«الدولة الإسلامية»… في الوطن والمهجر
وسام سعادة
بخلاف نموذج «تنظيم القاعدة» الذي لم تكن له أساساً سيادة ترابية مستقرّة على أي امتداد جغرافي – سكاني من العالم، وان نجحت بعض فروعه لاحقاً في تحقيق سيطرات جغرافية لم تعمّر كثيراً، فقد نجح تنظيم «الدولة الاسلامية» في تثبيت نوع من السيادة الترابية على مساحة واسعة من سوريا والعراق منذ أكثر من عام، مخضعاً الملايين إلى سلطته، فتمكن من خلق نوع من «الكيانية الفراتية الجديدة» ولو تحت راية الخلافة العائدة.
قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كانت «حركة طالبان» تقدّم الملاذ لـ»الأفغان العرب» الذين جاهدوا معها ضد «تحالف الشمال»، رغم الاختلاف العقائدي البيّن بين «النيو – حنبلية» والسلفية الجهادية لهؤلاء العرب، وبين التركيبة الحنفية فقهياً والنقشبندية صوفياً لأكثر حركة «طالبان». وبعض هؤلاء «الأفغان العرب» كان ترك أفغانستان وباكستان لسنين طويلة ثم عاد اليها، كحال أسامة بن لادن بعد ابعاده من الخرطوم.
حارب الأمريكيون والأطالسة أفغانستان كما لو كانت تخضع كلها لسلطة تنظيم هامشي في تركيبة «الامارة الاسلامية» الطالبانية آنذاك. طبعاً هامشيته على الصعيد الأفغاني لا تلغي محوريّته كأوسع شبكة ارهابية، أو مصفوفة شبكات، عرفها التاريخ حتى الآن من حيث امتدادها عبر كافة بلدان العالم. سيتبيّن بسرعة لاحقاً، ان تصفية الجسم الأساسي من «الأفغان العرب» كما في تورابورا كان عديم الحيلة في مواجهة حركة متجذرة في الواقع الأهلي لقوم الباشتو على جانبي الحدود الأفغانية – الباكستانية. فـ»طالبان» لن تلبث أن تقود حركة التحرر الوطني الباشتوني مجدداً ضد الاحتلال الصليبي» والنظام الجديد في كابول، وستعود باكستان إلى دعمها في أفغانستان باعتبار ان حكومة كرزاي تمثّل نفوذاً هندياً في آخر الأمر، مع مواجهة عسكرية طويلة تخوضها اسلام اباد في الوقت نفسه ضد الفرع الباكستاني من «طالبان»، وضيق مباغت عندما يوجه الأمريكيون ضربات لهذا الفرع، من دون مراعاة الوطنية الباكستانية، أو حسابات العسكر والمخابرات، المركّبة والمتبدّلة والدقيقة.
الى اليوم، ما زال الشيخ أيمن الظواهري وكوادر «المركز القاعدي» في حماية طالبان – باكستان. ويمثّل «القاعديون» بدورهم مركزاًً ضاغطاً إلى جانب الأكثر تشدّداً ضمن «طالبان»، في وقت يشكّل فيه الملا عمر موقعاً وسطيّاً، بالأحرى. بالتوازي، هناك خوف طالباني، وقاعدي، متزايد، من نشأة فرع قوي لتنظيم «الدولة الاسلامية» في أفغانستان وباكستان وجنوب آسيا.
وهذا تفريع على ظاهرة أوسع: صار «تنظيم الدولة» بعد عام على «فتح» الموصل واعلان الخلافة، ينتشر في نطاقين وجوديين: الوطن.. والمهجر.
«الوطن» هو الكيان الذي يسيطر عليه مقاتلو التنظيم ويمتد من الموصل إلى الأنبار وتدمر مؤخراً. طبعاً، التنظيم لم يكتف بكنس الحدود الاستعمارية بين العراق والشام بل اعتبر الوطنية صنماً ينبغي تحطيمه، وهو وان كان يرتكز على محدد اثني «عربي – سني» يحاكي المرتكز الاثني «الباشتوني» لحركة «طالبان» الا انه لا يستعجل التصالح مع ذلك، ويصرّ على «كونيّة» الخلافة، و»كونيّة» الدولة. هذا في وقت يزيد فيه مراس مقاتليه في حروب الصحراء، وانتزاع التنظيم لقسم معتبر، لعله الأطول، من مجرى نهر الفرات، من السمة «الكيانية» لهذا الكيان «الوطني – اللاوطني» الجديد الصحراوي الفراتي، الذي يصرّ في الوقت نفسه على صون دولته كدولة «مهاجرين أولاً» وليس كدولة «أنصار أولاً» كما في حالة «طالبان»، النموذج المختلف في الثنائية اليثربية المستعادة (أبناء بلد يأوون مهاجرين).
أما «المهجر» فهو بالنسبة لتنظيم «الدولة» مهاجر شتى. خارج الكيان الفراتي الداعشي هناك شبكات موالية للتنظيم عبر العالم، لكن الأهم من ذلك،هناك امارات نامية هنا وهناك وتبايع «التنظيم» فيقبل بيعتها أو يتريّث. دعك من قصة مبايعة «بوكو حرام» النيجيرية للتنظيم، فهذه لم يأت ابو بكر البغدادي على ذكرها في آخر خطبة له. لكن هناك سلسلة «لله درّكم» مثل امارة في سرت الليبية، ومشروع امارة في سيناء، وشيء من هذا في اليمن، ولا يمكن اختزال المشهد الانتحاري الدموي التونسي في عدد القتلى فقط، بل هو ينبئ بتضخّم في عدد المنضوين تحت لواء تنظيم «الدولة» في تونس الذين يريدون أن يفهموا العالم بأنّ لا شيء يوقفهم عن ضرب أي هدف يختارونه في تونس اليوم. يستفيد التنظيم في تونس من تضعضع الشبكة الأمنية للنظام، في حين يتواجه التنظيم مع شبكة أمنية نظامية قوية إلى حد ما في دول الخليج، لكنه يراهن على ايجاد قاعدة متينة له فيها انطلاقاً من اثنتين: الفوز على الجميع في المزاد التعبوي المذهبي ضد الشيعة، واستغلال تعقيدات الحرب اليمنية ضد الحكومة السعودية ومجلس التعاون في نفس الوقت.
الى حد ما، تشبه هذه القسمة بين «داعش الوطن / وطن المهاجرين اولاً» و»داعش المهجر / انصار الدولة المهاجرة عبر العالم» قسمة عرفت في أيام الدولة الفاطمية، بين الامبراطورية الخاضعة لنظام الخليفة الامام وبلاطه وادارته، وبين «الجزائر» الفاطمية غير المتصلة بالمدى الجغرافي الفاطمي، والمتناثرة عبر أقطار العالم الاسلامي، انما المتصلة بالمركز القاهري للدعوة، من خلال داعي الدعاة وشبكة الدعاة. «داعش» أيضاً اليوم، مدى متصل ببعضه البعض في العراق وسوريا، وامتداد متناثر، لجزائر وامارات وشبكات عبر العالم.
محاصرة أو تقويض «داعش» صارت اذاً مسألة لها بعدان متمايزان إلى حد بعيد: واحد متصل بمحاصرة أو تقويض «داعش الوطن» وثانية متصلة بمحاصرة أو تقويض «داعش المهاجر». في الحالتين، الواضح انه قبل عام من تاريخه، لم يؤخذ أثر اعلان الخلافة «الراشدية الجديدة» بما يستحقه من خطورة، خطورة الجمع بين تركيبة «اثنية» عربية سنية «استقبالية» أو «خضوعية» لـ»دولة المهاجرين» القائمة بالفعل على أرض العراق والشام، وبين تركيبة كونية، أممية، «امبراطورية مضادة»، تختلف بنيوياً، باعتمادها ثنائية «وطن ومهجر»، وقلبها ثنائية «مهاجرون وأنصار» في الوقت ذاته، عن «تنظيم القاعدة».
٭ كاتب لبناني
قبل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كانت «حركة طالبان» تقدّم الملاذ لـ»الأفغان العرب» الذين جاهدوا معها ضد «تحالف الشمال»، رغم الاختلاف العقائدي البيّن بين «النيو – حنبلية» والسلفية الجهادية لهؤلاء العرب، وبين التركيبة الحنفية فقهياً والنقشبندية صوفياً لأكثر حركة «طالبان». وبعض هؤلاء «الأفغان العرب» كان ترك أفغانستان وباكستان لسنين طويلة ثم عاد اليها، كحال أسامة بن لادن بعد ابعاده من الخرطوم.
حارب الأمريكيون والأطالسة أفغانستان كما لو كانت تخضع كلها لسلطة تنظيم هامشي في تركيبة «الامارة الاسلامية» الطالبانية آنذاك. طبعاً هامشيته على الصعيد الأفغاني لا تلغي محوريّته كأوسع شبكة ارهابية، أو مصفوفة شبكات، عرفها التاريخ حتى الآن من حيث امتدادها عبر كافة بلدان العالم. سيتبيّن بسرعة لاحقاً، ان تصفية الجسم الأساسي من «الأفغان العرب» كما في تورابورا كان عديم الحيلة في مواجهة حركة متجذرة في الواقع الأهلي لقوم الباشتو على جانبي الحدود الأفغانية – الباكستانية. فـ»طالبان» لن تلبث أن تقود حركة التحرر الوطني الباشتوني مجدداً ضد الاحتلال الصليبي» والنظام الجديد في كابول، وستعود باكستان إلى دعمها في أفغانستان باعتبار ان حكومة كرزاي تمثّل نفوذاً هندياً في آخر الأمر، مع مواجهة عسكرية طويلة تخوضها اسلام اباد في الوقت نفسه ضد الفرع الباكستاني من «طالبان»، وضيق مباغت عندما يوجه الأمريكيون ضربات لهذا الفرع، من دون مراعاة الوطنية الباكستانية، أو حسابات العسكر والمخابرات، المركّبة والمتبدّلة والدقيقة.
