النضال ذكوري
بقلم: نجلاء عثمان التوم
بقلم: نجلاء عثمان التوم
في عام 2006، بينما كنت أعمل في قسم الشؤون الإدارية والمالية في المقر الرئيسي لإحدى وكالات الأمم المتحدة بالخرطوم، كُلفت بمتابعة بعض الشؤون في مكتب المنظمة في كادقلي، عاصمة جنوب كردفان. من بين المهام التي باشرتها، المشاركة في تعيين بعض العمال والموظفين في “محطة استقبال” السودانيين العائدين لجنوب السودان ضمن برنامج العودة الطوعية. كنا بحاجة إلى حوالي ست عاملات نظافة ومثلهن من الحراس ومراقبَيْن وإداري. اتبعنا الإجراءات المنصوص عليها في الإعلان عن الوظائف، وانصرفت مع الآخرين إلى أشغالنا. لم تكن لديَّ توقعات حول ما سيجري بخصوص تعيين موظفين جدد، كانت مهمة ثانوية، وهناك الكثير مما توجب عمله في فترة الإسبوعين القصيرين. لكن، انهمرت علينا طلبات التوظيف مثل طوفان، وتحولت المهمة الثانوية إلى لحظة سال فيها تاريخ العنف والحرب وكل تعقيدات الظلم الاجتماعي الذي تعرضت له جبال النوبة عبر قرون من الاستغلال.
كانت المهمة الأشق هي قرار من ستحظى، من بين مئات المتقدمات، بهذه الفرص الست. فالشروط الأساسية المطلوبة للعمل كانت مختصرة وغير معقدة وبالتالي فإن معظم المتقدمات مؤهلات. المشكلة بالأحرى أن هذا الإعلان الصغير يعني أشياء أبعد مما قد يوحي به. كنا بحاجة لعاملات نظافة وتلقينا طلبات توظيف من معلمات وطالبات جامعيات ونسوة يعملن في مهن صغيرة متعددة حسب الموسم. نساء مختلفات هن امرأة واحدة ضربت الحرب وجودها. ليست العشيرة ولا الطبقة ولا درجة التعليم ولا الفئة العمرية ما جمع بينهن، بل تاريخ الحرب، وبذا فقد كانت قصة واحدة محتشدة، وكانت لحظة الأمم المتحدة المنبتة هذه كافية سياقاً لقصة الحرب: أنا أرملة، عندي خمسة عيال. الراجل مشى الحرب وتاني ما جا. أعول أولادي وأمي ونسيبتي. يدو انقطعت في العمليات. أخوي رجع عقلو ما كويس. خليت الجامعة. ولدي مات بي جاي مرتو عرست بي جاي ومسكت أولادو. كنت مدرسة روضة، ست شاي، السوق وقف، أنا حنانة، سويت الأكل والطباقة والطواقي. السوق واقف. لا لا ما دايرين إنجليزي ما ضروري. إنتي بتقدري يا حجة؟ الشغل ده حار. حار العدم. كانت الماهية كبيرة مقارنة بعائد الأعمال الصغيرة التي تحايلن بها على الحياة. كانت كل فرصة تعني تغيير حيوات أناس غير مرئيين لكن كان حضورهم أقوى من كل ما يحيط ويحدد عالم المكتب الصغير. يا للأشياء المخفية الخطيرة طي القرار الثانوي.
في طوافي في المدينة وما حولها رأيت الحرب في وجوه النساء. ها هي مناطق العمليات، ها هي الجبهة الأكول، حرب شرسة عادية، وأتون الحياة يأكل بنهم. في إقليم مستنزف منذ قرون لم يكن هناك الكثير لتقضي عليه الحرب. وبينما عاد الرجال مخربي العقول، ظلت النساء في مواجهة حرب الحياة على نحو يومي. توقفت عجلة الاقتصاد، ذهبت مشاريع القطن والاستقرار الهش الذي صاحبها بعدما أفقرت البنية التقليدية، ذهب الحراك النقابي والمدني، ذهب الرجال إلى الحرب، وظل على النساء مكافحة الشظف بدون نصير.
جاء اليوم الذي تعلَّم فيه أشباح المعذباتية في المعتقلات السياسية أن الرجال الصناديد يرتجفون لو هددتهم بمضرة ابن في قماط. في ملايين الحيشان ترتجف الأمهات تحت صراخ شافع مسغوب اخترقه الجوع. ها بدأ اليوم في الزنزانة، ها بدأ اليوم في الجبهة، ها بدأ اليوم في النساء وبدأت الحرب، أين تقبع هذه اللقمة الملعونة؟ من سيموت من الإسهال هذه المرة؟ بدأ يوم آخر، وآخر، وآخر. يا للكابوس بلا نهاية!
في مشاهد النضال الوطني من أجل أشياء سامية مثل الحرية وأخرى معقدة مثل الديمقراطية، نرى وجوه الرجال، المزيد منهم، وبعض النساء الاستثنائيات. نجد الرجال في المقاومة السلمية ضد الشموليات العسكرية، ونجد الرجال في الحرب ضد نفس الشموليات. إنهم أنبياؤنا، من شُنق وعُذِّب ونُفي وُطرد للصالح العالم. من تجلَّد في الزنازين، وتسامى على مسامير الأشباح، وصمد في وجه التجويع والإذلال. في أدبيات الثورة السودانية صورة للقرشي لا أوضح منها صورة، فتى باسم ومفعم بالبراءة، الشهيد الأول القرشي. ترى من هي الأم التي أعطتنا هذا الشهيد الجميل المبتسم؟ ما هو اسم تلك السيدة التي منحناها مقعداً في الجنة جوار ابننا القرشي؟ يا له من شهيدنا الوحيد، فالشعب هو من تبناه. لكن لماذا يبدو الآن مثل ثمرة سقطت لنا من السماء؟ لماذا يشبه مسيحاً على صليب؟ بلا مريم هذا المرة!
