احترموا الكتاب قبل تسويقه
بروين حبيب
ليس للبعض القدرة حتى على دخول مكتبة، وهذا ما يجعلني أتساءل لماذا هذه العلاقة العدائية مع الكتاب؟
لكنني وأنا أتجوّل في إحدى المكتبات في لندن انتبهت لشيء مهم، وهو أننا نقدم الكتاب للقارئ كمادة جامدة، ولعلّ العتب هنا يقع كله على مسوّقي الكتاب. في المكتبات الأجنبية نجد الكتب مصفوفة بشكل جذاب، مقسمة لأجنحة والأجنحة لأقسام، يدخل الشخص ويتوجه نحو ضالته مباشرة، يجذبه الترتيب وطريقة عرض الكتب. تبدو الكتب مثل أشخاص في قمة الأناقة تستقبلك وتحضنك وتغمرك بمحبة عارمة، كل شيء فيها يناديك ويشدك، الألوان والعناوين والأغلفة الجميلة، والتصنيفات التي تجعل من كل جناح كأنه بيتك.
يجد الطفل ضالته، يجلس على الأرض النظيفة ويتصفح ما يريد قبل أن يختار ما سيقتنيه. يجد عاشق الرواية ضالته، وعاشق الشعر يجد مصنفات هوايته من العصور الأولى للشعر إلى عصرنا الحالي …
لكنني وأنا أتجوّل في إحدى المكتبات في لندن انتبهت لشيء مهم، وهو أننا نقدم الكتاب للقارئ كمادة جامدة، ولعلّ العتب هنا يقع كله على مسوّقي الكتاب. في المكتبات الأجنبية نجد الكتب مصفوفة بشكل جذاب، مقسمة لأجنحة والأجنحة لأقسام، يدخل الشخص ويتوجه نحو ضالته مباشرة، يجذبه الترتيب وطريقة عرض الكتب. تبدو الكتب مثل أشخاص في قمة الأناقة تستقبلك وتحضنك وتغمرك بمحبة عارمة، كل شيء فيها يناديك ويشدك، الألوان والعناوين والأغلفة الجميلة، والتصنيفات التي تجعل من كل جناح كأنه بيتك.
يجد الطفل ضالته، يجلس على الأرض النظيفة ويتصفح ما يريد قبل أن يختار ما سيقتنيه. يجد عاشق الرواية ضالته، وعاشق الشعر يجد مصنفات هوايته من العصور الأولى للشعر إلى عصرنا الحالي …
كل شيء منظم وجميل
يحدث هذا أيضا في مكتبات في العالم العربي في أجنحة الكتاب الأجنبي، حيث تجد النظام نفسه، وتبدأ متعتك بمجرّد رؤية رفوف الكتب وطريقة عرضها… لكن لسبب نجهله لا نجد الجاذبية نفسها في أجنحة الكتاب العربي… تقف أمام رفوف الرواية فتراها مصفوفة كأنها جيوش في استعراض عسكري، بشكل ما تشعر أن لها وقار العساكر، تحترمها ولكنّها لا تدعوك للقراءة أبدا… ربما هذا شعور شخصي، لكنّ الفضل لأمي التي غرست في داخلي حب الكتاب، فقد تعلّمت كيف أمد يدي وأكسر هيبة تلك الصفوف التي تخفي الأغلفة والعناوين، وأشم رائحة الورق قبل أن أقرأ العنوان وأقرأ ما خلف الغلاف، وأترك حاستي الأدبية تقرر ما إذا كنت سأشتريه أم لا…
لطالما شعرت بأن حكمة رياض الريس العظيم «لا تترك الكتاب وحيدا» حكمة في قمّة الأدب… الكتاب لا يترك وحيدا، فكل كتاب طبع سلفا من أجل قارئ معين، فلماذا لا يهتدي إليه قارئه. لطالما تخيلت أيضا أن الكتاب الذي لا يُشترى وتحضنه يدان دافئتان وتحاوره عينان شبقتان سيعيش حياة تعيسة، مثل اليتيم الذي يفقد أبويه. للكتاب أيضا مشاعر، لكن من يعرفها غير الذي يفتح دفتيه ويعيش ما بداخله؟ هناك كتب أبكتنا، وكتب زرعت الفرح في قلوبنا، وكتب أخرى أحيتنا بعد أن كنا على شفير الموت. كتب أخرى تحملنا في أسفار عجيبة، تطير بنا من بلد إلى بلد، وأذكر في طفولتي أنني قرأت عن عواصم عالمية كثيرة وعرفت عنها الكثير وظلّت في قلبي رغبة رؤية بعضها، ظلّت تلح عليّ حتى أصبحت هدفا في حياتي، فاجتهدت بقدر الإمكان حتى أمنح لنفسي متعة السفر إليها. سحر الكتب لا يمكن أن يعرفه شخص يمر قرب مكتبة من دون أن يعيرها اهتماما.