الى اليوم، ما زال الشيخ أيمن الظواهري وكوادر «المركز القاعدي» في حماية طالبان – باكستان. ويمثّل «القاعديون» بدورهم مركزاًً ضاغطاً إلى جانب الأكثر تشدّداً ضمن «طالبان»، في وقت يشكّل فيه الملا عمر موقعاً وسطيّاً، بالأحرى. بالتوازي، هناك خوف طالباني، وقاعدي، متزايد، من نشأة فرع قوي لتنظيم «الدولة الاسلامية» في أفغانستان وباكستان وجنوب آسيا.
وهذا تفريع على ظاهرة أوسع: صار «تنظيم الدولة» بعد عام على «فتح» الموصل واعلان الخلافة، ينتشر في نطاقين وجوديين: الوطن.. والمهجر.
«الوطن» هو الكيان الذي يسيطر عليه مقاتلو التنظيم ويمتد من الموصل إلى الأنبار وتدمر مؤخراً. طبعاً، التنظيم لم يكتف بكنس الحدود الاستعمارية بين العراق والشام بل اعتبر الوطنية صنماً ينبغي تحطيمه، وهو وان كان يرتكز على محدد اثني «عربي – سني» يحاكي المرتكز الاثني «الباشتوني» لحركة «طالبان» الا انه لا يستعجل التصالح مع ذلك، ويصرّ على «كونيّة» الخلافة، و»كونيّة» الدولة. هذا في وقت يزيد فيه مراس مقاتليه في حروب الصحراء، وانتزاع التنظيم لقسم معتبر، لعله الأطول، من مجرى نهر الفرات، من السمة «الكيانية» لهذا الكيان «الوطني – اللاوطني» الجديد الصحراوي الفراتي، الذي يصرّ في الوقت نفسه على صون دولته كدولة «مهاجرين أولاً» وليس كدولة «أنصار أولاً» كما في حالة «طالبان»، النموذج المختلف في الثنائية اليثربية المستعادة (أبناء بلد يأوون مهاجرين).
أما «المهجر» فهو بالنسبة لتنظيم «الدولة» مهاجر شتى. خارج الكيان الفراتي الداعشي هناك شبكات موالية للتنظيم عبر العالم، لكن الأهم من ذلك،هناك امارات نامية هنا وهناك وتبايع «التنظيم» فيقبل بيعتها أو يتريّث. دعك من قصة مبايعة «بوكو حرام» النيجيرية للتنظيم، فهذه لم يأت ابو بكر البغدادي على ذكرها في آخر خطبة له. لكن هناك سلسلة «لله درّكم» مثل امارة في سرت الليبية، ومشروع امارة في سيناء، وشيء من هذا في اليمن، ولا يمكن اختزال المشهد الانتحاري الدموي التونسي في عدد القتلى فقط، بل هو ينبئ بتضخّم في عدد المنضوين تحت لواء تنظيم «الدولة» في تونس الذين يريدون أن يفهموا العالم بأنّ لا شيء يوقفهم عن ضرب أي هدف يختارونه في تونس اليوم. يستفيد التنظيم في تونس من تضعضع الشبكة الأمنية للنظام، في حين يتواجه التنظيم مع شبكة أمنية نظامية قوية إلى حد ما في دول الخليج، لكنه يراهن على ايجاد قاعدة متينة له فيها انطلاقاً من اثنتين: الفوز على الجميع في المزاد التعبوي المذهبي ضد الشيعة، واستغلال تعقيدات الحرب اليمنية ضد الحكومة السعودية ومجلس التعاون في نفس الوقت.
الى حد ما، تشبه هذه القسمة بين «داعش الوطن / وطن المهاجرين اولاً» و»داعش المهجر / انصار الدولة المهاجرة عبر العالم» قسمة عرفت في أيام الدولة الفاطمية، بين الامبراطورية الخاضعة لنظام الخليفة الامام وبلاطه وادارته، وبين «الجزائر» الفاطمية غير المتصلة بالمدى الجغرافي الفاطمي، والمتناثرة عبر أقطار العالم الاسلامي، انما المتصلة بالمركز القاهري للدعوة، من خلال داعي الدعاة وشبكة الدعاة. «داعش» أيضاً اليوم، مدى متصل ببعضه البعض في العراق وسوريا، وامتداد متناثر، لجزائر وامارات وشبكات عبر العالم.
محاصرة أو تقويض «داعش» صارت اذاً مسألة لها بعدان متمايزان إلى حد بعيد: واحد متصل بمحاصرة أو تقويض «داعش الوطن» وثانية متصلة بمحاصرة أو تقويض «داعش المهاجر». في الحالتين، الواضح انه قبل عام من تاريخه، لم يؤخذ أثر اعلان الخلافة «الراشدية الجديدة» بما يستحقه من خطورة، خطورة الجمع بين تركيبة «اثنية» عربية سنية «استقبالية» أو «خضوعية» لـ»دولة المهاجرين» القائمة بالفعل على أرض العراق والشام، وبين تركيبة كونية، أممية، «امبراطورية مضادة»، تختلف بنيوياً، باعتمادها ثنائية «وطن ومهجر»، وقلبها ثنائية «مهاجرون وأنصار» في الوقت ذاته، عن «تنظيم القاعدة».
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment