الإهاب الذي هو جلدي
محمد الفيتوري
مثل عاصفة شوكية مفاجئة، تهبط عليك، لا تعرف من أين؟ وكيف اجتاحتك؟ وتغلغلت فيك، حتى استقرت في عمق الذاكرة.
تلك هي معركتك المشتعلة أبداً، كلما حاولت استكشاف الأسس الدفينة التي تقوم عليها ديناميكية العلاقات المتناقضة، في جدليتها الدائمة، بين قوانين الطبيعة وظواهر الكائنات.
بلى.. ترى ما هي حقيقة العلاقات السلبية بين الوجود والعدم، المادة والروح، الزمان والمكان، الحب والكراهية، الموت والحياة؟
وهل بمقدور أي من كان، فوق ظهر البسيطة وعلى امتداد التاريخ وتعاقب الحضارات وتطور آلية العقل البشري، أن يزعم لنفسه قدراً أكبر من المعرفة، يتجاوز حدود ما توقفت عنده تصورات وافتراضات الأقدمين؟
وأيضاً، هل ثمة من يجرؤ على القول بأن قيمة الحياة الإنسانية ـ على سمو قيمتها ـ تزيد عن كونها «كوكبة ثمار»، نضجها يعني تأرجحها، ثم سقوطها الحتمي، من شجرة الحياة.
وفيما بين تداخل هذه وتلك، من منظومة العلاقات الكونية المتناقضة، ترى ما الذي يتبقى للشعراء أطفال الستينيات، سوى تطلعاتهم الحائرة والقلقة، صوب نجمة التحولات التاريخية وانعكاسات ألوان السماء على تقاطيع الأوجه، واستفسارات العيون، المحملقة في ذعر، إلى نهايات القرن العشرين!
سأظل أقول دونما تردد، إنه لا خلاص لهذه البشرية من مأزقها المادي الخانق، إلا بالعودة إلى طهارة الروح، وقدسية الكلمة، والعمل الحق، من أجل كرامة الأرض، وكرامة الإنسان!
مثل هذه الخواطر الهامشية تعبرني في كثير من الأحيان، فأجدني مضطراً إلى الوقوف عندها متأملاً، على أنني أدرك تماماً أنها قد لا تعني أحداً سواي، وقد تستثير قدراً من الامتعاض أو الرفض لدى أناس، أو ربما استحدثت مستوى من الغضب لدى أناس آخرين. غير أنني تعلمت منذ طفولتي ألا أتناقض مع قناعاتي، وألا أعطي اهتماماً مبالغاً فيه لرأي مخالف، أو موقف أؤمن مسبقاً ببطلانه..
وتعلمت أن هذا الإهاب الذي أتحرك بداخله، إنما هو جلدي، ولهذا لن أغير جلدي أبداً.
ولقد كنت وسأكون دائماً هكذا.
وهكذا علمتني الحياة، مدرستي الكبرى، أن أرى وأدرك ما أرى، بعدما كنت أرى ولا أدرك أي شيء. الآن أنا أعرف معنى الغناء الذي غنيته ذات يوم، للإنسان وللأرض التي ورثتُ الكثير من عذاباتها وفجائعها المأساوية، والتي انصهرتُ طفلاً في تاريخها المخضب بالدم والدموع. أنا الذي لم يسبق لي أن شاهدت غرائبية ما انطوت عليه، من غابات استوائية، وآفاق مدارية، وأزمنة متداخلة، وحضارات عقيمة، وعقائد راكدة، وآلهة من ورق وخرز وطين، وكهنة مثيرين للشفقة، وسلاطين منذورين للفراغ، وكائنات بلا أقنعة، وأرواح مضطربة، ما زالت تعشش في سراديب الماضي، وتحفر صورها وأشكالها في زوايا الكهوف.
أفريقيا هذه سوف تكون رؤيتي لذاتي عارياً، في مرايا ذاتي، ورؤياي في شعري للعالم، مثلما ينبغي أن يكون شعري .
إنني أغترف من ذاكرة في عمق البئر، مكتظة بفتات الصخور وقليل من المياه والأعشاب، وثمة فوق سطحها اللامرئي تعوم أخلاط متلاصقة من الصور، والوجوه، والألوان، والتواريخ.
ذاكرة لا يكاد يشبهها إلا صندوق الساحر الأفريقي، في احتوائه على بقايا من عظام، وأخلاط من بذور جافة، ومسبحة من الأصداف والأحجار الملونة، وبقايا من مسحوق شجرة الحناء، وقصاصات مطوية على هيئة شياطين، وملائكة سود، مكتوب على جباهها، وأجنحتها المدلاة: «باطل الأباطيل، وقبض الريح».
ذاكرتي هي نقطة ضعفي، ولهذا أجدني دائماً متدفقاً في شوق إلى الأمام، متطلعاً في رعب إلى الخلف. خشيتي من تداخل السنوات، واختلاط الأحداث، وانمحاء الأسماء، في حضور أو غياب الشخصيات.
إلا أن الأهمية التي يكتسبها عام 1955 عندي، لا تتمثل فقط في كونه عام صدور ديواني الشعري الأول «أغاني أفريقيا»، والتحاقي بكلية دار العلوم، كأحد طلبة العلم والآداب فيها. ولكنه إلى هذا وذاك، كان قاسماً فاصلاً بين ماضٍ قُدّر لي أن أعيشه، متنقلاً فيما بين الإسكندرية والقاهرة، ومستقبل مقدور عليّ أن أقضيه هناك، في تلك البلاد التي طالما غازلتني في يقظتي وأحلامي، حيث الأفارقة السود أسياد في أرضهم، جالسون على عروشهم، قابضون على مقاليد السلطة، رافعون رايات الحرية والعدل والمساواة فيما بينهم، واثقون من ازدهار الغد، الذي هو نتاج إرادتهم، وصنيعة أيديهم .
وفي الخرطوم لم يكن أحد بانتظاري.. ولم تأخذني الدهشة، فقد رأيت أن الجميع كانوا بانتظاري.. سماء السودان الصافية الزرقاء المفتوحة الذراعين، وساحة المطار المفروشة بالرمال، وبواكير موسم الربيع.. الأبواب مشرعة، ضباط المطار، مندوبو الصحف، الحمالون، عشرات الوجوه ذات التقاطيع المضيئة، والابتسامات العريضة، الأيدي والصدور، والسواعد التي تتزاحم من أجل عناقك.. إنه يوم استقلال السودان.. أيها القادم لستَ غريباً.. عيدنا هو عيد القارة كلها.. أنت من أهل السودان!
لم ير أبداً معجزة في حياته، من لم يشاهد مثلي، بعينيه، صبيحة استقلال السودان، كيف طالت قامات الرجال، وارتفعت هاماتهم، حتى لامست الجباه السمر حواف النجوم، وزاحمت العمائم البيض سقف السماء!
مجلة الهلال، تشرين الأول (أكتوبر)، 1999.
تلك هي معركتك المشتعلة أبداً، كلما حاولت استكشاف الأسس الدفينة التي تقوم عليها ديناميكية العلاقات المتناقضة، في جدليتها الدائمة، بين قوانين الطبيعة وظواهر الكائنات.
بلى.. ترى ما هي حقيقة العلاقات السلبية بين الوجود والعدم، المادة والروح، الزمان والمكان، الحب والكراهية، الموت والحياة؟
وهل بمقدور أي من كان، فوق ظهر البسيطة وعلى امتداد التاريخ وتعاقب الحضارات وتطور آلية العقل البشري، أن يزعم لنفسه قدراً أكبر من المعرفة، يتجاوز حدود ما توقفت عنده تصورات وافتراضات الأقدمين؟
وأيضاً، هل ثمة من يجرؤ على القول بأن قيمة الحياة الإنسانية ـ على سمو قيمتها ـ تزيد عن كونها «كوكبة ثمار»، نضجها يعني تأرجحها، ثم سقوطها الحتمي، من شجرة الحياة.
وفيما بين تداخل هذه وتلك، من منظومة العلاقات الكونية المتناقضة، ترى ما الذي يتبقى للشعراء أطفال الستينيات، سوى تطلعاتهم الحائرة والقلقة، صوب نجمة التحولات التاريخية وانعكاسات ألوان السماء على تقاطيع الأوجه، واستفسارات العيون، المحملقة في ذعر، إلى نهايات القرن العشرين!
سأظل أقول دونما تردد، إنه لا خلاص لهذه البشرية من مأزقها المادي الخانق، إلا بالعودة إلى طهارة الروح، وقدسية الكلمة، والعمل الحق، من أجل كرامة الأرض، وكرامة الإنسان!
مثل هذه الخواطر الهامشية تعبرني في كثير من الأحيان، فأجدني مضطراً إلى الوقوف عندها متأملاً، على أنني أدرك تماماً أنها قد لا تعني أحداً سواي، وقد تستثير قدراً من الامتعاض أو الرفض لدى أناس، أو ربما استحدثت مستوى من الغضب لدى أناس آخرين. غير أنني تعلمت منذ طفولتي ألا أتناقض مع قناعاتي، وألا أعطي اهتماماً مبالغاً فيه لرأي مخالف، أو موقف أؤمن مسبقاً ببطلانه..
وتعلمت أن هذا الإهاب الذي أتحرك بداخله، إنما هو جلدي، ولهذا لن أغير جلدي أبداً.
ولقد كنت وسأكون دائماً هكذا.
وهكذا علمتني الحياة، مدرستي الكبرى، أن أرى وأدرك ما أرى، بعدما كنت أرى ولا أدرك أي شيء. الآن أنا أعرف معنى الغناء الذي غنيته ذات يوم، للإنسان وللأرض التي ورثتُ الكثير من عذاباتها وفجائعها المأساوية، والتي انصهرتُ طفلاً في تاريخها المخضب بالدم والدموع. أنا الذي لم يسبق لي أن شاهدت غرائبية ما انطوت عليه، من غابات استوائية، وآفاق مدارية، وأزمنة متداخلة، وحضارات عقيمة، وعقائد راكدة، وآلهة من ورق وخرز وطين، وكهنة مثيرين للشفقة، وسلاطين منذورين للفراغ، وكائنات بلا أقنعة، وأرواح مضطربة، ما زالت تعشش في سراديب الماضي، وتحفر صورها وأشكالها في زوايا الكهوف.
أفريقيا هذه سوف تكون رؤيتي لذاتي عارياً، في مرايا ذاتي، ورؤياي في شعري للعالم، مثلما ينبغي أن يكون شعري .
إنني أغترف من ذاكرة في عمق البئر، مكتظة بفتات الصخور وقليل من المياه والأعشاب، وثمة فوق سطحها اللامرئي تعوم أخلاط متلاصقة من الصور، والوجوه، والألوان، والتواريخ.
ذاكرة لا يكاد يشبهها إلا صندوق الساحر الأفريقي، في احتوائه على بقايا من عظام، وأخلاط من بذور جافة، ومسبحة من الأصداف والأحجار الملونة، وبقايا من مسحوق شجرة الحناء، وقصاصات مطوية على هيئة شياطين، وملائكة سود، مكتوب على جباهها، وأجنحتها المدلاة: «باطل الأباطيل، وقبض الريح».
ذاكرتي هي نقطة ضعفي، ولهذا أجدني دائماً متدفقاً في شوق إلى الأمام، متطلعاً في رعب إلى الخلف. خشيتي من تداخل السنوات، واختلاط الأحداث، وانمحاء الأسماء، في حضور أو غياب الشخصيات.
إلا أن الأهمية التي يكتسبها عام 1955 عندي، لا تتمثل فقط في كونه عام صدور ديواني الشعري الأول «أغاني أفريقيا»، والتحاقي بكلية دار العلوم، كأحد طلبة العلم والآداب فيها. ولكنه إلى هذا وذاك، كان قاسماً فاصلاً بين ماضٍ قُدّر لي أن أعيشه، متنقلاً فيما بين الإسكندرية والقاهرة، ومستقبل مقدور عليّ أن أقضيه هناك، في تلك البلاد التي طالما غازلتني في يقظتي وأحلامي، حيث الأفارقة السود أسياد في أرضهم، جالسون على عروشهم، قابضون على مقاليد السلطة، رافعون رايات الحرية والعدل والمساواة فيما بينهم، واثقون من ازدهار الغد، الذي هو نتاج إرادتهم، وصنيعة أيديهم .
