في المصطلح والمفهوم
منصف الوهايبي
قد يكون من نافل القول أن نذكّر بأنّ المصطلح لا يمتلك حياته ولا سلطته المرجعيّة، إلاّ إذا أدّى عن «المفهوم» الذي وضع له بدقّة، من جهة؛ واتّصل بأفهام القرّاء، من جهة أخرى. فعلى أساس من هذه الوظيفة المَنُوطَة به؛ نستطيع تقدير رجْحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه، أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة. أمّا أن تقول كاتبة وباحثة مرموقة إنّها غير «معنيّة بمناقشة اصطلاح، وإنّما بتحليل نص سرديّ»؛ فقول غريب؛ فالمنهاج المعهود المعقود في مجرى العادة، إنّما هو افتتاح المسائل والمقاربات العلميّة؛ بالتأصيل المفهومي لأهمّ مصطلحاتها. والتذرّع بأّنّه سبق تجنيس النصوص بـ(مصطلح»التخييل الذاتي»)، الذي «شاعت ترجمة طرفيه في اللغة العربية بالتخييل مقابلا لـ fiction، وبالذاتي لـ auto، ولهذا اقتضت الترجمة أن نحترم هذا الشرط»(زهور كرام القدس 18 مايو/أيار)، لا يعفي الباحث من الاستدراك عليه، إذا أخلّ بوظيفته أو قصّر دونها، ومن حقّه أن يعيد تأصيله أو يعيد تأسيسه إن لزم.
وقد جرت الأعراف، منهجيّا، على افتتاح البحث ـ أيّ بحث ـ بضبط مفهوم الموضوع العامّ الذي يتعلّق به. ولا أحبّ أن أعود إلى الخوض في هذا المصطلح «أوتو فيكسيون»، و»فيكسيون» تعني في السياق الذي نحن به «قصّة» بل «رواية»؛ وليس «تخييلا» كما يقع في الظنّ.
وقول الباحثة إنّ الكاتب في «التخييل الذاتي»(أي السيرة ـ الرواية) بعبارتنا: «يقف وجها لوجه أمام ذاته، في محاولة منه، لخلق مسافة مع هذه الذات، لإعادة تأملها واكتشافها»، يغفل أنّ هذا يمكن أن ينهض به أسلوب بلاغي هو من لطائف العربيّة مثل «التجريد» أو «الالتفات» على نحو ما فعل طه حسين في «الأيّام»، إذ عدل من تكلّم إلى غيبة. والذات تمثل على أنحاء عدة؛ فقد تكون هويّة، وقد تكون كيانا بسيكولوجيّا…
بيد أنّنا نقول من موقع الذي تأخذه الرّيبة في الأشياء، ليس ثمّة ما هو أكثر رفضا لوجاهة المستحدث من المعرفة، من فكر يأسر نفسه وراء أسوار الكلّيّ من المفاهيم.
نقول هذا لأنّنا أنسنا في أنفسنا انجذابا إلى أفق فلسفيّ لا ينكر وجود الكلّيّ ولا ينكر وجود مفهوم كلّيّ للأشياء، ولا ينكر حدّا كلّيا لجنس أو لنوع من الأشياء؛ لكنّه ينكر أن يكون هذا الكلّي، مفهوما كان أو جنسا، وجودا قبليّا على غراره توجد بعديّا الأشياء المنسوبة إليه. وإذا كان لهذا الكلّيّ أن يوجد، فلَهُ أن يوجد من جهة كونه مؤمّلا بعْدُ، أي من جهة كونه رهان الأشياء تختبر كينونتَها الفعليّة على محكّه عساها تدركه. وما هي بمدركته ما دامت تجري في أفق من الوجود مفتوح أبدا. وهذا «المفتوح أبدا» هو الكلّيّ، ومثل هذا لا يقال ولا يحدّ في مفهوم. فإذا ما قيل أو حُدّ فعلى سبيل الافتراض، ليس إلاّ. ذلك أنّ وضع مفهوم كلّي لجنس من الأشياء أو نوع إنّما هو استباق لكينونة هذه الأشياء؛ إذ كيف تُؤْسر في مفهوم يحدّ كلّيتها من حيث كلّيتها مشروع لا متناه أو هو أبدا قيد الإنجاز، وقد لا يُفرغ من إنجازه البتّة، بل المرجّح أن لا يستكمل مادام كلّيا!
وعليه، فإنّ ما هو موجود فعليّا من الأشياء، إنّما يتعلّق بفرديّات لا بكلّيات؛ وهذه الأخيرة إنّما هي حدود يضعها العقل البشريّ بدافع الرّغبة في إدراك حقائق الأشياء. إنّ الوقوف على ماهية شيء ما يفترض كون ذلك الشّيء قد اكتمل بعْدُ وأتى الوجود على نهايته، أمّا وهو يوجد بعدُ، فضبط حقيقتــه أو ماهيتــه أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى العائلة المفهوميّة الكبرى نفسها نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، إنّما هو استباق موهوم.
يبدو أنّ «الفضاء المعرفيّ» ـ وما ينحتُ له بعضُ أهلِ الفلسفةِ نحتًا بالتّعريب، مقولة «أبستيميْ» Epistémé ـ ونعني ذاك الذي يتمّ ضمنه التّعلّق بإمكان مفهوم كلّيّ ، فضاء منشدّا إلى سقف «النّسق». ولعلّه يتعيّن علينا حتّى نخفّف من غلواء هذا التّكثيف المفهوميّ أن نبيّن كون المقصود بـ»الفضاء المعرفيّ» جملة الإجراءات المفهوميّة والمنهجيّة التي تسم نشاطا معرفيّا، بل حتّى أنشطة معرفيّة مختلفة الأغراض متباينة الرّهانات. وأمّا مقولة النّسق فتدور على كلّ خطاب معرفيّ، سواء تعلّق بممارسة فكريّةً نظريّة مجرّدة أو بممارسة فكريّة إجرائيّة عمليّةً، حيث تلتقي خواتمه ببواديه، وحيث كلّ جزئيّة فيه معقودة على إمكان الالتقاء بأيّ جزئيّة أخرى مهما تكن المسافة التي تباعد بينهما في الخطاب. تبدو هذه الأبستيمي إذن سندا لمن يأمل في وجود مفهوم كلّيّ لجنس من الأجناس الأدبيّة، باعتبارها فضاء معرفيّا تُستَنُّ فيه القواعد التي تجمّع المختلف من الظّواهر (النصوص) تحت معايير توسم بالنّقديّة حتّى إن كانت أحكاما مركّبة من أطراف بعضها واهي الصّلة بالشّعريّة أو الأدبيّة أو الإنشائيّة أو هو معدومها. وذلك لما يتبع الإقرار بمثل هذا الفضاء المعرفيّ من قول بالنّسقيّة. فمهما تباعدت المسافات بين النصوص، وتفرّقت الأذواق، وتنازع النّقّاد من الأحكام، فالأمر يتعلّق بنصوص هي لا بدّ آيلة إلى النسق يستوعب المختلِف داخله ليبقى نسقا. على أنّ المسافة وإن كانت تعني التّباعد ـ لا تعني بالضّرورة الانفصال.
والأرجح أنّ الذين يتعجّلون تحديد المفهوم بما هو الحدّ الكلّيّ للظّاهرة المدروسة أو للموضوع المتنَاوَل، إنّما هم واقعون تحت خلط بين دلالة «المصطلح» ودلالة «المفهوم». أمّا الثّانية ـ فلا يفوتنا أن نضيف أنّها من عمل الفكر عامّة، أو عمل الفكر الفلسفيّ حصرا. وأمّا قرينتها فمن عمل التّواضع الجمعيّ بما يعنيه ذلك من بعض الاعتباط قليلا كان أو كثيرا. وقد لا تخفى النّزعة الإسمانيّة التي تُسند الاعتقاد في المصطلح من حيث هي تفيد الميل إلى إحلال الاسم محلّ الحقيقة، أو تفيد ـ بتحديد أدقّ ـ كون حقيقة الشّيء اسمه. وحسبنا الإشارة إلى أنّ المصطلح في عمومه، إنّما هو حاصل سلطان متأتّ من خارج موضوع المصطلح. وقسْ ذلك على أيّ جنس أدبيّ شئت؛ ترى الذين يصطلحون على حدّه يصدرون في اصطلاحهم عن مؤسّسات من خارج دائرته؛ بعضها يتقاطع مع هذه الدّائرة بشكل أو بآخر، ونعني بذلك مؤسّسة النّقد، وبعضها يتخارج عنها؛ ولكنّه لا ينفكّ يتدخّل في تحديدها، ونعني بذلك كثيرا من المؤسّسات الاجتماعيّة سواء اتّخذت طابعا سياسيّا أو فقهيّا أو حتّى اقتصاديّا (تسويقيّا). وهذا لا يسوق إلى إنكار التّداخل بين الأدبيّ وغيره، وإنّما يفيد بأنّ الخلط بين المصطلح والمفهوم؛ إنّما هو مسند بتدخّل سلطان ذي هموم نفعيّة في الغالب الأعمّ أكثر منها هموما معرفيّة ـ جماليّة. وإذا جاز أن نُسقط دلالة المصطلح على دلالة المفهوم فعلى أساس أنّ هذا الأخير على الأقلّ ـ مفهوم موحّد اصطناعيّا لجملة من الأحكام؛ ولكنّه ليس على أيّ حال مفهوما بالمعنى الذي يكون فيه المفهوم مجرّدا، أي متَمثَّلا من صميم الشّيء نفسه. ومع ذلك ينبغي، ها هنا، ألاّ نقع في الخلط بين تصوّر للمفهوم يمكن أن نسمَه بـ»فطرانيّ» (innéiste)، وهو الذي يبحث تحديد الشّيء ضمن بنية الذّات باعتبارها تشتمل على مبادئ فطريّة، وبين موقف يمكن اعتباره «خبرانيّا» ويدور أساسا حول ربط المفهوم بوشائج ممكنة مع العالَم، وهو يلتقط المفهوم من عمليّة تمفصل بين الذّات والمرجع. أي ينبغي عدم التّورّط في الخلط بين تصوّر للمفهوم يعتبره قبْليّا apriorique، أي هو موجود حتّى من قبل أن يوجد الشّيء فعليّا وبين تصوّر للمفهوم يعتبره بعْديّا postériorique ، أي يوجد والشّيء الذي هو مفهوم له موجود بعد؛ إذ ليس المفهوم ها هنا غير المعنى الذي هو علاقة بين طرفين في عموم تعريفه، وعلاقة بين الذّات والشّيء في مخصوص تعريفه بالنّسبة إلى سياق حديثنا، حيث القصيدة هي المعنى. يقول جيل دولوز: «بإيجاز إنّ المعنى يكون دائما أثرا. وليس فقط أثرا بالمعنى السّببيّ؛ ولكنّه أثر في معنى «الأثر البصريّ»، «الأثر الصّوتيّ» أو ربّما أثر مساحة، أثر وضع، أثر لغة». وهما تصوّران يمكن اعتبارهما ـ وإن بضرب من التّأويل قد يعتريه بعضُ الشّطط ـ امتدادا للتّقابل بين تصوّرين أنجبتهما الفلسفة الإغريقيّة في القرن الخامس (ق.م)، أحدهما يرجّح القول بما هو بالطّبيعة والآخر يرجّح القول بما ينتج عن الاصطلاح والاتّفاق بين البشر.
وعليه فإنّ مفهوما كلّيا للجنس إنّما هو حكم تأليفيّ بعديّ لا يعدو أن يكون غير ظلّ لبعض النصوص. وشأنه شأن الظلّ يرسم تقاليب الضّوء، ولا يستقر ّ على حال، ولا يلبث البتّة في المكان نفسه، وإنّما هو في تحوّل أبدا، بل يغيض في العتمة كلّما غابت الشّمس وجاء اللّيل. كذلك المفهوم يغيض أحيانا كثيرة في عتمة النصوص. وكلّ الشكر لزهور كرام، فنحن نأتلف على قدر ما نختلف.
وقد جرت الأعراف، منهجيّا، على افتتاح البحث ـ أيّ بحث ـ بضبط مفهوم الموضوع العامّ الذي يتعلّق به. ولا أحبّ أن أعود إلى الخوض في هذا المصطلح «أوتو فيكسيون»، و»فيكسيون» تعني في السياق الذي نحن به «قصّة» بل «رواية»؛ وليس «تخييلا» كما يقع في الظنّ.
وقول الباحثة إنّ الكاتب في «التخييل الذاتي»(أي السيرة ـ الرواية) بعبارتنا: «يقف وجها لوجه أمام ذاته، في محاولة منه، لخلق مسافة مع هذه الذات، لإعادة تأملها واكتشافها»، يغفل أنّ هذا يمكن أن ينهض به أسلوب بلاغي هو من لطائف العربيّة مثل «التجريد» أو «الالتفات» على نحو ما فعل طه حسين في «الأيّام»، إذ عدل من تكلّم إلى غيبة. والذات تمثل على أنحاء عدة؛ فقد تكون هويّة، وقد تكون كيانا بسيكولوجيّا…
بيد أنّنا نقول من موقع الذي تأخذه الرّيبة في الأشياء، ليس ثمّة ما هو أكثر رفضا لوجاهة المستحدث من المعرفة، من فكر يأسر نفسه وراء أسوار الكلّيّ من المفاهيم.
نقول هذا لأنّنا أنسنا في أنفسنا انجذابا إلى أفق فلسفيّ لا ينكر وجود الكلّيّ ولا ينكر وجود مفهوم كلّيّ للأشياء، ولا ينكر حدّا كلّيا لجنس أو لنوع من الأشياء؛ لكنّه ينكر أن يكون هذا الكلّي، مفهوما كان أو جنسا، وجودا قبليّا على غراره توجد بعديّا الأشياء المنسوبة إليه. وإذا كان لهذا الكلّيّ أن يوجد، فلَهُ أن يوجد من جهة كونه مؤمّلا بعْدُ، أي من جهة كونه رهان الأشياء تختبر كينونتَها الفعليّة على محكّه عساها تدركه. وما هي بمدركته ما دامت تجري في أفق من الوجود مفتوح أبدا. وهذا «المفتوح أبدا» هو الكلّيّ، ومثل هذا لا يقال ولا يحدّ في مفهوم. فإذا ما قيل أو حُدّ فعلى سبيل الافتراض، ليس إلاّ. ذلك أنّ وضع مفهوم كلّي لجنس من الأشياء أو نوع إنّما هو استباق لكينونة هذه الأشياء؛ إذ كيف تُؤْسر في مفهوم يحدّ كلّيتها من حيث كلّيتها مشروع لا متناه أو هو أبدا قيد الإنجاز، وقد لا يُفرغ من إنجازه البتّة، بل المرجّح أن لا يستكمل مادام كلّيا!
وعليه، فإنّ ما هو موجود فعليّا من الأشياء، إنّما يتعلّق بفرديّات لا بكلّيات؛ وهذه الأخيرة إنّما هي حدود يضعها العقل البشريّ بدافع الرّغبة في إدراك حقائق الأشياء. إنّ الوقوف على ماهية شيء ما يفترض كون ذلك الشّيء قد اكتمل بعْدُ وأتى الوجود على نهايته، أمّا وهو يوجد بعدُ، فضبط حقيقتــه أو ماهيتــه أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى العائلة المفهوميّة الكبرى نفسها نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، إنّما هو استباق موهوم.
يبدو أنّ «الفضاء المعرفيّ» ـ وما ينحتُ له بعضُ أهلِ الفلسفةِ نحتًا بالتّعريب، مقولة «أبستيميْ» Epistémé ـ ونعني ذاك الذي يتمّ ضمنه التّعلّق بإمكان مفهوم كلّيّ ، فضاء منشدّا إلى سقف «النّسق». ولعلّه يتعيّن علينا حتّى نخفّف من غلواء هذا التّكثيف المفهوميّ أن نبيّن كون المقصود بـ»الفضاء المعرفيّ» جملة الإجراءات المفهوميّة والمنهجيّة التي تسم نشاطا معرفيّا، بل حتّى أنشطة معرفيّة مختلفة الأغراض متباينة الرّهانات. وأمّا مقولة النّسق فتدور على كلّ خطاب معرفيّ، سواء تعلّق بممارسة فكريّةً نظريّة مجرّدة أو بممارسة فكريّة إجرائيّة عمليّةً، حيث تلتقي خواتمه ببواديه، وحيث كلّ جزئيّة فيه معقودة على إمكان الالتقاء بأيّ جزئيّة أخرى مهما تكن المسافة التي تباعد بينهما في الخطاب. تبدو هذه الأبستيمي إذن سندا لمن يأمل في وجود مفهوم كلّيّ لجنس من الأجناس الأدبيّة، باعتبارها فضاء معرفيّا تُستَنُّ فيه القواعد التي تجمّع المختلف من الظّواهر (النصوص) تحت معايير توسم بالنّقديّة حتّى إن كانت أحكاما مركّبة من أطراف بعضها واهي الصّلة بالشّعريّة أو الأدبيّة أو الإنشائيّة أو هو معدومها. وذلك لما يتبع الإقرار بمثل هذا الفضاء المعرفيّ من قول بالنّسقيّة. فمهما تباعدت المسافات بين النصوص، وتفرّقت الأذواق، وتنازع النّقّاد من الأحكام، فالأمر يتعلّق بنصوص هي لا بدّ آيلة إلى النسق يستوعب المختلِف داخله ليبقى نسقا. على أنّ المسافة وإن كانت تعني التّباعد ـ لا تعني بالضّرورة الانفصال.
والأرجح أنّ الذين يتعجّلون تحديد المفهوم بما هو الحدّ الكلّيّ للظّاهرة المدروسة أو للموضوع المتنَاوَل، إنّما هم واقعون تحت خلط بين دلالة «المصطلح» ودلالة «المفهوم». أمّا الثّانية ـ فلا يفوتنا أن نضيف أنّها من عمل الفكر عامّة، أو عمل الفكر الفلسفيّ حصرا. وأمّا قرينتها فمن عمل التّواضع الجمعيّ بما يعنيه ذلك من بعض الاعتباط قليلا كان أو كثيرا. وقد لا تخفى النّزعة الإسمانيّة التي تُسند الاعتقاد في المصطلح من حيث هي تفيد الميل إلى إحلال الاسم محلّ الحقيقة، أو تفيد ـ بتحديد أدقّ ـ كون حقيقة الشّيء اسمه. وحسبنا الإشارة إلى أنّ المصطلح في عمومه، إنّما هو حاصل سلطان متأتّ من خارج موضوع المصطلح. وقسْ ذلك على أيّ جنس أدبيّ شئت؛ ترى الذين يصطلحون على حدّه يصدرون في اصطلاحهم عن مؤسّسات من خارج دائرته؛ بعضها يتقاطع مع هذه الدّائرة بشكل أو بآخر، ونعني بذلك مؤسّسة النّقد، وبعضها يتخارج عنها؛ ولكنّه لا ينفكّ يتدخّل في تحديدها، ونعني بذلك كثيرا من المؤسّسات الاجتماعيّة سواء اتّخذت طابعا سياسيّا أو فقهيّا أو حتّى اقتصاديّا (تسويقيّا). وهذا لا يسوق إلى إنكار التّداخل بين الأدبيّ وغيره، وإنّما يفيد بأنّ الخلط بين المصطلح والمفهوم؛ إنّما هو مسند بتدخّل سلطان ذي هموم نفعيّة في الغالب الأعمّ أكثر منها هموما معرفيّة ـ جماليّة. وإذا جاز أن نُسقط دلالة المصطلح على دلالة المفهوم فعلى أساس أنّ هذا الأخير على الأقلّ ـ مفهوم موحّد اصطناعيّا لجملة من الأحكام؛ ولكنّه ليس على أيّ حال مفهوما بالمعنى الذي يكون فيه المفهوم مجرّدا، أي متَمثَّلا من صميم الشّيء نفسه. ومع ذلك ينبغي، ها هنا، ألاّ نقع في الخلط بين تصوّر للمفهوم يمكن أن نسمَه بـ»فطرانيّ» (innéiste)، وهو الذي يبحث تحديد الشّيء ضمن بنية الذّات باعتبارها تشتمل على مبادئ فطريّة، وبين موقف يمكن اعتباره «خبرانيّا» ويدور أساسا حول ربط المفهوم بوشائج ممكنة مع العالَم، وهو يلتقط المفهوم من عمليّة تمفصل بين الذّات والمرجع. أي ينبغي عدم التّورّط في الخلط بين تصوّر للمفهوم يعتبره قبْليّا apriorique، أي هو موجود حتّى من قبل أن يوجد الشّيء فعليّا وبين تصوّر للمفهوم يعتبره بعْديّا postériorique ، أي يوجد والشّيء الذي هو مفهوم له موجود بعد؛ إذ ليس المفهوم ها هنا غير المعنى الذي هو علاقة بين طرفين في عموم تعريفه، وعلاقة بين الذّات والشّيء في مخصوص تعريفه بالنّسبة إلى سياق حديثنا، حيث القصيدة هي المعنى. يقول جيل دولوز: «بإيجاز إنّ المعنى يكون دائما أثرا. وليس فقط أثرا بالمعنى السّببيّ؛ ولكنّه أثر في معنى «الأثر البصريّ»، «الأثر الصّوتيّ» أو ربّما أثر مساحة، أثر وضع، أثر لغة». وهما تصوّران يمكن اعتبارهما ـ وإن بضرب من التّأويل قد يعتريه بعضُ الشّطط ـ امتدادا للتّقابل بين تصوّرين أنجبتهما الفلسفة الإغريقيّة في القرن الخامس (ق.م)، أحدهما يرجّح القول بما هو بالطّبيعة والآخر يرجّح القول بما ينتج عن الاصطلاح والاتّفاق بين البشر.
وعليه فإنّ مفهوما كلّيا للجنس إنّما هو حكم تأليفيّ بعديّ لا يعدو أن يكون غير ظلّ لبعض النصوص. وشأنه شأن الظلّ يرسم تقاليب الضّوء، ولا يستقر ّ على حال، ولا يلبث البتّة في المكان نفسه، وإنّما هو في تحوّل أبدا، بل يغيض في العتمة كلّما غابت الشّمس وجاء اللّيل. كذلك المفهوم يغيض أحيانا كثيرة في عتمة النصوص. وكلّ الشكر لزهور كرام، فنحن نأتلف على قدر ما نختلف.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment