة خروجها عن الدين بدعوى الكفر بالله سبحانه، كانت نموذجاً لواحدة من المواجهات المحتدمة مع التكفيريين الذين ربما كانت هناك حاجة لتعريف الجمهور العام بخطورة التكفير بصورة عامة.
التغريدات لفتت الى قضايا عديدة وأبرزها أن التعصب الديني وتماهي التكفيريين مع المستبدّين قد أدى الى جفاف الروح الإيمانية وتشويه الحقائق الدينية التي أبعدت الناس عن الخالق حتى في أقدس البقاع في الأرض.
أطلقت ميسون بجرأة عالية حملة نقد ضد التكفيريين الذين ربما لم يتوقعوا أن تكون هذه الشاعرة الشابة على درجة كبيرة من الشجاعة والمعرفة بحيث قررت أن ترد بحزم على من نال من إيمانها ووصمها بالكفر، واعتبرت ذلك من باب المصادرة، وتقمّص دور الخالق، ونسف لحق الإنسان في الإجتهاد والإختلاف، وهو ما تفتقر اليه الوهابية منذ نشأتها الأولى.
Comments
Post a Comment