اللحظة التي أزهرت
صبحي حديدي
مايو 31, 2015- القدس العربي
بعد 42 سنة على اغتيال المغني والموسيقي والشاعر والأستاذ الجامعي التشيلي فكتور خارا، يقرر قاض أمريكي، في فلوريدا، النظر في دعوى ضد العقيد بيدرو بارينتوس نونييز، المقيم في فلوريدا حالياً، بتهمة قتل خارا، الذي كان أيقونة الفنّ الرفيع الملتزم، على نطاق أمريكا اللاتينية والعالم بأسره، فضلاً عن كونه رمزاً للنضال ضد انقضاض الطغمة العسكرية التشيلية على التجربة الديمقراطية الفتية في تشيلي، وإجهاضها، واغتيال الرئيس الشرعي المنتخَب سلفادور ألليندي.
الدعوى رفعها، بالنيابة عن زوجة خارا وبناته، «مركز العدالة والمحاسبة»، الذي أبدى محاموه سعادتهم بقرار القاضي؛ ليس دون تسجيل أسف، مع ذلك، لأنّ المحكمة رفضت إدراج تهمة الجريمة بحقّ الإنسانية. وكان جندي تشيلي قد اعترف، سنة 2009، بأنّ خارا وُضع في عهدة بارينتوس، وهذا الأخير هو الذي أطلق النار عليه بعد تعذيبه؛ كما استخلصت محكمة استئناف تشيلية، أعادت فحص جثة خارا، أنّ المغنّي الأيقونة قُتل بـ44 رصاصة في أجزاء مختلفة من جسده.
وكما هو معروف، كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد خططت لانقلاب بينوشيه، في يوم 11/9/ 1971، بموافقة الرئيس ريتشارد نيكسون، وبتنظير جيو ـ سياسي من هنري كيسنجر. وقبل ذلك اليوم المشؤوم، كانت تشيلي بمثابة الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية، إذ أنجزت انتخابات رئاسية، وانتخابات برلمانية بمجلسَيْن، وأتاحت ازدهار صحافة حرّة وحيوية. بعد الانقلاب، تمّ حلّ البرلمان، وتأسيس جهاز أمن سرّي سارع إلى شنّ حملات اعتقال واسعة النطاق، وتعيين حكّام عسكريين لإدارة الجامعات، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، و… حظر الاستماع إلى خارا.
وهكذا، اعتُقل خارا في حرم جامعة سانتياغو، صبيحة اليوم الثاني للانقلاب، واقتيد مع آلاف من الطلاب إلى ستاد رياضي، حيث شرع الجلادون في تكسير أصابعه، رمز غيتاره وموسيقاه الشعبية الملتزمة، باستخدام الهراوات وأعقاب البنادق. وفي ختام ثلاثة أيام من الإذلال والتجويع والتعذيب الوحشي، استشهد خارا رمياً بالرصاص، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، ليس قبل أن يفلح في كتابة قصيدة أخيرة، أخفاها في حذاء أحد السجناء، وختمها هكذا: «ولسوف تزهر اللحظة! سوف تزهر اللحظة!»…
من جانبه كان الجنرال بينوشيه، كبيرهم الذي علمهم السحر وأباح لهم الاعتقال الجماعي والإعدام الصوري، قد اعتقل في لندن، خريف 1998، بناء على مذكرة وقعها القاضي الإسباني بالتازار غارزون، وتضمنت اتهام الجنرال المتقاعد بارتكاب المذابح الجماعية والإرهاب الدولي والتعذيب والخطف. وكان قرار اللجنة القضائية التابعة لمجلس اللوردات البريطاني، الذي قضى بحجب مبدأ الحصانة الدبلوماسية عن الديكتاتور السابق، وشرع بالتالي إمكانية تقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم بحق الإنسانية، خبراً سيئاً للدكتاتوريات.
لكنّ الإجماع على شكل القرار تفاوت في ما يخص المحتوى، فانقسم الرأي إلى فريقين، يشكّل كلّ منهما معسكراً حقوقياً، وأخلاقياً، وسياسياً: الأوّل يفتي بوجوب تقديم الديكتاتوريات إلى المحاكمة بتهمة واحدة كافية هي انتهاك حقوق الإنسان؛ والثاني يقول بوجوب توسيع لائحة الاتهام، لكي تشمل مختلف أنواع الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وبينها، أو على رأسها، الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر المنظمة (في هذه الحال، ثمة أكثر من أساس قانوني يتيح محاكمة الملكة إليزابيث على ما ارتكبته قوّات التاج البريطاني من فظائع في أيرلندا، أو محاكمة جورج بوش الأب على ما ارتكبته القوّات الأمريكية من فظائع بحقّ المدنيين العراقيين العزّل، أو محاكمة أرييل شارون على دور جيش الغزو الإسرائيلي في مجازر صبرا وشاتيلا، هذا إذا وضعنا جانباً عشرات الأمثلة المشابهة التي يحفل بها التاريخ الكولونيالي لدول مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا).
ولقد بدا عجيباً أن تنقضّ جميع السكاكين على ذلك الثور العجوز، بينوشيه، في حين أنّ السادة الأمريكيين الذين شاطروه وزر تلك الجرائم يواصلون التمتّع بنوع خاصّ للغاية من الحصانة المطلقة التي تغسل أيديهم تماماً من أدوار قذرة شتى لعبوها وراء الجنرال، وإلى جانبه، وأمامه في حالات عديدة. رجل مثل كيسنجر لم يصبه من قضية محاكمة بينوشيه أيّ أذى، هو القائل، بلسان بارد كالصقيع، إن الولايات المتحدة في موقفها من انقلاب تشيلي كانت «مخيّرة بين الديمقراطية والاقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الاقتصاد».
مفارقات اليوم، وهي كذلك بعض أشغال التاريخ ودروسه، أنّ تشيلي ديمقراطية مستقرّة، وقضاؤها يعمل بحرّية، مثل صحافتها وأحزابها ونقاباتها وفنونها؛ والمكان، الذي شهد إعدام الشاعر المغنّي، صار اسمه الرسمي… «ستاد فكتور خارا».
الدعوى رفعها، بالنيابة عن زوجة خارا وبناته، «مركز العدالة والمحاسبة»، الذي أبدى محاموه سعادتهم بقرار القاضي؛ ليس دون تسجيل أسف، مع ذلك، لأنّ المحكمة رفضت إدراج تهمة الجريمة بحقّ الإنسانية. وكان جندي تشيلي قد اعترف، سنة 2009، بأنّ خارا وُضع في عهدة بارينتوس، وهذا الأخير هو الذي أطلق النار عليه بعد تعذيبه؛ كما استخلصت محكمة استئناف تشيلية، أعادت فحص جثة خارا، أنّ المغنّي الأيقونة قُتل بـ44 رصاصة في أجزاء مختلفة من جسده.
وكما هو معروف، كانت المخابرات المركزية الأمريكية قد خططت لانقلاب بينوشيه، في يوم 11/9/ 1971، بموافقة الرئيس ريتشارد نيكسون، وبتنظير جيو ـ سياسي من هنري كيسنجر. وقبل ذلك اليوم المشؤوم، كانت تشيلي بمثابة الديمقراطية الأكثر استقراراً في عموم أمريكا اللاتينية، إذ أنجزت انتخابات رئاسية، وانتخابات برلمانية بمجلسَيْن، وأتاحت ازدهار صحافة حرّة وحيوية. بعد الانقلاب، تمّ حلّ البرلمان، وتأسيس جهاز أمن سرّي سارع إلى شنّ حملات اعتقال واسعة النطاق، وتعيين حكّام عسكريين لإدارة الجامعات، وحظر الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، و… حظر الاستماع إلى خارا.
وهكذا، اعتُقل خارا في حرم جامعة سانتياغو، صبيحة اليوم الثاني للانقلاب، واقتيد مع آلاف من الطلاب إلى ستاد رياضي، حيث شرع الجلادون في تكسير أصابعه، رمز غيتاره وموسيقاه الشعبية الملتزمة، باستخدام الهراوات وأعقاب البنادق. وفي ختام ثلاثة أيام من الإذلال والتجويع والتعذيب الوحشي، استشهد خارا رمياً بالرصاص، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، ليس قبل أن يفلح في كتابة قصيدة أخيرة، أخفاها في حذاء أحد السجناء، وختمها هكذا: «ولسوف تزهر اللحظة! سوف تزهر اللحظة!»…
من جانبه كان الجنرال بينوشيه، كبيرهم الذي علمهم السحر وأباح لهم الاعتقال الجماعي والإعدام الصوري، قد اعتقل في لندن، خريف 1998، بناء على مذكرة وقعها القاضي الإسباني بالتازار غارزون، وتضمنت اتهام الجنرال المتقاعد بارتكاب المذابح الجماعية والإرهاب الدولي والتعذيب والخطف. وكان قرار اللجنة القضائية التابعة لمجلس اللوردات البريطاني، الذي قضى بحجب مبدأ الحصانة الدبلوماسية عن الديكتاتور السابق، وشرع بالتالي إمكانية تقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم بحق الإنسانية، خبراً سيئاً للدكتاتوريات.
لكنّ الإجماع على شكل القرار تفاوت في ما يخص المحتوى، فانقسم الرأي إلى فريقين، يشكّل كلّ منهما معسكراً حقوقياً، وأخلاقياً، وسياسياً: الأوّل يفتي بوجوب تقديم الديكتاتوريات إلى المحاكمة بتهمة واحدة كافية هي انتهاك حقوق الإنسان؛ والثاني يقول بوجوب توسيع لائحة الاتهام، لكي تشمل مختلف أنواع الجرائم المرتكبة بحقّ الإنسانية، وبينها، أو على رأسها، الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر المنظمة (في هذه الحال، ثمة أكثر من أساس قانوني يتيح محاكمة الملكة إليزابيث على ما ارتكبته قوّات التاج البريطاني من فظائع في أيرلندا، أو محاكمة جورج بوش الأب على ما ارتكبته القوّات الأمريكية من فظائع بحقّ المدنيين العراقيين العزّل، أو محاكمة أرييل شارون على دور جيش الغزو الإسرائيلي في مجازر صبرا وشاتيلا، هذا إذا وضعنا جانباً عشرات الأمثلة المشابهة التي يحفل بها التاريخ الكولونيالي لدول مثل فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا).
ولقد بدا عجيباً أن تنقضّ جميع السكاكين على ذلك الثور العجوز، بينوشيه، في حين أنّ السادة الأمريكيين الذين شاطروه وزر تلك الجرائم يواصلون التمتّع بنوع خاصّ للغاية من الحصانة المطلقة التي تغسل أيديهم تماماً من أدوار قذرة شتى لعبوها وراء الجنرال، وإلى جانبه، وأمامه في حالات عديدة. رجل مثل كيسنجر لم يصبه من قضية محاكمة بينوشيه أيّ أذى، هو القائل، بلسان بارد كالصقيع، إن الولايات المتحدة في موقفها من انقلاب تشيلي كانت «مخيّرة بين الديمقراطية والاقتصاد، وكان طبيعياً أن تنحاز إلى الاقتصاد».
مفارقات اليوم، وهي كذلك بعض أشغال التاريخ ودروسه، أنّ تشيلي ديمقراطية مستقرّة، وقضاؤها يعمل بحرّية، مثل صحافتها وأحزابها ونقاباتها وفنونها؛ والمكان، الذي شهد إعدام الشاعر المغنّي، صار اسمه الرسمي… «ستاد فكتور خارا».
اللحظة التي أزهرت
صبحي حديدي
Comments
Post a Comment