أين التناقض؟ في مجتمع يقدس العائلة لا يظهر البطل أو الشهيد على شاشة النضال إلا بوصفه فرداً منبتاً.
النضال الوطني معركة وعي يخوضها الجسد. علمتنا المشانق هذه الحكمة. لن تجدها مكتوبة على شاهد قبر الأستاذ محمود محمد طه، الذي لا قبر له. إنها معرفة تسطع على الشيوع من أعين الشهداء. من وسامتهم التي لا تصدق، كل شيء يثرثر بالألم، لكن ما كل هذا الصمود؟ في معركة العدالة الاجتماعية تزاحمت وجوه الرجال، بعضها مكشوف وبعضها ملثم، وفي احتدام الصدام تقطرت خلاصات ظلت تتراكم جيلاً بعد آخر. ميزان النضال فيه تدرجات لكنه يبدأ من الوعي ويمر بالجسد الذي ينتهي بنا دائماً إلى درجة سديدة من الفحولة. وفي مفرزة دقيقة خطرة تم إسقاط الكدح لصالح المصادمة في بناء قيم النضال، حتى كاد طلب العدل فيها يتطابق مع الرجولة. بينما أُسقطت المقاومة الصامتة الرهيبة التي قادتها النساء، أُسقط الكدح المتلهوج الفتان الذي سعت به أقدام النساء في كل مكان في السودان، من أجل حياة يجب أن تستمر بأي ثمن. مقاومة لا تمنح النساء خيار التنازل أو الخيانة أو التراجع. إنه قدر لا فكاك منه. قد يقول قائل بالفرق بين المقاومة والمعاناة، ويشترط الوعي في الأولى ويسقطه في الثانية. لكن من يستطيع الركون إلى افتقار النساء إلى الوعي السياسي؟ في أكثر من مكان وفي غير مرة يتفق المحللون السياسيون أن المرأة هي الأكثر تأثراً، هي الضحية الأولى للنزاعات بأشكالها المختلفة. لكن لا أحد يذهب إلى النتيجة المنطقية التي تنطوي عليها هذه الملاحظة العامة: الأكثر تأثراً هو الأكثر إدراكاً لوضعه. فمكان الضحية مكان عمرته المعرفة المباشرة والاقتراب الأخطر من الخطر. ربما نحاول تصور الألم الذي تتعرض له الضحية، لكن، لأننا في مكان الامتياز، يعز علينا التفكير أن الضحية تفكر، تتعلم من آلامها، وأن تلك المعرفة ليست متاحة لنا إلا عبر الضحية نفسها. ما الذي تعلمته النساء المغتصبات في دارفور حول كونهن نساء ينتمين إلى جماعة همشها العقل الإسلاموي العروبي وتوالت عليها نكبات الطبيعة؟ ما هي الحوارات والتساؤلات والخلاصات التي تناهبت عقولهن؟ كيف يفكرن الآن في الأنوثة وفي الذكورة؟ هل يتعاطفن مع بعضهن وهل يحمل ذلك التعاطف أي معنى سياسي؟ لقد تغيرت الضحية بفعل المجرم، وهذه هي نقطة تفوقها عليه، لأن المجرم حين يستطيع اغتصاب امرأة يمكنه اغتصاب العشرات دون أن يحدث ذلك تراكماً معرفياً أو تحولاً وجودياً لديه، والإشراق الوحيد الذي قد يحظى به هو انعتاق جزئي شرير من احتقار النفس حين ينغمس كلياً في فعل إجرامي آخر. لكن، تغيرت الضحية، من امرأة إلى امرأة مغتصبة، يا إلهي! ما الذي يعنيه ذلك حقاً؟ ماذا تفعل رائحة المغتصب الدائمة في وعي المرأة السياسي؟ هذه هي المعرفة التي تحتكرها الضحية، وما يتوجب على السياسيين فعله هو التنحي قليلاً والإصغاء لأن الضحية ستقول الأشياء التي لا نعرفها وستقولها بطريقة لا نعرفها. ينطبق ذلك على كل الظلامات الأخرى التي تتعرض لها النساء لأنهن نساء. وحين نفكر فعلياً في مقدار جهلنا بواقع الأمور يجب أن نفكر في ما يحتجب طي صمت نساء السودان.
الذكورة طريقة نظر إلى الحياة، وطريقة تعامل مع الموجودات. من وحي هذه النظرة أنشأنا النضال على صورة الحرب، وصيرنا مبادئه من مادتها الخام ساحةً تقاس فيها الشجاعة بقنطار الدم. لكن، إذا كانت نفس النضال راسخة محروسة بالشجاعة، أين نضع النفس الأخرى اللوامة الجزوع الصابرة على الجزع، نفس الكوابيس ومواجهة فك الحياة الشديد المسنون؟ نفس من تعول ما يتركه الشجاع القعقاع، نفس من تؤوي والديه وشفّعه؟ نفس من يواجهن الحياة بلا درقة ولا سلاح؟ وما هو النضال الأشد، خوض الموت مرة أم خوضه ألفاً؟
في كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، ويقع في الكتاب السادس من ربع المنجيات من رسالة إحياء علوم الدين، يقول الغزالي “إن المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات؛ فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها كالشوق، والأنس، والرضا، وأخواتها. ولا قبل المحبة مقام، إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة، والصبر، والزهد، وغيرها؛ وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها”. اعتماداً على فكرة الغزالي هذه، التي أخذتها مجازاً لعمل الصيرورة، فإن محبة الصوفي لربه مقام تمام تسبقه مقامات إمكان. ليس الصبر، أو التوبة، أو الزهد، إلا مشاريع انصيرار المحبة. في مجرى مشابه، يقول هيجل في مقدمته حول المعرفة العلمية في كتاب فيمنولوجيا العقل إن تنوع الأنظمة الفلسفية واختلافها جدل، صفته الغالبة أنه تطور حثيث للحقيقة الفلسفية، وهذا التنوع والاختلاف لا يتضمن تناقضاً بقدر ما يؤكد مبدأ الضرورة المتساوية “يختفي البرعم عندما يطلع النوار، وقد يمكننا القول إن هذا الأخير دحض الأول؛ وبالمثل، عندما تظهر الثمار قد نفسّر النوار بوصفه شكلاً زائفاً من أشكال وجود النبات إذ أن الثمرة تظهر بوصفها طبيعته الحقيقية عوضاً عن النوار. هذه الأطوار لا تتمايز، بل يزيح واحدها الآخر لعدم قابلية تلاؤم طور مع طور آخر. لكن الفعالية الحثيثة لطبيعتها الكامنة تجعل منها في الوقت ذاته لحظات في مشهد وحدة عضوية، حيث لا تناقض الأطوار ببساطة بعضها البعض فحسب، بل حيث يكون كل منها ضرورياً بشكل متساو، وهذه الضرورة المتساوية لكافة اللحظات هي وحدها ما يشكل حياة هذا الكل”. بأخذنا لصورة الصيرورة والإمكان عند الغزالي وفكرة الضرورة المتساوية عند هيجل يمكننا إعادة قراءة ما تعنيه الأطوار وما تخفيه الدرجة. فطالما أن الصبر طور من أطوار المحبة فهو لا شيء غيرها، وإن لم يطابقها. كما أن الزهد والتوبة عين المحبة فلولاهما في اليفاع ما صار مقام تمام المحبة ممكناً. وفي شجرة النضال لا تسحق الثمرة الوردة، بل تخرج عنها لتقول حقيقتهما الواحدة الكامنة. في جبل المقاومة لا تقفز القنة على السطح. إن المقاومة الصامتة التي تقودها النساء في السودان هي عين النضال وإن لم تطابق درجة المصادمة، فضلاً لا نقيصةً. وليست مقاومة النساء السلمية الصامتة أقل شأناً بل هي متساوية في ضرورتها مع الأطوار الأشد فصاحةً. وربما كانت تنطوي على حكمة أكبر، حكمة لا نعرفها حتى يُسمح لنا بذلك. فالعقلية الذكورية هي التي أفرزت شروط التعاطي الاجتماعي والسياسي، وصاغت القيم، واصطفت التقاليد بما في ذلك قيم وتقاليد النضال. ولأن الديكتاتور أيضاً ذكر، ولا يستطيع التنفس خارج معاني الفحولة صار إلى منازعة المناضل في القيمة التي أفرزها المجتمع الذكوري الذي أنجبهما؛ الفحولة التي تقاس بالتعذيب والمشانق. ولأننا تربينا على عقيدة الفروسية والبُطان، التحق طرفا الصراع يختبران بعضهما من خلال هذه المنظومة نفسها. فتقاسم الديكتاتور والمناضل قيمة الفحولة، ودارا حولها رقصاً ونزيفاً، وحرباً ومصالحة، واقتربا من بعضهما اقتراباً خطراً يضع كل سردية النضال موضع الشك. يحدث كل ذلك بينما تدفع النساء أفظع الأثمان لذهنية الذكر التي من فقرها لم تجد أفضل من الحرب والصدام وسيلةً للتدافع. ويحدث في مرات أن تقترب بعض النساء من أتون هذه المعركة. وبمجرد اقتراب المرأة من حيز الذكور يعود الدكتاتور إلى كنانة الذهن الذكوري الجماعي ليخرج نصلاً مناسباً هو نصل الشرف والعفة، لكن انظر، ها هو المناضل يعود اقتراباً من الديكتاتور، فهو قسيمه في الذكورة، يكاد يتماهى فيه، فعندما يمس الموضوع الشرف لا تجد أقرب منهما إلى الآخر، وينهالا معاً على العورة المشتركة، فيدخلك الشك من كل صوب.
لكن السلطة بيد الديكتاتور، وهو يعرف الآن أن الشرف نقطة الضعف القاتلة، فيغتصب النساء في دارفور، ويستخدمهن سلاحاً لكسر مقاومتهن الصامتة ومقاومة الأهالي، فيصبحن عبئاً على مجتمعاتهن وثأرا لا يمكن أخذه، فالشرف مثل الزجاج إذا انكسر. ترى لو أردنا الإشارة إلى المجرم الحقيقي في جرائم الاغتصاب في دارفور هل سنذهب إلى اللحظة التي نواجه فيها أنفسنا؟ الذكورة الجائرة هي من اختزل المرأة إلى سلعة نَبوُذ يُطاح بها إلى كوشة الشرف. وهي ما جعلت من العفة سلاحا يستخدمه الجنجويد في إذلال السودانيين. لو كان المجتمع يضع المرأة في موقعها الكامل، في ضرورتها المتساوية، في مجال إمكانها، لما ضاقت صورتها وانكمشت حتى صار جسدها ساحةً للوغى بين ذكور العدو وذكور الصليح.
ورد عن الصحفي الأستاذ فيصل محمد صالح قوله في احتفال لتأبين المفكر الخاتم عدلان إن المعارضة السودانية ظلت تؤجل سؤال القواسم المشتركة الحقيقية بين أطراف المعارضة بقلوبها الشتى كسباً للوقت وتفادياً للتشرذم، وبنت على فكرة الحد الأدنى من المشتركات في منافحة الإنقاذ. نوه فيصل إلى تهافت هذه الحجة، وقال ما معناه يجب على المعارضة العودة إلى نقطة البداية للعثور على إجابات الأسئلة الصعبة. الآن، بعد درس الاغتصاب في دارفور، وحوادث الاغتصاب والتحرش الجنسي هنا وهناك. وحوادث ابتزاز النساء المنخرطات في العمل العام وكسر شوكتهن، يتعين على الحركة النسوية السودانية زيارة الأسئلة الموجعة. إذا لم تخرج المرأة من مجاز الزجاج المكسور إلى رحابة وجودها الكامل ستظل رهينةً لعقل الجنجويد، وعقل الجلاد وعقل المناضل على السواء. وسيظل سلاح الاغتصاب هو الأشد فعالية في هتك النسيج الاجتماعي، وسيظل العمل العام ثمرة محرمة على النساء.
النضال في السودان ذكوري. وقد اخترمت ذكوريته وجداننا وذاكرتنا وأفقنا السياسي. نرى ذلك في سطوة الفرد تتكرس في أدبيات السياسة السودانية ويعاد إنتاجها في أيقونة الفارس. يا فارس الحزن مرغ حوافر خيلك فوق مقابرنا الهمجية. قدل أب رسوة للموت الكلح بتضرع…..، فارس الحوبة جياب الحقوق للناس. يا حارسنا وفارسنا. أب عاج أخوي يا دراج المحن. وتراجعت صورة عزة الخليل تحت ضغط صورة الفارس مناضلاً ورئيساً حتى صار الوطن نفسه رجلاً في يا بلدي يا حبوب أب جلابية وتوب وسروال ومركوب. ولا نكاد نجد في جديلة هذا التراث الوسط-سوداني إلا إشراقات متباعدة تستدعي صورا غير ذكورية في استدعائها للبطولة أو المقاومة أو الصمود. ورد في قراءة نقدية كتبها ديلان فالي حول فيلم على إيقاع الأنتنوف للمخرج حجوج كوكا أن ثمة أغنية شعبية نوبية حزينة تدين انخراط الفتية اليافعين في الحرب، وتصور النساء قسوة هتك الطفولة هذه تصويراً فاجعاً وهن يغنين للصبي المجند أن لا تذهب للحرب فبوت الجياشي كبير عليك!
ما أبعد الشقة!
نعم، النضال في السودان ذكوري. وذكورية النضال لا تكمن فقط في قيمه التي تستلهم الفروسية بل في بنياته الهيكلية. فالحزب التقليدي والديني قائم على السلطة الروحية للسيد أو الإمام أو المرشد. وحتى لو سمحت التقاليد الأحدث برئاسة سيدة لأحد هذه الأحزاب، ستظل مقصاة من مكان السلطة الروحية الأصلي، التي لا يمكن إلا أن تكون ذكورية. بينما بنت الأحزاب الأخرى هياكلها من مادة الخيال الذكوري التي تعزز من غربة المرأة ومن عزلتها. والواقع أن المقاومة تستجيب بطبيعة الحال لطبيعة الخصم الذي تنافح. فالخصم يتدخل في تشكيل خطابها وهي على نحو ما مدفوعة دفعاً للتقاطع معه. في السودان الحديث الاستعماري وما بعد الاستعماري استأثرت الجيوش بالسلطة وظلت صورة العسكري مهيمنة على الخيال السياسي. لقد اندفعت الأحزاب الرئيسية بعد الاستقلال لاستعمال الجيش فاستعملها، وفي غضون ذلك اندمج صوتها الحداثوي في صوته الأجش وتسمم الفضاء العام كله بخطابه الذكوري الفج، فلا غرابة.
لكن، إن كان ثمة مستقبل للسودان فهو رهين بالالتفات إلى الأصوات المجهولة. ضعوا المرأة في مجال إمكانها، وفي صنعكم لخطاب النضال، لا تحشروها في ربوبية البيت. فحتى وهي تسعى فيه وتطوف تظل شجرة النضال شجرة ذات فروع متساوية. وإذا كانت الرَّجَالَة تبشر في المانفيستوهات السلمية وفي أرض العمليات فلا يجب أن نغفل أن الحرب تدور فعلياً في جبهة الحياة، في مجال المخلفين والمتروكين في بطن الحوت. حان الوقت لنصغي لما ستقوله النساء، لأنهن في الميدان فعلياً، ويعلمن من شؤون الفشل السياسي ما لا يعرفه السياسيون. ولنتذكر أن المرأة السودانية لا تأتي إلى فضاء السياسة من الضل البارد فهي لم تكن طوال الوقت محشورةً في التدبير المنزلي. كانت المرأة في السودان، حتى وقت ليس ببعيد ملء الفضاء العام تقتسمه مع الرجل بما ترى. سأعود إلى تفصيل هذه النقطة في الجزء الثاني من المقال. لكن، حتى وهي صائمة عن العمل العام لا يجوز صرفها ببساطة عن فعل تحريك الحياة. وإذا غابت المرأة عن دليل الثورة فلأنها مشغولة بدفع فواتير نضال الذكور من لحمها الحي. فطالما غابت العدالة الاجتماعية اعلموا أن هناك من يؤكل حياً ولا يموت، في كل لحظة. النساء في بلادي، وعلى الأخص النساء في دارفور وفي جنوب النوبة مستعدات لكل شيء، مستعدات حتى للحياة أملاً في حياة أفضل. والحياة، لمن لا يعرف، هي الكابوس الذي يصبرن عليه بالأمل. ذلك الأمل الميكانيكي، تلك العادة الفيزيائية التي تتفعّل في الجسد ساحة كل الحروب، فلا وقت للروح، وكأن في ذلك الهجر يكمن التحقق الكامل لها.
ثم دُعيت ذات يوم لسماية في بيت بعض الأصدقاء في كادقلي. وجدت بين أغراضي توب، حشرته سناء أختي في حقيبتي في آخر لحظة لأنها تعرف الحياة أفضل مني. في السماية تجمعت الجارات والقريبات الطيبات وسرعان ما بدأ تخمر القهوة يختلط مع البخور المتكلم في الهواء. عملن الختة، ساهمت كل منهن بما استطاعت وتجمعت رزمة من القروش في يد زعيمة. دروس التعاضد البسيطة المستخلصة من خبرة المئات من السنين ليست بتلك البساطة. ثم بدأت موسيقى الكرن وتبادلن الدخول إلى الحلقة. في رقصة الكرن يتكلم النوبة مع الأرض، بلا وسيط، ويبدو أن الكلام فيه حب مشوب بلوم كثير. فلطالما كانت الأرض موضوعاً للرغبة في هذا الإقليم المضطرب. الكرن جسد الأرض وجسد الراقصة، في لوعة وعذاب، الأقدام الضاربة تتصل لكن بين لحظة وأخرى يحدث التعالي، تطير الراقصة في السماء، حرة حرة من اللوعة، فقط لوهلة، وتعود، لتتذوق الأرض. تنظر إلى الوجوه فتراها باسمة، من أثر هذه المباشرة والصراحة والتفاهم والشدة في العناق.
كانت المهمة الأشق هي قرار من ستحظى، من بين مئات المتقدمات، بهذه الفرص الست. فالشروط الأساسية المطلوبة للعمل كانت مختصرة وغير معقدة وبالتالي فإن معظم المتقدمات مؤهلات. المشكلة بالأحرى أن هذا الإعلان الصغير يعني أشياء أبعد مما قد يوحي به. كنا بحاجة لعاملات نظافة وتلقينا طلبات توظيف من معلمات وطالبات جامعيات ونسوة يعملن في مهن صغيرة متعددة حسب الموسم. نساء مختلفات هن امرأة واحدة ضربت الحرب وجودها. ليست العشيرة ولا الطبقة ولا درجة التعليم ولا الفئة العمرية ما جمع بينهن، بل تاريخ الحرب، وبذا فقد كانت قصة واحدة محتشدة، وكانت لحظة الأمم المتحدة المنبتة هذه كافية سياقاً لقصة الحرب: أنا أرملة، عندي خمسة عيال. الراجل مشى الحرب وتاني ما جا. أعول أولادي وأمي ونسيبتي. يدو انقطعت في العمليات. أخوي رجع عقلو ما كويس. خليت الجامعة. ولدي مات بي جاي مرتو عرست بي جاي ومسكت أولادو. كنت مدرسة روضة، ست شاي، السوق وقف، أنا حنانة، سويت الأكل والطباقة والطواقي. السوق واقف. لا لا ما دايرين إنجليزي ما ضروري. إنتي بتقدري يا حجة؟ الشغل ده حار. حار العدم. كانت الماهية كبيرة مقارنة بعائد الأعمال الصغيرة التي تحايلن بها على الحياة. كانت كل فرصة تعني تغيير حيوات أناس غير مرئيين لكن كان حضورهم أقوى من كل ما يحيط ويحدد عالم المكتب الصغير. يا للأشياء المخفية الخطيرة طي القرار الثانوي.
في طوافي في المدينة وما حولها رأيت الحرب في وجوه النساء. ها هي مناطق العمليات، ها هي الجبهة الأكول، حرب شرسة عادية، وأتون الحياة يأكل بنهم. في إقليم مستنزف منذ قرون لم يكن هناك الكثير لتقضي عليه الحرب. وبينما عاد الرجال مخربي العقول، ظلت النساء في مواجهة حرب الحياة على نحو يومي. توقفت عجلة الاقتصاد، ذهبت مشاريع القطن والاستقرار الهش الذي صاحبها بعدما أفقرت البنية التقليدية، ذهب الحراك النقابي والمدني، ذهب الرجال إلى الحرب، وظل على النساء مكافحة الشظف بدون نصير.
جاء اليوم الذي تعلَّم فيه أشباح المعذباتية في المعتقلات السياسية أن الرجال الصناديد يرتجفون لو هددتهم بمضرة ابن في قماط. في ملايين الحيشان ترتجف الأمهات تحت صراخ شافع مسغوب اخترقه الجوع. ها بدأ اليوم في الزنزانة، ها بدأ اليوم في الجبهة، ها بدأ اليوم في النساء وبدأت الحرب، أين تقبع هذه اللقمة الملعونة؟ من سيموت من الإسهال هذه المرة؟ بدأ يوم آخر، وآخر، وآخر. يا للكابوس بلا نهاية!
في مشاهد النضال الوطني من أجل أشياء سامية مثل الحرية وأخرى معقدة مثل الديمقراطية، نرى وجوه الرجال، المزيد منهم، وبعض النساء الاستثنائيات. نجد الرجال في المقاومة السلمية ضد الشموليات العسكرية، ونجد الرجال في الحرب ضد نفس الشموليات. إنهم أنبياؤنا، من شُنق وعُذِّب ونُفي وُطرد للصالح العالم. من تجلَّد في الزنازين، وتسامى على مسامير الأشباح، وصمد في وجه التجويع والإذلال. في أدبيات الثورة السودانية صورة للقرشي لا أوضح منها صورة، فتى باسم ومفعم بالبراءة، الشهيد الأول القرشي. ترى من هي الأم التي أعطتنا هذا الشهيد الجميل المبتسم؟ ما هو اسم تلك السيدة التي منحناها مقعداً في الجنة جوار ابننا القرشي؟ يا له من شهيدنا الوحيد، فالشعب هو من تبناه. لكن لماذا يبدو الآن مثل ثمرة سقطت لنا من السماء؟ لماذا يشبه مسيحاً على صليب؟ بلا مريم هذا المرة!
أين التناقض؟ في مجتمع يقدس العائلة لا يظهر البطل أو الشهيد على شاشة النضال إلا بوصفه فرداً منبتاً.
النضال الوطني معركة وعي يخوضها الجسد. علمتنا المشانق هذه الحكمة. لن تجدها مكتوبة على شاهد قبر الأستاذ محمود محمد طه، الذي لا قبر له. إنها معرفة تسطع على الشيوع من أعين الشهداء. من وسامتهم التي لا تصدق، كل شيء يثرثر بالألم، لكن ما كل هذا الصمود؟ في معركة العدالة الاجتماعية تزاحمت وجوه الرجال، بعضها مكشوف وبعضها ملثم، وفي احتدام الصدام تقطرت خلاصات ظلت تتراكم جيلاً بعد آخر. ميزان النضال فيه تدرجات لكنه يبدأ من الوعي ويمر بالجسد الذي ينتهي بنا دائماً إلى درجة سديدة من الفحولة. وفي مفرزة دقيقة خطرة تم إسقاط الكدح لصالح المصادمة في بناء قيم النضال، حتى كاد طلب العدل فيها يتطابق مع الرجولة. بينما أُسقطت المقاومة الصامتة الرهيبة التي قادتها النساء، أُسقط الكدح المتلهوج الفتان الذي سعت به أقدام النساء في كل مكان في السودان، من أجل حياة يجب أن تستمر بأي ثمن. مقاومة لا تمنح النساء خيار التنازل أو الخيانة أو التراجع. إنه قدر لا فكاك منه. قد يقول قائل بالفرق بين المقاومة والمعاناة، ويشترط الوعي في الأولى ويسقطه في الثانية. لكن من يستطيع الركون إلى افتقار النساء إلى الوعي السياسي؟ في أكثر من مكان وفي غير مرة يتفق المحللون السياسيون أن المرأة هي الأكثر تأثراً، هي الضحية الأولى للنزاعات بأشكالها المختلفة. لكن لا أحد يذهب إلى النتيجة المنطقية التي تنطوي عليها هذه الملاحظة العامة: الأكثر تأثراً هو الأكثر إدراكاً لوضعه. فمكان الضحية مكان عمرته المعرفة المباشرة والاقتراب الأخطر من الخطر. ربما نحاول تصور الألم الذي تتعرض له الضحية، لكن، لأننا في مكان الامتياز، يعز علينا التفكير أن الضحية تفكر، تتعلم من آلامها، وأن تلك المعرفة ليست متاحة لنا إلا عبر الضحية نفسها. ما الذي تعلمته النساء المغتصبات في دارفور حول كونهن نساء ينتمين إلى جماعة همشها العقل الإسلاموي العروبي وتوالت عليها نكبات الطبيعة؟ ما هي الحوارات والتساؤلات والخلاصات التي تناهبت عقولهن؟ كيف يفكرن الآن في الأنوثة وفي الذكورة؟ هل يتعاطفن مع بعضهن وهل يحمل ذلك التعاطف أي معنى سياسي؟ لقد تغيرت الضحية بفعل المجرم، وهذه هي نقطة تفوقها عليه، لأن المجرم حين يستطيع اغتصاب امرأة يمكنه اغتصاب العشرات دون أن يحدث ذلك تراكماً معرفياً أو تحولاً وجودياً لديه، والإشراق الوحيد الذي قد يحظى به هو انعتاق جزئي شرير من احتقار النفس حين ينغمس كلياً في فعل إجرامي آخر. لكن، تغيرت الضحية، من امرأة إلى امرأة مغتصبة، يا إلهي! ما الذي يعنيه ذلك حقاً؟ ماذا تفعل رائحة المغتصب الدائمة في وعي المرأة السياسي؟ هذه هي المعرفة التي تحتكرها الضحية، وما يتوجب على السياسيين فعله هو التنحي قليلاً والإصغاء لأن الضحية ستقول الأشياء التي لا نعرفها وستقولها بطريقة لا نعرفها. ينطبق ذلك على كل الظلامات الأخرى التي تتعرض لها النساء لأنهن نساء. وحين نفكر فعلياً في مقدار جهلنا بواقع الأمور يجب أن نفكر في ما يحتجب طي صمت نساء السودان.
الذكورة طريقة نظر إلى الحياة، وطريقة تعامل مع الموجودات. من وحي هذه النظرة أنشأنا النضال على صورة الحرب، وصيرنا مبادئه من مادتها الخام ساحةً تقاس فيها الشجاعة بقنطار الدم. لكن، إذا كانت نفس النضال راسخة محروسة بالشجاعة، أين نضع النفس الأخرى اللوامة الجزوع الصابرة على الجزع، نفس الكوابيس ومواجهة فك الحياة الشديد المسنون؟ نفس من تعول ما يتركه الشجاع القعقاع، نفس من تؤوي والديه وشفّعه؟ نفس من يواجهن الحياة بلا درقة ولا سلاح؟ وما هو النضال الأشد، خوض الموت مرة أم خوضه ألفاً؟
في كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، ويقع في الكتاب السادس من ربع المنجيات من رسالة إحياء علوم الدين، يقول الغزالي “إن المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات؛ فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها كالشوق، والأنس، والرضا، وأخواتها. ولا قبل المحبة مقام، إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة، والصبر، والزهد، وغيرها؛ وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها”. اعتماداً على فكرة الغزالي هذه، التي أخذتها مجازاً لعمل الصيرورة، فإن محبة الصوفي لربه مقام تمام تسبقه مقامات إمكان. ليس الصبر، أو التوبة، أو الزهد، إلا مشاريع انصيرار المحبة. في مجرى مشابه، يقول هيجل في مقدمته حول المعرفة العلمية في كتاب فيمنولوجيا العقل إن تنوع الأنظمة الفلسفية واختلافها جدل، صفته الغالبة أنه تطور حثيث للحقيقة الفلسفية، وهذا التنوع والاختلاف لا يتضمن تناقضاً بقدر ما يؤكد مبدأ الضرورة المتساوية “يختفي البرعم عندما يطلع النوار، وقد يمكننا القول إن هذا الأخير دحض الأول؛ وبالمثل، عندما تظهر الثمار قد نفسّر النوار بوصفه شكلاً زائفاً من أشكال وجود النبات إذ أن الثمرة تظهر بوصفها طبيعته الحقيقية عوضاً عن النوار. هذه الأطوار لا تتمايز، بل يزيح واحدها الآخر لعدم قابلية تلاؤم طور مع طور آخر. لكن الفعالية الحثيثة لطبيعتها الكامنة تجعل منها في الوقت ذاته لحظات في مشهد وحدة عضوية، حيث لا تناقض الأطوار ببساطة بعضها البعض فحسب، بل حيث يكون كل منها ضرورياً بشكل متساو، وهذه الضرورة المتساوية لكافة اللحظات هي وحدها ما يشكل حياة هذا الكل”. بأخذنا لصورة الصيرورة والإمكان عند الغزالي وفكرة الضرورة المتساوية عند هيجل يمكننا إعادة قراءة ما تعنيه الأطوار وما تخفيه الدرجة. فطالما أن الصبر طور من أطوار المحبة فهو لا شيء غيرها، وإن لم يطابقها. كما أن الزهد والتوبة عين المحبة فلولاهما في اليفاع ما صار مقام تمام المحبة ممكناً. وفي شجرة النضال لا تسحق الثمرة الوردة، بل تخرج عنها لتقول حقيقتهما الواحدة الكامنة. في جبل المقاومة لا تقفز القنة على السطح. إن المقاومة الصامتة التي تقودها النساء في السودان هي عين النضال وإن لم تطابق درجة المصادمة، فضلاً لا نقيصةً. وليست مقاومة النساء السلمية الصامتة أقل شأناً بل هي متساوية في ضرورتها مع الأطوار الأشد فصاحةً. وربما كانت تنطوي على حكمة أكبر، حكمة لا نعرفها حتى يُسمح لنا بذلك. فالعقلية الذكورية هي التي أفرزت شروط التعاطي الاجتماعي والسياسي، وصاغت القيم، واصطفت التقاليد بما في ذلك قيم وتقاليد النضال. ولأن الديكتاتور أيضاً ذكر، ولا يستطيع التنفس خارج معاني الفحولة صار إلى منازعة المناضل في القيمة التي أفرزها المجتمع الذكوري الذي أنجبهما؛ الفحولة التي تقاس بالتعذيب والمشانق. ولأننا تربينا على عقيدة الفروسية والبُطان، التحق طرفا الصراع يختبران بعضهما من خلال هذه المنظومة نفسها. فتقاسم الديكتاتور والمناضل قيمة الفحولة، ودارا حولها رقصاً ونزيفاً، وحرباً ومصالحة، واقتربا من بعضهما اقتراباً خطراً يضع كل سردية النضال موضع الشك. يحدث كل ذلك بينما تدفع النساء أفظع الأثمان لذهنية الذكر التي من فقرها لم تجد أفضل من الحرب والصدام وسيلةً للتدافع. ويحدث في مرات أن تقترب بعض النساء من أتون هذه المعركة. وبمجرد اقتراب المرأة من حيز الذكور يعود الدكتاتور إلى كنانة الذهن الذكوري الجماعي ليخرج نصلاً مناسباً هو نصل الشرف والعفة، لكن انظر، ها هو المناضل يعود اقتراباً من الديكتاتور، فهو قسيمه في الذكورة، يكاد يتماهى فيه، فعندما يمس الموضوع الشرف لا تجد أقرب منهما إلى الآخر، وينهالا معاً على العورة المشتركة، فيدخلك الشك من كل صوب.
لكن السلطة بيد الديكتاتور، وهو يعرف الآن أن الشرف نقطة الضعف القاتلة، فيغتصب النساء في دارفور، ويستخدمهن سلاحاً لكسر مقاومتهن الصامتة ومقاومة الأهالي، فيصبحن عبئاً على مجتمعاتهن وثأرا لا يمكن أخذه، فالشرف مثل الزجاج إذا انكسر. ترى لو أردنا الإشارة إلى المجرم الحقيقي في جرائم الاغتصاب في دارفور هل سنذهب إلى اللحظة التي نواجه فيها أنفسنا؟ الذكورة الجائرة هي من اختزل المرأة إلى سلعة نَبوُذ يُطاح بها إلى كوشة الشرف. وهي ما جعلت من العفة سلاحا يستخدمه الجنجويد في إذلال السودانيين. لو كان المجتمع يضع المرأة في موقعها الكامل، في ضرورتها المتساوية، في مجال إمكانها، لما ضاقت صورتها وانكمشت حتى صار جسدها ساحةً للوغى بين ذكور العدو وذكور الصليح.
ورد عن الصحفي الأستاذ فيصل محمد صالح قوله في احتفال لتأبين المفكر الخاتم عدلان إن المعارضة السودانية ظلت تؤجل سؤال القواسم المشتركة الحقيقية بين أطراف المعارضة بقلوبها الشتى كسباً للوقت وتفادياً للتشرذم، وبنت على فكرة الحد الأدنى من المشتركات في منافحة الإنقاذ. نوه فيصل إلى تهافت هذه الحجة، وقال ما معناه يجب على المعارضة العودة إلى نقطة البداية للعثور على إجابات الأسئلة الصعبة. الآن، بعد درس الاغتصاب في دارفور، وحوادث الاغتصاب والتحرش الجنسي هنا وهناك. وحوادث ابتزاز النساء المنخرطات في العمل العام وكسر شوكتهن، يتعين على الحركة النسوية السودانية زيارة الأسئلة الموجعة. إذا لم تخرج المرأة من مجاز الزجاج المكسور إلى رحابة وجودها الكامل ستظل رهينةً لعقل الجنجويد، وعقل الجلاد وعقل المناضل على السواء. وسيظل سلاح الاغتصاب هو الأشد فعالية في هتك النسيج الاجتماعي، وسيظل العمل العام ثمرة محرمة على النساء.
النضال في السودان ذكوري. وقد اخترمت ذكوريته وجداننا وذاكرتنا وأفقنا السياسي. نرى ذلك في سطوة الفرد تتكرس في أدبيات السياسة السودانية ويعاد إنتاجها في أيقونة الفارس. يا فارس الحزن مرغ حوافر خيلك فوق مقابرنا الهمجية. قدل أب رسوة للموت الكلح بتضرع…..، فارس الحوبة جياب الحقوق للناس. يا حارسنا وفارسنا. أب عاج أخوي يا دراج المحن. وتراجعت صورة عزة الخليل تحت ضغط صورة الفارس مناضلاً ورئيساً حتى صار الوطن نفسه رجلاً في يا بلدي يا حبوب أب جلابية وتوب وسروال ومركوب. ولا نكاد نجد في جديلة هذا التراث الوسط-سوداني إلا إشراقات متباعدة تستدعي صورا غير ذكورية في استدعائها للبطولة أو المقاومة أو الصمود. ورد في قراءة نقدية كتبها ديلان فالي حول فيلم على إيقاع الأنتنوف للمخرج حجوج كوكا أن ثمة أغنية شعبية نوبية حزينة تدين انخراط الفتية اليافعين في الحرب، وتصور النساء قسوة هتك الطفولة هذه تصويراً فاجعاً وهن يغنين للصبي المجند أن لا تذهب للحرب فبوت الجياشي كبير عليك!
ما أبعد الشقة!
نعم، النضال في السودان ذكوري. وذكورية النضال لا تكمن فقط في قيمه التي تستلهم الفروسية بل في بنياته الهيكلية. فالحزب التقليدي والديني قائم على السلطة الروحية للسيد أو الإمام أو المرشد. وحتى لو سمحت التقاليد الأحدث برئاسة سيدة لأحد هذه الأحزاب، ستظل مقصاة من مكان السلطة الروحية الأصلي، التي لا يمكن إلا أن تكون ذكورية. بينما بنت الأحزاب الأخرى هياكلها من مادة الخيال الذكوري التي تعزز من غربة المرأة ومن عزلتها. والواقع أن المقاومة تستجيب بطبيعة الحال لطبيعة الخصم الذي تنافح. فالخصم يتدخل في تشكيل خطابها وهي على نحو ما مدفوعة دفعاً للتقاطع معه. في السودان الحديث الاستعماري وما بعد الاستعماري استأثرت الجيوش بالسلطة وظلت صورة العسكري مهيمنة على الخيال السياسي. لقد اندفعت الأحزاب الرئيسية بعد الاستقلال لاستعمال الجيش فاستعملها، وفي غضون ذلك اندمج صوتها الحداثوي في صوته الأجش وتسمم الفضاء العام كله بخطابه الذكوري الفج، فلا غرابة.
لكن، إن كان ثمة مستقبل للسودان فهو رهين بالالتفات إلى الأصوات المجهولة. ضعوا المرأة في مجال إمكانها، وفي صنعكم لخطاب النضال، لا تحشروها في ربوبية البيت. فحتى وهي تسعى فيه وتطوف تظل شجرة النضال شجرة ذات فروع متساوية. وإذا كانت الرَّجَالَة تبشر في المانفيستوهات السلمية وفي أرض العمليات فلا يجب أن نغفل أن الحرب تدور فعلياً في جبهة الحياة، في مجال المخلفين والمتروكين في بطن الحوت. حان الوقت لنصغي لما ستقوله النساء، لأنهن في الميدان فعلياً، ويعلمن من شؤون الفشل السياسي ما لا يعرفه السياسيون. ولنتذكر أن المرأة السودانية لا تأتي إلى فضاء السياسة من الضل البارد فهي لم تكن طوال الوقت محشورةً في التدبير المنزلي. كانت المرأة في السودان، حتى وقت ليس ببعيد ملء الفضاء العام تقتسمه مع الرجل بما ترى. سأعود إلى تفصيل هذه النقطة في الجزء الثاني من المقال. لكن، حتى وهي صائمة عن العمل العام لا يجوز صرفها ببساطة عن فعل تحريك الحياة. وإذا غابت المرأة عن دليل الثورة فلأنها مشغولة بدفع فواتير نضال الذكور من لحمها الحي. فطالما غابت العدالة الاجتماعية اعلموا أن هناك من يؤكل حياً ولا يموت، في كل لحظة. النساء في بلادي، وعلى الأخص النساء في دارفور وفي جنوب النوبة مستعدات لكل شيء، مستعدات حتى للحياة أملاً في حياة أفضل. والحياة، لمن لا يعرف، هي الكابوس الذي يصبرن عليه بالأمل. ذلك الأمل الميكانيكي، تلك العادة الفيزيائية التي تتفعّل في الجسد ساحة كل الحروب، فلا وقت للروح، وكأن في ذلك الهجر يكمن التحقق الكامل لها.
ثم دُعيت ذات يوم لسماية في بيت بعض الأصدقاء في كادقلي. وجدت بين أغراضي توب، حشرته سناء أختي في حقيبتي في آخر لحظة لأنها تعرف الحياة أفضل مني. في السماية تجمعت الجارات والقريبات الطيبات وسرعان ما بدأ تخمر القهوة يختلط مع البخور المتكلم في الهواء. عملن الختة، ساهمت كل منهن بما استطاعت وتجمعت رزمة من القروش في يد زعيمة. دروس التعاضد البسيطة المستخلصة من خبرة المئات من السنين ليست بتلك البساطة. ثم بدأت موسيقى الكرن وتبادلن الدخول إلى الحلقة. في رقصة الكرن يتكلم النوبة مع الأرض، بلا وسيط، ويبدو أن الكلام فيه حب مشوب بلوم كثير. فلطالما كانت الأرض موضوعاً للرغبة في هذا الإقليم المضطرب. الكرن جسد الأرض وجسد الراقصة، في لوعة وعذاب، الأقدام الضاربة تتصل لكن بين لحظة وأخرى يحدث التعالي، تطير الراقصة في السماء، حرة حرة من اللوعة، فقط لوهلة، وتعود، لتتذوق الأرض. تنظر إلى الوجوه فتراها باسمة، من أثر هذه المباشرة والصراحة والتفاهم والشدة في العناق.
* شاعرة وكاتبة من السودان- نقل من حائطMamoun Eltlib
Comments
Post a Comment