وفي الخرطوم لم يكن أحد بانتظاري.. ولم تأخذني الدهشة، فقد رأيت أن الجميع كانوا بانتظاري.. سماء السودان الصافية الزرقاء المفتوحة الذراعين، وساحة المطار المفروشة بالرمال، وبواكير موسم الربيع.. الأبواب مشرعة، ضباط المطار، مندوبو الصحف، الحمالون، عشرات الوجوه ذات التقاطيع المضيئة، والابتسامات العريضة، الأيدي والصدور، والسواعد التي تتزاحم من أجل عناقك.. إنه يوم استقلال السودان.. أيها القادم لستَ غريباً.. عيدنا هو عيد القارة كلها.. أنت من أهل السودان!
لم ير أبداً معجزة في حياته، من لم يشاهد مثلي، بعينيه، صبيحة استقلال السودان، كيف طالت قامات الرجال، وارتفعت هاماتهم، حتى لامست الجباه السمر حواف النجوم، وزاحمت العمائم البيض سقف السماء!
مجلة الهلال، تشرين الأول (أكتوبر)، 1999.
مزمار أفريقيا
كانت أفريقيا موضوعاً أثيراً، وتأسيسياً، في مشروع الشاعر السوداني (1936 ـ 2015)؛ حتى أنّ مجموعاته الثلاث الأولى احتوت جميعها على اسم القارّة: «أغاني أفريقيا»، 1956؛ «عاشق من أفريقيا»، 1964؛ «أذكريني يا أفريقيا»، 1965؛ فضلاً عن العمل المسرحي «أحزان أفريقيا». ولم يكن الراحل يتفاخر بأنه من جيل روّاد القصيدة العربية الحديثة (وقد كان له دور ريادي، بالفعل، وإنْ لم يرقَ إلى سوية نزار قباني أو بدر شاكر السياب أو صلاح عبد الصبور)، فحسب؛ بل كان يرى أنه مؤسس «الزنوجة» في الشعر العربي، وهو الامتداد العربي للحركة الأدبية التي أطلقها شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير، بشراكة مع الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس؛ ثم أسفرت عن منهج تطبيقي يتيح دراسة «الكتابة السوداء»، وتوفير مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الاستعمارية عموماً، والفرنسية خاصة.
لكن مواقف الفيتوري، السياسية تحديداً، هي التي أفضت به إلى سلسلة منافٍ خارج بلده السودان، منذ أن أقدم جعفر النميري على سحب جواز سفره، فتنقّل في مصر وليبيا ولبنان، قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة في بلدة مغربية. لقد مدح جمال عبد الناصر، خلال السنوات الأولى لثورة يوليو في مصر؛ ورثى القائد الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، الذي أعدمه النميري؛ كما هجا حافظ الأسد (بشجاعة، وعلى نحو مقذع، خلال السنوات الأولى من تدخل النظام السوري في لبنان). ويُحفظ له أنه ألقى مرثية محجوب في بغداد، أثناء إحدى أمسيات المربد، وعلى مسمع صدّام حسين؛ رغم أنّ القصيدة تطال طغاة العرب أجمعين: «لماذا يظن الطغاة الصغار/ وتشحب ألوانهم/ أن موت المناضل موت القضية/ أعلم سرّ احتكام الطغاة إلى البندقية/ لا خائفاً../ إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً/ ولا نادماً../ إن روحي مثقلة بالغضب/ كل طاغية صنم.. دمية من خشب».
من الإنصاف القول، أيضاً، أنه ومجايليه من شعراء السودان في الخمسينيات (جيلي عبد الرحمن، محيي الدين فارس، تاج السر حسن…) أسبغوا على النزعة الأفريقية، وعلى الزنوجة، طابعاً قومياً ينسج على حسّ العروبة، المهيمن بقوّة على الوجدان العربي في تلك العقود؛ كما قاربوا موضوعاتهم من زوايا سياسية وطبقية، إلى جانب نزوعات التطوير في الشكل والمحتوى، ومجارات الحداثة. وإذا جاز القول بأنّ الراحل كان مزمار أفريقيا في السودان، فإنّ مهاراته الشعرية تفاوتت بين مجموعة وأخرى؛ إذْ لمع بشدّة في مجموعته «معزوفة درويش مجهول»، 1971؛ ثمّ تراجع، أو ركدت شعريته، في مجموعات مثل «ثورة عمر المختار»، و«ابتسمي تمرّ الخيل»، و«يأتي العاشقون إليك»، وصولاً إلى مجموعته الأخيرة «عريانًا يرقص تحت الشمس»، 2005، التي توقف بعدها عن كتابة الشعر.
كانت أفريقيا موضوعاً أثيراً، وتأسيسياً، في مشروع الشاعر السوداني (1936 ـ 2015)؛ حتى أنّ مجموعاته الثلاث الأولى احتوت جميعها على اسم القارّة: «أغاني أفريقيا»، 1956؛ «عاشق من أفريقيا»، 1964؛ «أذكريني يا أفريقيا»، 1965؛ فضلاً عن العمل المسرحي «أحزان أفريقيا». ولم يكن الراحل يتفاخر بأنه من جيل روّاد القصيدة العربية الحديثة (وقد كان له دور ريادي، بالفعل، وإنْ لم يرقَ إلى سوية نزار قباني أو بدر شاكر السياب أو صلاح عبد الصبور)، فحسب؛ بل كان يرى أنه مؤسس «الزنوجة» في الشعر العربي، وهو الامتداد العربي للحركة الأدبية التي أطلقها شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير، بشراكة مع الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس؛ ثم أسفرت عن منهج تطبيقي يتيح دراسة «الكتابة السوداء»، وتوفير مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الاستعمارية عموماً، والفرنسية خاصة.
لكن مواقف الفيتوري، السياسية تحديداً، هي التي أفضت به إلى سلسلة منافٍ خارج بلده السودان، منذ أن أقدم جعفر النميري على سحب جواز سفره، فتنقّل في مصر وليبيا ولبنان، قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة في بلدة مغربية. لقد مدح جمال عبد الناصر، خلال السنوات الأولى لثورة يوليو في مصر؛ ورثى القائد الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، الذي أعدمه النميري؛ كما هجا حافظ الأسد (بشجاعة، وعلى نحو مقذع، خلال السنوات الأولى من تدخل النظام السوري في لبنان). ويُحفظ له أنه ألقى مرثية محجوب في بغداد، أثناء إحدى أمسيات المربد، وعلى مسمع صدّام حسين؛ رغم أنّ القصيدة تطال طغاة العرب أجمعين: «لماذا يظن الطغاة الصغار/ وتشحب ألوانهم/ أن موت المناضل موت القضية/ أعلم سرّ احتكام الطغاة إلى البندقية/ لا خائفاً../ إن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً/ ولا نادماً../ إن روحي مثقلة بالغضب/ كل طاغية صنم.. دمية من خشب».
من الإنصاف القول، أيضاً، أنه ومجايليه من شعراء السودان في الخمسينيات (جيلي عبد الرحمن، محيي الدين فارس، تاج السر حسن…) أسبغوا على النزعة الأفريقية، وعلى الزنوجة، طابعاً قومياً ينسج على حسّ العروبة، المهيمن بقوّة على الوجدان العربي في تلك العقود؛ كما قاربوا موضوعاتهم من زوايا سياسية وطبقية، إلى جانب نزوعات التطوير في الشكل والمحتوى، ومجارات الحداثة. وإذا جاز القول بأنّ الراحل كان مزمار أفريقيا في السودان، فإنّ مهاراته الشعرية تفاوتت بين مجموعة وأخرى؛ إذْ لمع بشدّة في مجموعته «معزوفة درويش مجهول»، 1971؛ ثمّ تراجع، أو ركدت شعريته، في مجموعات مثل «ثورة عمر المختار»، و«ابتسمي تمرّ الخيل»، و«يأتي العاشقون إليك»، وصولاً إلى مجموعته الأخيرة «عريانًا يرقص تحت الشمس»، 2005، التي توقف بعدها عن كتابة الشعر.
محمد الفيتوري
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment