حلقة اليوم من مصابيح بجريدة عمان، ملحق مرايا
رائد علم الاجتماع وفهم الدولة والسياسة والحضارة
ابن خلدون.. فيلسوف التاريخ-عماد البليك
ابن خلدون.. فيلسوف التاريخ-عماد البليك
عندما يذكر العَالِم العربي ابن خلدون فسرعان ما يتبادر إلى الأذهان أمران، الأول هو كتاب "المقدمة" الذي هو تقديم لكتابه الضخم "العبر" والذي يعتبر مرجعا لا غني له حفر بصمته كسجل معرفي في التاريخ الإنساني إلى اليوم وأصبح مستقلا ككتاب في حد ذاته أكثر من كونه مجرد مقدمة، والأمر الثاني أن الرجل هو مؤسس علم الاجتماع فقبله تقريبا ليس ثمة خطوط واضحة حول هذا العلم المهم.
ولد عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد الإشبيلي، في الأول من رمضان سنة 732 هـ الموافق 1332م بتونس وتوفي بالقاهرة في 28 رمضان سنة 808 هـ الموافق 1406م، ويقف الآن تمثاله بقلب العاصمة التونسية بساحة الاستقلال تبجيلا له كعلم من أعلام الحضارة العربية والإسلامية يستحق الاحتفاء به.
درس ابن خلدون بجامعة الزيتونة في تونس، لكنه تنقل في العديد من البلدان والمدن بشمال أفريقيا والأندلس حيث غرناطة ومن ثم تلمسان بالجزائر وإلى مصر حيث وجد فيها الكثير من الاهتمام عند السلطان الظاهر برقوق، وقد تولي فيها القضاء وبقي بها حوالي ربع قرن من الزمان إلى أن لقي ربه.
قبل ابن خلدون كان التفكير الاجتماعي موجودا لكنه لم يحك في شكل علم مخصص وله هوية محددة، حيث أن ابن خلدون أول من نبّه إلى وجود هذا العلم واستقلال موضوعه عن غيره من العلوم ووضع أسسه وقد صرح بعبارة واضحة وجلية أنه اكتشف علما مستقلا لم يتكلم فيه السابقون إذ يقول: "وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا".
لقد بسط ابن خلدون ومعرفته في مقدمته التي جاءت درة ثمينة في المعرفة الإنسانية، وفي ست فصول عالجت العمران البشري وهو يقابل "علم الاجتماع العام"، ومن ثم العمران البدوي ومجتمعات البدو التي كشف خصائصها، فدراسته للدولة والخلافة والملك وهو ما يقابل "علم الاجتماع السياسي" حيث درس قواعد الحكم والنظم الدينية وغيرها، وبعدها أتى على العمران الحضري أو "علم الاجتماع الحضري" وقام بشرح الظواهر المتصلة بالحضر وأصول المدنية وتوصل للقاعدة التي تقول أن "التحضر هو غاية التمدن"، وبعد ذلك أتى على الصنائع والمعاش والكسب وهو ما يقابل "علم الاجتماع الاقتصادي" وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع البشري، وفي "علم الاجتماع التربوي" درس العلوم وكيف تكتسب والظواهر التربوية وطرق التعلم وتصنيف العلوم بشكل عام.
وهذه المسارات الستة تكاد قد غطت موضوعات الدولة والمجتمع والحضارة بشكل عام بشكل سلس وغير مسبوق وابتكاري ما يكشف عن عقلية هائلة لرجل عرف كيف يؤلف من ملاحظاته وقراءاته هذه المعرفة الجديدة التي تنمّ عن التحليل والابتكارية الواضحة، ولم ينس ابن خلدون أن يربط موضوعات المجتمع والحضارة بالقيم الأخلاقية والدينية أو من جانب آخر قضية السياسة والأخلاق التي تعتبر موضوعا معقدا إلى الآن.
وإذا كان من تلخيص لمنهج أو عبقرية ابن خلدون فهو قد نقل الظواهر الاجتماعية من حيث التخمين إلى جعلها علم يدرس وله منهج وقواعد يمكن فهمها، وهو الأمر الذي لم يكن ثمة سابق انتباه له لدى العلماء، فالرجل حوّل المجتمع والدولة والإنسان إلى قضية علمية شأنها كالفلك والرياضيات والهندسات من علوم زمانه التي كانت تقوم على الحجج المنطقية والعقلانية، وهو بذلك وضع المجتمع والإنسان والسياسة في حيز العقل ليكشف لنا كيف يمكن أن ينمو هذا المجتمع ويكبر أو يضمحل أو يتطور وغيرها من القضايا الكثيرة في المسارات الستة التي تمت الإشارة إليها.
كما أنه يمكن فهم ابن خلدون من مدخل آخر هو "فلسفة التاريخ" وقد أشار لذلك المؤرخ البريطاني المشهور توينبي بقوله أنه "في المقدمة التي كتبها ابن خلدون في تاريخه العام، أدرك وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ وهي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان"، وفلسفة التاريخ هي فكرة رحبة ومعقدة وشاسعة تعيدنا إلى علاقة الإنسان بالزمان والمكان وكيمياء الصعود والهبوط في سرديات الشعوب والأمم، وقد كان ابن خلدون بالفعل رائعا في هذا الباب الذي لم يسبقه له من أحد وهو يلفت الانتباه لأمور لم تكن ذات اعتبار كبير قبله، إذ كيف يتسنى فهم الذات الإنسانية ومجالها في المجتمع والدولة والحضارة.
وقد استفاد ابن خلدون من تنقله بين البلدان وكذلك المهام الإدارية والسياسية التي شغلها ومشاركته في عدد من الثورات في زمانه، كل ذلك مكّنه من اكتساب خبرات عملية بالتاريخ جعلته يعكس ذلك في مؤلفاته وفلسفته العامة. كذلك فقد كان الرجل واسع الاطلاع على ما سطره الأقدمون وكان يقرأ بعقلية الناقد الحصيف وليس الناقل، لهذا أعمل نقده ودقة ملاحظته ليحوّل كل ذلك إلى علوم جديدة كانت مجال دهشة في حيز زمانه.
وقد اعتمد ابن خلدون العقل كمقياس للمعرفة وفحص الحقائق وتدقيق الحوادث التاريخية، وبهذا فهو صاحب منهجية جلية في فرز المتخيل والخرافي عن الحقيقي والموضوعي، لأن التاريخ قبله كان يقوم على سردية لا تعرف في أكثر الأحيان الفرز بين الموضوع والوهم والإغواءات التي يمكن أن تصيب الناس ليحرفوا الوقائع بناء على الغرض والمصلحة. وإذا كان رواة التاريخ قبل ابن خلدون يخلطون بين الخرافات والأحداث، كذلك اعتماد وسائل غير علمية في تفسير التاريخ مثل التنجيم فإن الرجل حدد الخط الفاصل لتاريخ جديد يقوم على العلة والسبب والنتائج الموضوعية، وقد قال عن التاريخ بأنه "في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها"، ويمضي للتوضيح، ذلك لأن التاريخ "هو خبر عن المجتمع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال".
وهي فلسفة عميقة لا يمكن أن تؤخذ هكذا من القراءة الأولى، وبها نكتشف كيف أن الحضارة الإنسانية في المدنيات الإسلامية بدأت في هذه المرحلة تختط المسار الذي استفادت منه أوروبا لاحقا في تحييد الميثولوجيات والخرافة والأخذ بالتاريخ كمسار إنساني وقيمة حضارية وعلم يعتمد على الجدل العلمي والمنطقي وليس مجرد التهويل أو الابتكارات الذهنية غير ذات المعنى أو الإثبات.
لقد جادل ابن خلدون موضوعات لا تزال مثار سؤال إلى اليوم كقضايا النهضة والصراع بين الأمس واليوم ما بين الأصالة والتجديد والهوية، فمثل نسمعه يقول: "اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات" أو قوله: "ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلهم من المعاش"، وهو بهذا يشير إلى صيرورة الحياة التي لا تتوقف وتنحو دائما نحو الإبداع والتطور وفي مقابل ذلك لابد من الانتصار على الموات البشري والخروج من القماقم.
ولد عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون أبو زيد الإشبيلي، في الأول من رمضان سنة 732 هـ الموافق 1332م بتونس وتوفي بالقاهرة في 28 رمضان سنة 808 هـ الموافق 1406م، ويقف الآن تمثاله بقلب العاصمة التونسية بساحة الاستقلال تبجيلا له كعلم من أعلام الحضارة العربية والإسلامية يستحق الاحتفاء به.
درس ابن خلدون بجامعة الزيتونة في تونس، لكنه تنقل في العديد من البلدان والمدن بشمال أفريقيا والأندلس حيث غرناطة ومن ثم تلمسان بالجزائر وإلى مصر حيث وجد فيها الكثير من الاهتمام عند السلطان الظاهر برقوق، وقد تولي فيها القضاء وبقي بها حوالي ربع قرن من الزمان إلى أن لقي ربه.
قبل ابن خلدون كان التفكير الاجتماعي موجودا لكنه لم يحك في شكل علم مخصص وله هوية محددة، حيث أن ابن خلدون أول من نبّه إلى وجود هذا العلم واستقلال موضوعه عن غيره من العلوم ووضع أسسه وقد صرح بعبارة واضحة وجلية أنه اكتشف علما مستقلا لم يتكلم فيه السابقون إذ يقول: "وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا".
لقد بسط ابن خلدون ومعرفته في مقدمته التي جاءت درة ثمينة في المعرفة الإنسانية، وفي ست فصول عالجت العمران البشري وهو يقابل "علم الاجتماع العام"، ومن ثم العمران البدوي ومجتمعات البدو التي كشف خصائصها، فدراسته للدولة والخلافة والملك وهو ما يقابل "علم الاجتماع السياسي" حيث درس قواعد الحكم والنظم الدينية وغيرها، وبعدها أتى على العمران الحضري أو "علم الاجتماع الحضري" وقام بشرح الظواهر المتصلة بالحضر وأصول المدنية وتوصل للقاعدة التي تقول أن "التحضر هو غاية التمدن"، وبعد ذلك أتى على الصنائع والمعاش والكسب وهو ما يقابل "علم الاجتماع الاقتصادي" وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع البشري، وفي "علم الاجتماع التربوي" درس العلوم وكيف تكتسب والظواهر التربوية وطرق التعلم وتصنيف العلوم بشكل عام.
وهذه المسارات الستة تكاد قد غطت موضوعات الدولة والمجتمع والحضارة بشكل عام بشكل سلس وغير مسبوق وابتكاري ما يكشف عن عقلية هائلة لرجل عرف كيف يؤلف من ملاحظاته وقراءاته هذه المعرفة الجديدة التي تنمّ عن التحليل والابتكارية الواضحة، ولم ينس ابن خلدون أن يربط موضوعات المجتمع والحضارة بالقيم الأخلاقية والدينية أو من جانب آخر قضية السياسة والأخلاق التي تعتبر موضوعا معقدا إلى الآن.
وإذا كان من تلخيص لمنهج أو عبقرية ابن خلدون فهو قد نقل الظواهر الاجتماعية من حيث التخمين إلى جعلها علم يدرس وله منهج وقواعد يمكن فهمها، وهو الأمر الذي لم يكن ثمة سابق انتباه له لدى العلماء، فالرجل حوّل المجتمع والدولة والإنسان إلى قضية علمية شأنها كالفلك والرياضيات والهندسات من علوم زمانه التي كانت تقوم على الحجج المنطقية والعقلانية، وهو بذلك وضع المجتمع والإنسان والسياسة في حيز العقل ليكشف لنا كيف يمكن أن ينمو هذا المجتمع ويكبر أو يضمحل أو يتطور وغيرها من القضايا الكثيرة في المسارات الستة التي تمت الإشارة إليها.
كما أنه يمكن فهم ابن خلدون من مدخل آخر هو "فلسفة التاريخ" وقد أشار لذلك المؤرخ البريطاني المشهور توينبي بقوله أنه "في المقدمة التي كتبها ابن خلدون في تاريخه العام، أدرك وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ وهي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان"، وفلسفة التاريخ هي فكرة رحبة ومعقدة وشاسعة تعيدنا إلى علاقة الإنسان بالزمان والمكان وكيمياء الصعود والهبوط في سرديات الشعوب والأمم، وقد كان ابن خلدون بالفعل رائعا في هذا الباب الذي لم يسبقه له من أحد وهو يلفت الانتباه لأمور لم تكن ذات اعتبار كبير قبله، إذ كيف يتسنى فهم الذات الإنسانية ومجالها في المجتمع والدولة والحضارة.
وقد استفاد ابن خلدون من تنقله بين البلدان وكذلك المهام الإدارية والسياسية التي شغلها ومشاركته في عدد من الثورات في زمانه، كل ذلك مكّنه من اكتساب خبرات عملية بالتاريخ جعلته يعكس ذلك في مؤلفاته وفلسفته العامة. كذلك فقد كان الرجل واسع الاطلاع على ما سطره الأقدمون وكان يقرأ بعقلية الناقد الحصيف وليس الناقل، لهذا أعمل نقده ودقة ملاحظته ليحوّل كل ذلك إلى علوم جديدة كانت مجال دهشة في حيز زمانه.
وقد اعتمد ابن خلدون العقل كمقياس للمعرفة وفحص الحقائق وتدقيق الحوادث التاريخية، وبهذا فهو صاحب منهجية جلية في فرز المتخيل والخرافي عن الحقيقي والموضوعي، لأن التاريخ قبله كان يقوم على سردية لا تعرف في أكثر الأحيان الفرز بين الموضوع والوهم والإغواءات التي يمكن أن تصيب الناس ليحرفوا الوقائع بناء على الغرض والمصلحة. وإذا كان رواة التاريخ قبل ابن خلدون يخلطون بين الخرافات والأحداث، كذلك اعتماد وسائل غير علمية في تفسير التاريخ مثل التنجيم فإن الرجل حدد الخط الفاصل لتاريخ جديد يقوم على العلة والسبب والنتائج الموضوعية، وقد قال عن التاريخ بأنه "في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها"، ويمضي للتوضيح، ذلك لأن التاريخ "هو خبر عن المجتمع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال".
وهي فلسفة عميقة لا يمكن أن تؤخذ هكذا من القراءة الأولى، وبها نكتشف كيف أن الحضارة الإنسانية في المدنيات الإسلامية بدأت في هذه المرحلة تختط المسار الذي استفادت منه أوروبا لاحقا في تحييد الميثولوجيات والخرافة والأخذ بالتاريخ كمسار إنساني وقيمة حضارية وعلم يعتمد على الجدل العلمي والمنطقي وليس مجرد التهويل أو الابتكارات الذهنية غير ذات المعنى أو الإثبات.
لقد جادل ابن خلدون موضوعات لا تزال مثار سؤال إلى اليوم كقضايا النهضة والصراع بين الأمس واليوم ما بين الأصالة والتجديد والهوية، فمثل نسمعه يقول: "اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء، بل أن الأحياء أموات" أو قوله: "ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلهم من المعاش"، وهو بهذا يشير إلى صيرورة الحياة التي لا تتوقف وتنحو دائما نحو الإبداع والتطور وفي مقابل ذلك لابد من الانتصار على الموات البشري والخروج من القماقم.
صورة:
تمثال لابن خلدون في قلب العاصمة بساحة الاستقلال في تونس.
تمثال لابن خلدون في قلب العاصمة بساحة الاستقلال في تونس.
الموضوع على الوصلة:
Comments
Post a Comment