الكتاب الذي يرمقك من خلف واجهة الكتب كتاب يدعوك بمحبة ورفق لتنظر إليه أيضا، ويستحيل أن يمر شخص على مكتبة، ولا يجد شيئا يناسب ذائقته. فقط علينا أن نتخطى تلك القاعدة البليدة التي يطلقها بعض المثقفين المتعالين عن العامة، كأن يحكموا على عامة المجتمع أنه شبه أمّي، أو أنه لا يقرأ سوى كتب الطبخ والأبراج والشعوذة. في إحدى المكتبات في باريس، اقتنيت لصديقة كتابا عن الأبراج وتوقعات السنة الجديدة، أوصتني عليه، ولأنني لا أتقن الفرنسية فقد أعطيت الورقة لصبية في المكتبة سرعان ما تدبّرت حالها وقادتني للطابق الذي يحوي كتبا كلها تحكي عن الأبراج، ثم نادت شابا يتحدث بالعربية بعد أن عرفت أنني عربية، وراح الشاب يشرح لي ميزات الكتاب، ثم راح يقترح عليّ كتبا أخرى تقرب مفهوم الفلك لي، فأخبرته أنني لا أفهم الفرنسية، فقال بسرعة جميلة وخارقة وهو يحمل كتابا بغلاف جذاب جدا: «هذا سيكون هدية ممتازة لصديقتك» …
صحيح عرفت أنّ الشاب لبناني، والتجارة تجري في دمه، لكن من وظفه أيضا حتما وظّفه لمواهبه. بصراحة في ظرف دقيقة أو دقيقتين أقنعني بأن أشتري كتابين، وحاملة مفاتيح تتدلّى منها كواكب المجموعة الشمسية هدية لصديقتي …
لطالما شعرت بأن حكمة رياض الريس العظيم «لا تترك الكتاب وحيدا» حكمة في قمّة الأدب… الكتاب لا يترك وحيدا، فكل كتاب طبع سلفا من أجل قارئ معين، فلماذا لا يهتدي إليه قارئه. لطالما تخيلت أيضا أن الكتاب الذي لا يُشترى وتحضنه يدان دافئتان وتحاوره عينان شبقتان سيعيش حياة تعيسة، مثل اليتيم الذي يفقد أبويه. للكتاب أيضا مشاعر، لكن من يعرفها غير الذي يفتح دفتيه ويعيش ما بداخله؟ هناك كتب أبكتنا، وكتب زرعت الفرح في قلوبنا، وكتب أخرى أحيتنا بعد أن كنا على شفير الموت. كتب أخرى تحملنا في أسفار عجيبة، تطير بنا من بلد إلى بلد، وأذكر في طفولتي أنني قرأت عن عواصم عالمية كثيرة وعرفت عنها الكثير وظلّت في قلبي رغبة رؤية بعضها، ظلّت تلح عليّ حتى أصبحت هدفا في حياتي، فاجتهدت بقدر الإمكان حتى أمنح لنفسي متعة السفر إليها. سحر الكتب لا يمكن أن يعرفه شخص يمر قرب مكتبة من دون أن يعيرها اهتماما.
الكتاب الذي يرمقك من خلف واجهة الكتب كتاب يدعوك بمحبة ورفق لتنظر إليه أيضا، ويستحيل أن يمر شخص على مكتبة، ولا يجد شيئا يناسب ذائقته. فقط علينا أن نتخطى تلك القاعدة البليدة التي يطلقها بعض المثقفين المتعالين عن العامة، كأن يحكموا على عامة المجتمع أنه شبه أمّي، أو أنه لا يقرأ سوى كتب الطبخ والأبراج والشعوذة. في إحدى المكتبات في باريس، اقتنيت لصديقة كتابا عن الأبراج وتوقعات السنة الجديدة، أوصتني عليه، ولأنني لا أتقن الفرنسية فقد أعطيت الورقة لصبية في المكتبة سرعان ما تدبّرت حالها وقادتني للطابق الذي يحوي كتبا كلها تحكي عن الأبراج، ثم نادت شابا يتحدث بالعربية بعد أن عرفت أنني عربية، وراح الشاب يشرح لي ميزات الكتاب، ثم راح يقترح عليّ كتبا أخرى تقرب مفهوم الفلك لي، فأخبرته أنني لا أفهم الفرنسية، فقال بسرعة جميلة وخارقة وهو يحمل كتابا بغلاف جذاب جدا: «هذا سيكون هدية ممتازة لصديقتك» …
صحيح عرفت أنّ الشاب لبناني، والتجارة تجري في دمه، لكن من وظفه أيضا حتما وظّفه لمواهبه. بصراحة في ظرف دقيقة أو دقيقتين أقنعني بأن أشتري كتابين، وحاملة مفاتيح تتدلّى منها كواكب المجموعة الشمسية هدية لصديقتي …
هل نملك مكتبات تعتمد هذا النوع من البائعين؟
تدخل المكتبة العربية وتتأمل الكتب التي ترمقك وكأنها تتسوّل عطفك، تسأل البائع عادة عن كتاب تريده، فيجيبك «خالص» …والحقيقة أنه ربما لا يحضر أكثر من نسخة، بعد أن يسأل عدة مرات عن الكتاب، ثم حين تباع يحضر نسختين أو ثلاث نسخ… كل شيء يتم على «ستين ألف مهله» مثل حركة البائع، مثل طريقة كلامه، ومثل طريقة تقديمه الكتاب لك…
فقد يجيبك «يوجد» ويقوم كالسلحفاة المتثائبة بعد نومها الشتوي الطويل، ويبحث عن الكتاب ناسيا في أي رف وضعه، ثم يسحبه، ويمسح عنه الغبرة بكمه، ويقدمه لك وكأنّه تخلّص من عبء ثقيل…
فقد يجيبك «يوجد» ويقوم كالسلحفاة المتثائبة بعد نومها الشتوي الطويل، ويبحث عن الكتاب ناسيا في أي رف وضعه، ثم يسحبه، ويمسح عنه الغبرة بكمه، ويقدمه لك وكأنّه تخلّص من عبء ثقيل…
هل أبالغ؟
أنا لا أبالغ، فقد جمعت أكثر من نموذج من باعة الكتب وقدمته لكم في هذا النموذج. وهناك طبعا نماذج كثيرة، تشعر معها أحيانا بأنك أمام بائعين عاديين في سوبر ماركت وليس بائعي كتب… فيما هناك نموذج آخر بمجرّد أن تراه ترى بؤس العالم العربي كله على ملامحه وثيابه، بعض باعة الكتب أشعر بأن الغبرة تغطيهم من فوق لتحت ويحتاجون «لنفضة»… والله أكتب هذا الكلام من دون أيّ غاية في التجريح ذلك لأنني أتمنى أن تتغير طريقة تسويق الكتاب العربي، وطريقة تقديمه للقارئ، باحترامه أولا، فلا يمكن أن نبهدل الكتاب في دور النشر ثم في المطابع، ثم في المرافئ، ثم في الجمارك، ثم في المكتبات، ثم في الإعلام بإلصاق كل أنواع التهم بالكُتّاب ومحتويات الكتب… ثم نطرح الأسئلة التعجيزية التي تتهم الجمهور العربي وحده على نسق: لماذا لا يقبل القارئ العربي على الكتاب؟
طيب هذه نقطة حسّاسة ووجب علينا أن نلتفت إليها، وأنا عندي أمل أن كل إنجاز يبدأ بخطوة، وأوّل خطوة أن نتعامل مع الكتاب كما لو أننا نتعامل مع كائن حي يحتاج للاهتمام، وليس من واجبي أن أذكر أيًّا كان أن التعليقات السلبية التي تقول إننا لا نحترم أي كائن حي فلماذا نحترم كومة من الورق، تعليقات لا تضيف لمسارنا الحضاري شيئا. كل ما يجب فعله هو أن نتّخذ قرارا صارما على أن نتغير بشكل إيجابي، قرار لا رجعة فيه مثل أولائك الذين يقررون أن يتوقفوا عن التدخين فيرمون علبة السّجائر خلف ظهورهم وتنتهي محنتهم مع التبغ والنيكوتين إلى الأبد…
طيب هذه نقطة حسّاسة ووجب علينا أن نلتفت إليها، وأنا عندي أمل أن كل إنجاز يبدأ بخطوة، وأوّل خطوة أن نتعامل مع الكتاب كما لو أننا نتعامل مع كائن حي يحتاج للاهتمام، وليس من واجبي أن أذكر أيًّا كان أن التعليقات السلبية التي تقول إننا لا نحترم أي كائن حي فلماذا نحترم كومة من الورق، تعليقات لا تضيف لمسارنا الحضاري شيئا. كل ما يجب فعله هو أن نتّخذ قرارا صارما على أن نتغير بشكل إيجابي، قرار لا رجعة فيه مثل أولائك الذين يقررون أن يتوقفوا عن التدخين فيرمون علبة السّجائر خلف ظهورهم وتنتهي محنتهم مع التبغ والنيكوتين إلى الأبد…
هذا تماما ما أتمنى أن أراه وأقرأه…
أن نحترم الكتاب ليعطي ثماره، أن نحبه ليمنحنا متعة كاملة، ومحبّة الكتاب ليس أن نحمل أي كتاب ونحاول قراءته، كما لو أننا نبلع زيت السمك على الرّيق. حب الكتاب يبدأ حين نقرر أيضا أن نقتني شيئا نحبه، علينا أن نتعلّم أن «نفلفش» بين الكتب ما دامت رفوف مكتباتنا غير منظمة، ولا تعرف أن تقدم لنا الكتاب كرفيق متميز لأماسي الوحدة أو لليالي التي نريد أن نستجمع فيها أنفسنا ونعيد بناءها بعيدا عن ضجيج وفوضى العالم من حولنا.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment