سنار: أكذوبة المنشأ (العقل الرعوي15)
عبد الله علي إبراهيم
كان دكتور النور حمد حسن الظن، بل ربما مشروقاً، بمأثرة الفونج وبلغ من إيثاره لها أن رأى الحبل غير السري الذي يشد عقيدته الجمهورية لها عبر الثورة المهدية. كان ذلكم في مقاله "غيبة السودان الحضاريّة ومحنة العقل المُحْتَل" (الورقة مقدمة لمؤتمر اتحاد الكتاب السودانيين "نسب السودان الحضاري"، الخرطوم 2013). وكان هذه حاله في تثمين الخبرة الفونجية في ورقة أخرى لمؤتمر اتحاد الكتاب في 2014 بعنوان "من الاستتباع إلى الشراكة: نقد النظرة الخديوية تجاه الجوار الجنوبي" نشرتها له كرامة (مارس 2015). ثم وقع على مفهوم العقل الرعوي فاسترذلها. فالفونج عنده بعد بشاشته الباكرة لها نتاج تحالف رعوي فونجي أفريقي وقواسمي عربي بين عمارة دونقس وعبد الله جماع دمر دولة سوبا المسيحية حتى صار خرابها عبرة للعالمين. وقضى الرعاة الجفاة على تقاليد الحضارة الكوشية التي خلاصنا اليوم في استردادها من جحفلة الرعاة وعقلهم البئيس.
فالفونج عند النور في تشريحه للعقل الرعوي ليست بشيء. فهي شحيحة الإنجاز في مضمار التحضر أرجعت ساعة التاريخ للوراء" لتكون سمة الزمن الحروب القبلية ضد سلطة دولة الفونج. فالعهد السناري ليس سوى مسلسل من الحروب أضعف البنية الحضارية المتوارثة. فالرعاة البدو طامعون في السلطة من أجل الامتلاك والثراء كعادة الرعاة عبر التاريخ. فهم على جِبلة الغزو والاستحواذ خاصة حين يجاورون بيئة حضارية متقدمة يلمحون فيها علامات ضعف عسكري".وخلص إلى أن الفونج ارتداد حضاري قياساً بممالك النوبة. وحتى تحولها للإسلام، الذي أخذناه كميزة "قيمة متحولة"، مجرد دعاية معاصرة نتباهى بها كأسطورة منشأ عن كرم أصلنا ومحتدنا. فالدولة في سيرتها ومؤسساتها ضعيفة الصلة بتعاليم الإسلام.
ولم يكن النور في مقالاته السابقة لتشريحه للعقل الرعوي بهذا التبخيس لسلطنة الفونج. فعدها مشهد "نهضة نسبية" كان بوسعها إدخال السودان "على حقبة الحداثة من مدخلٍ خاصٍّ به، لولا دخول الغزو التركي المصري في الصورة وحرفه للمسار". فالفونج بعض "الجذوة التي انطبخ عليها في القدم مزيج الشخصية السودانية، ومواريثها ذات الأضلاع الأربعة؛ الكوشي، والمسيحي، والإحيائي الإفريقي، والإسلامي الصّوفي. هذا المزيج أصبح شيئًا واحدًا أطلق عليه بعضنا "السودانوية"، وهي تسمية موفّقةٌ جدًّا".وسمى الحقبة التركية (1821-1885) إرباكاً لنمو السودان "بتغييره لبنية العقل السوداني، وهو ما أسمِّيه "احتلالاً عقليًا".وهو احتلال عقلي لم يقتصر على الأتراك بل شمل الحكم البريطاني المصري. فاستتبع الأتراك السودان ليلحقوه بالفضاء المشرقي المتوسطي مجرداً من المساهمة إلى يومنا ويوم مصر هذا. وفات على النور أن يأت بمغبة واحدة لاستتباعنا لبريطانيا في الورقة. فرهن تحرير العقل السوداني من حال احتلاله " بتفكيك التركة الإستعمارية الضخمة للحقبة الخديوية". وهذا كيل بمكيالين.
وتجد النور، لا كما بدا من مقالاته عن العقل الرعوي، يصل بين كوش والفونج بغير عسر. فيقول إن غيبتنا الحضارية الطويلة لم تخل من بعض الحيوية الحضارية التي تشهد عليها المخلفات الأثرية للممالك النوبية المسيحية، في نوباديا، والمقرة، وعلوة (550 – 1504م)، إلى جانب بعض المواريث الروحانية والسياسية والاجتماعية من عصر سلطنة الفونج الإسلامية في سنار (1504 – 1821)، وهي مواريث ترجع، في الحالة السنارية، إلى مؤسسة التصوف الشعبية، بأكثر مما ترجع لنظام الحكم".
وأطنب النور في جمال صوفية الفونج. فوليها مهاب مدني الوظيفة لأنه يحول بين عامة الناس وبطش الحكام. ووصل بين صوفية وإرث كوش بنباهة فميز المعادلة الثقافية السنارية بتظليل الطقوس لها كفكر ممارسة اجتماعية " أكثر من كونه فكرًأ نظريًّا فلسفيًّا - تقوم على أسس توافقية سلمية لا يزعجها التنوع، لكونها برئت، بحكم الميراث الثقافي الطويل في العهود الكوشية والمسيحية، من التشدد الفقهي النزّاع إلى تغيير الآخر المختلف، وإلى الضيق باختلافه، ومن ثم العمد إلى قهره وتهميشه".
وليس النور بالمستيئس من الخمول الذي ران علينا على زمننا هذا. فمن رأية " إن الحالة السودانية الراهنة التي تبدو مزيجًا غريبًا من الفشل المزمن واليأس، من جهة، ومن بشائر ووعودٍ كامنةٍ تشير إلى إمكان قيام نهضةٍ كبيرةٍ، شديدة التميز والفرادة، من الجهة الأخرى، هي بعضٌ مما يميز هذا البلد العجيب". وهذا التفاؤل بالبشريات القادمة مما انتفعه النور من الأستاذ محمود محمد طه الذ قَعّد له في منشوره "السفر الأول" الذي صدر في عام 1945، وكان بمثابة المانيفيستو الأول للحزب الجمهوري. وجاء في نصه: "يؤمن الحزب الجمهوري، إيماناً لا حد له بالسودان، ويعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف إلى ذخر الإنسانية ألواناً شهيّةً من غذاء الروح، وغذاء الفكر، إذا آمن به أبناؤه، فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة، ومقوماته" (التشديد من النور).
وكان النور حسن الظن بنا كنتاج حضارة متفردة من مخاض طويل شكلته "روافد إثنية، وثقافية، وروحانية، تمازجت لتنتج خصائص مزاجية، واجتماعية، ووجدانية، أثمرت في خلاصاتها بنيةً حضاريةً جديدةً متكاملةً ذات شخصيةٍ مميزة، وذات استقلالية". ونشأ السوداني بالنتيجة على مكارم الأخلاق مما شهد به الغير. ولا يقصر النور هذه الخلق الوضئ على قبس الإسلام والعروبة كما قد يفعل غيره بل يراه أقدم من ذلك عائداً ألى عهد كوش.
وكان النور حفياً بالمهدية ايضاً حتى قلب لها ظهر المجن في مقالات العقل الرعوي فقال إنها هبة رعوية هدمت عمار تحديث الأتراك لنا رغم عتوهم وظلمهم. وهم نفس الأتراك الذين رأيناه يطعن فيهم وفي استتباعنا لهم بأنصح العبارات. فأخذ عليهم في مقاله تنشئة طائفة علماء السوء من أهل المرتبة في جهاز الدولة ممن ناصبوا العداء "محمد أحمد المهدي الثائر السوداني، الذي انتزع حق تمثيل المقهورين من السودانيين، بخطابه الدينيِّ الحار، المحرِّض على الانتفاض ضد الاحتلال، وضد الاستبداد، والاضطهاد، والقهر، والظلم. ثم صارت المهدية بليل رعوية مخربة بغير بيان من النور لهذا الانقلاب على فكره الأول.
والنور صريح في نسبة نفسه الجمهورية إلى تقليد المهدية وصوفية سنار (لا دولتهم). فقال إننا أخفقنا ثلاث مرات في تملك الإسلام سودانياً. كانت المرة أولى على يد الصوفية السنارية ثم على يد المهدية وأخيرتها على يد الأستاذ محمود محمد طه. والتفت إلى المهدية وقال إنها مثل للجرأة والاعتداد بالذات "رغم علتها الجوهرية المتمثلة في الزعم بامتلاك الحقيقة كلها، ورغم افتقارها إلى العلم الكبير المحيط المتضمن ادراكًا دقيقًا بحاجة العصر وطاقته". وسماها صحوةً مهمّةً جدًّا لأن "ما قام به المهدي من محاولةٍ لتملُّكٍ سودانيٍّ للإسلام، كان أول صرخةٍ سودانيةٍ قويّةً في وجه احتلال العقل السوداني بواسطة الأجنبي، وهذا يُحمد للمهدي". والمهدية، من جهة أخرى، نسخة سودانية للإسلام غرفت مما جسدته "مؤسسة التصوف السنارية الشعبية، التي كانت شديدة التميز، وشديدة الاتصال بجوهر الإسلام الخالد، وشديدة الاتصال بحياة الناس اليومية، خاصةً إذا تمت مقارنتها بالفقة المدرسي المنفصل عن جوهر القيم الإسلامية، وعن حياة الناس، وبتصوف الأقطاب الفلسفي، المحلق فوق سموات الناس العاديين".
واختلفت الفكرة الجمهورية عن المهدية في أشياء مع ذلك. ولكن ما يجمع بينهما "أنهما رأتا في الإسلام حقًّا لهما، بالأصالة، وليس بالتبعية لأي جهةٍ أخرى خارجية، فسعيتا إلى تملُّكِه سودانيًّا وترجمته سودانيًّا" برده "إلى جذره الأصيل، ومعناه الانساني الذي لم تلوثه ملابسات التاريخ والسياسة بعد الحكم الراشدي. أخفقت المهدية في سعيها الفكري، لأنها لم تكن أصلاً تملك أدوات التقعيد الفكري، بحكم المرحلة التي جاءت فيها. غير أن المهدية من الناحية العملية، أعطت القطر السوداني وحدة أراضيه، مع خلق إحساس سوداني مشترك، مثّل التخلُّق الأول للوطنية السودانية. ما صنعته المهدية على أرض الواقع أصبح هو الوعاء الذي جعل البحث عن الجذر الضائع ممكناً."
بل وجد النور لفكرته الجمهورية نسباً وطيداً في الثورة المهدية ف"مثّلت الثورة المهدية ارهاصًا مبكِّرًا للفكرة الجمهورية، ومثّل كلاهما مرتكزًا في مضمار البحث عن الذات السودانية الضائعة، وعن الطاقة الحضارية المدفونة تحت ركام من المعلومات الخاطئة والتصورات الخاطئة. والذي يجمع بين هاتين الحركتين الإحيائيتين أنهما سودانيتا الأصل، وانهما انبنتا على تراثِ التصوف السناري، وأنهما وقفتا ضد الفقه المدرسي الوافد، وضد افراغه للدين من محتواه، وجعله شأنًا وظيفيًّا يقوم به حصريَّا قبيلً متخصِّصٌ في الدارسات الفقهية، يُسمَّوْن برجال الدين. فتلك الصورة المؤسسية الوظيفية الأداتية للدين، التي دخلت مع الغزو التركي المصري الخديوي، ليست من الإسلام، وإنما تعود شكلاً ومضمونًا إلى تقاليد الكهنوت اليهودي والمسيحي في العصور الغابرة.
وأكد النور في ختام ورقته أنه لا يدعو، لا صراحةً ولا ضمنًا، في دعوته الكوشية إلى "أي جفوةٍ مع الإسلام أو مع العروبة، أو إلى أي انكارٍ للمكونات العربية والإسلامية في مُركَّب الهوية السودانية. فالإسلام والعروبة مكونان هامّان جدًّا من مكونات الشخصية السودانية". وهما كذلك مكون في هوية شرق أفريقيا منذ عابر الحقب. ولكن كل ما في الأمر " أن تماهينا مع الإسلام ومع العروبة ينبغي أن يكون تماهيًا من حيث الجوهر، لا من حيث الملابسات التاريخية خاصة التي حدثت في فترة الانحطاط الاسلامية الطويلة. فما نحتاجه نحن اليوم كسودانيين، هو إعادة تعريف الإسلام، والعروبة، وربطهما بالقيم الانسانية الخالدة، وبما ورثناه من فضائل كتبها في شفراتنا الوراثية تاريخنا الطويل السابق للعروبة وللإسلام. ولكن، لن يتحقق لنا هذا، ما لم نقم بتملُّك سودانيٍّ للمعاني الإنسانية السامقة المندغمة في كلٍّ من الإسلام والعروبة، والفرز بينها وبين ما بِيْعَ لنا باسمهما، في وقتٍ متأخرٍ، في إطار التوسعات الإمبراطورية، بغرض استتباعنا".
ولا يدري المرء كيف تحول النور عن هذا النشيد في جلائل المأثرة السنارية في مقالات أمسه القريب إلى استرذالها في كتابات يومه لا يلوي على شيء.
وفي مقالنا القادم نرى متاعب النور مع المدرسة الاستمرارية في التأرخة للسودان (التي ترى أن السودانيين قوم واحد يتمثل الثقافات التي تطرأ عليه ويبقى على أرومته الأصل لا يبغي عنها حولا) التي ينتمي إليها حين نفى الفونج عن الإرث الكوشي، بل حمّلها جريرة خرابه.
عبد الله علي إبراهيم
كان دكتور النور حمد حسن الظن، بل ربما مشروقاً، بمأثرة الفونج وبلغ من إيثاره لها أن رأى الحبل غير السري الذي يشد عقيدته الجمهورية لها عبر الثورة المهدية. كان ذلكم في مقاله "غيبة السودان الحضاريّة ومحنة العقل المُحْتَل" (الورقة مقدمة لمؤتمر اتحاد الكتاب السودانيين "نسب السودان الحضاري"، الخرطوم 2013). وكان هذه حاله في تثمين الخبرة الفونجية في ورقة أخرى لمؤتمر اتحاد الكتاب في 2014 بعنوان "من الاستتباع إلى الشراكة: نقد النظرة الخديوية تجاه الجوار الجنوبي" نشرتها له كرامة (مارس 2015). ثم وقع على مفهوم العقل الرعوي فاسترذلها. فالفونج عنده بعد بشاشته الباكرة لها نتاج تحالف رعوي فونجي أفريقي وقواسمي عربي بين عمارة دونقس وعبد الله جماع دمر دولة سوبا المسيحية حتى صار خرابها عبرة للعالمين. وقضى الرعاة الجفاة على تقاليد الحضارة الكوشية التي خلاصنا اليوم في استردادها من جحفلة الرعاة وعقلهم البئيس.
فالفونج عند النور في تشريحه للعقل الرعوي ليست بشيء. فهي شحيحة الإنجاز في مضمار التحضر أرجعت ساعة التاريخ للوراء" لتكون سمة الزمن الحروب القبلية ضد سلطة دولة الفونج. فالعهد السناري ليس سوى مسلسل من الحروب أضعف البنية الحضارية المتوارثة. فالرعاة البدو طامعون في السلطة من أجل الامتلاك والثراء كعادة الرعاة عبر التاريخ. فهم على جِبلة الغزو والاستحواذ خاصة حين يجاورون بيئة حضارية متقدمة يلمحون فيها علامات ضعف عسكري".وخلص إلى أن الفونج ارتداد حضاري قياساً بممالك النوبة. وحتى تحولها للإسلام، الذي أخذناه كميزة "قيمة متحولة"، مجرد دعاية معاصرة نتباهى بها كأسطورة منشأ عن كرم أصلنا ومحتدنا. فالدولة في سيرتها ومؤسساتها ضعيفة الصلة بتعاليم الإسلام.
ولم يكن النور في مقالاته السابقة لتشريحه للعقل الرعوي بهذا التبخيس لسلطنة الفونج. فعدها مشهد "نهضة نسبية" كان بوسعها إدخال السودان "على حقبة الحداثة من مدخلٍ خاصٍّ به، لولا دخول الغزو التركي المصري في الصورة وحرفه للمسار". فالفونج بعض "الجذوة التي انطبخ عليها في القدم مزيج الشخصية السودانية، ومواريثها ذات الأضلاع الأربعة؛ الكوشي، والمسيحي، والإحيائي الإفريقي، والإسلامي الصّوفي. هذا المزيج أصبح شيئًا واحدًا أطلق عليه بعضنا "السودانوية"، وهي تسمية موفّقةٌ جدًّا".وسمى الحقبة التركية (1821-1885) إرباكاً لنمو السودان "بتغييره لبنية العقل السوداني، وهو ما أسمِّيه "احتلالاً عقليًا".وهو احتلال عقلي لم يقتصر على الأتراك بل شمل الحكم البريطاني المصري. فاستتبع الأتراك السودان ليلحقوه بالفضاء المشرقي المتوسطي مجرداً من المساهمة إلى يومنا ويوم مصر هذا. وفات على النور أن يأت بمغبة واحدة لاستتباعنا لبريطانيا في الورقة. فرهن تحرير العقل السوداني من حال احتلاله " بتفكيك التركة الإستعمارية الضخمة للحقبة الخديوية". وهذا كيل بمكيالين.
وتجد النور، لا كما بدا من مقالاته عن العقل الرعوي، يصل بين كوش والفونج بغير عسر. فيقول إن غيبتنا الحضارية الطويلة لم تخل من بعض الحيوية الحضارية التي تشهد عليها المخلفات الأثرية للممالك النوبية المسيحية، في نوباديا، والمقرة، وعلوة (550 – 1504م)، إلى جانب بعض المواريث الروحانية والسياسية والاجتماعية من عصر سلطنة الفونج الإسلامية في سنار (1504 – 1821)، وهي مواريث ترجع، في الحالة السنارية، إلى مؤسسة التصوف الشعبية، بأكثر مما ترجع لنظام الحكم".
وأطنب النور في جمال صوفية الفونج. فوليها مهاب مدني الوظيفة لأنه يحول بين عامة الناس وبطش الحكام. ووصل بين صوفية وإرث كوش بنباهة فميز المعادلة الثقافية السنارية بتظليل الطقوس لها كفكر ممارسة اجتماعية " أكثر من كونه فكرًأ نظريًّا فلسفيًّا - تقوم على أسس توافقية سلمية لا يزعجها التنوع، لكونها برئت، بحكم الميراث الثقافي الطويل في العهود الكوشية والمسيحية، من التشدد الفقهي النزّاع إلى تغيير الآخر المختلف، وإلى الضيق باختلافه، ومن ثم العمد إلى قهره وتهميشه".
وليس النور بالمستيئس من الخمول الذي ران علينا على زمننا هذا. فمن رأية " إن الحالة السودانية الراهنة التي تبدو مزيجًا غريبًا من الفشل المزمن واليأس، من جهة، ومن بشائر ووعودٍ كامنةٍ تشير إلى إمكان قيام نهضةٍ كبيرةٍ، شديدة التميز والفرادة، من الجهة الأخرى، هي بعضٌ مما يميز هذا البلد العجيب". وهذا التفاؤل بالبشريات القادمة مما انتفعه النور من الأستاذ محمود محمد طه الذ قَعّد له في منشوره "السفر الأول" الذي صدر في عام 1945، وكان بمثابة المانيفيستو الأول للحزب الجمهوري. وجاء في نصه: "يؤمن الحزب الجمهوري، إيماناً لا حد له بالسودان، ويعتقد أنه سيصبح من الروافد التي تضيف إلى ذخر الإنسانية ألواناً شهيّةً من غذاء الروح، وغذاء الفكر، إذا آمن به أبناؤه، فلم يضيعوا خصائصه الأصيلة، ومقوماته" (التشديد من النور).
وكان النور حسن الظن بنا كنتاج حضارة متفردة من مخاض طويل شكلته "روافد إثنية، وثقافية، وروحانية، تمازجت لتنتج خصائص مزاجية، واجتماعية، ووجدانية، أثمرت في خلاصاتها بنيةً حضاريةً جديدةً متكاملةً ذات شخصيةٍ مميزة، وذات استقلالية". ونشأ السوداني بالنتيجة على مكارم الأخلاق مما شهد به الغير. ولا يقصر النور هذه الخلق الوضئ على قبس الإسلام والعروبة كما قد يفعل غيره بل يراه أقدم من ذلك عائداً ألى عهد كوش.
وكان النور حفياً بالمهدية ايضاً حتى قلب لها ظهر المجن في مقالات العقل الرعوي فقال إنها هبة رعوية هدمت عمار تحديث الأتراك لنا رغم عتوهم وظلمهم. وهم نفس الأتراك الذين رأيناه يطعن فيهم وفي استتباعنا لهم بأنصح العبارات. فأخذ عليهم في مقاله تنشئة طائفة علماء السوء من أهل المرتبة في جهاز الدولة ممن ناصبوا العداء "محمد أحمد المهدي الثائر السوداني، الذي انتزع حق تمثيل المقهورين من السودانيين، بخطابه الدينيِّ الحار، المحرِّض على الانتفاض ضد الاحتلال، وضد الاستبداد، والاضطهاد، والقهر، والظلم. ثم صارت المهدية بليل رعوية مخربة بغير بيان من النور لهذا الانقلاب على فكره الأول.
والنور صريح في نسبة نفسه الجمهورية إلى تقليد المهدية وصوفية سنار (لا دولتهم). فقال إننا أخفقنا ثلاث مرات في تملك الإسلام سودانياً. كانت المرة أولى على يد الصوفية السنارية ثم على يد المهدية وأخيرتها على يد الأستاذ محمود محمد طه. والتفت إلى المهدية وقال إنها مثل للجرأة والاعتداد بالذات "رغم علتها الجوهرية المتمثلة في الزعم بامتلاك الحقيقة كلها، ورغم افتقارها إلى العلم الكبير المحيط المتضمن ادراكًا دقيقًا بحاجة العصر وطاقته". وسماها صحوةً مهمّةً جدًّا لأن "ما قام به المهدي من محاولةٍ لتملُّكٍ سودانيٍّ للإسلام، كان أول صرخةٍ سودانيةٍ قويّةً في وجه احتلال العقل السوداني بواسطة الأجنبي، وهذا يُحمد للمهدي". والمهدية، من جهة أخرى، نسخة سودانية للإسلام غرفت مما جسدته "مؤسسة التصوف السنارية الشعبية، التي كانت شديدة التميز، وشديدة الاتصال بجوهر الإسلام الخالد، وشديدة الاتصال بحياة الناس اليومية، خاصةً إذا تمت مقارنتها بالفقة المدرسي المنفصل عن جوهر القيم الإسلامية، وعن حياة الناس، وبتصوف الأقطاب الفلسفي، المحلق فوق سموات الناس العاديين".
واختلفت الفكرة الجمهورية عن المهدية في أشياء مع ذلك. ولكن ما يجمع بينهما "أنهما رأتا في الإسلام حقًّا لهما، بالأصالة، وليس بالتبعية لأي جهةٍ أخرى خارجية، فسعيتا إلى تملُّكِه سودانيًّا وترجمته سودانيًّا" برده "إلى جذره الأصيل، ومعناه الانساني الذي لم تلوثه ملابسات التاريخ والسياسة بعد الحكم الراشدي. أخفقت المهدية في سعيها الفكري، لأنها لم تكن أصلاً تملك أدوات التقعيد الفكري، بحكم المرحلة التي جاءت فيها. غير أن المهدية من الناحية العملية، أعطت القطر السوداني وحدة أراضيه، مع خلق إحساس سوداني مشترك، مثّل التخلُّق الأول للوطنية السودانية. ما صنعته المهدية على أرض الواقع أصبح هو الوعاء الذي جعل البحث عن الجذر الضائع ممكناً."
بل وجد النور لفكرته الجمهورية نسباً وطيداً في الثورة المهدية ف"مثّلت الثورة المهدية ارهاصًا مبكِّرًا للفكرة الجمهورية، ومثّل كلاهما مرتكزًا في مضمار البحث عن الذات السودانية الضائعة، وعن الطاقة الحضارية المدفونة تحت ركام من المعلومات الخاطئة والتصورات الخاطئة. والذي يجمع بين هاتين الحركتين الإحيائيتين أنهما سودانيتا الأصل، وانهما انبنتا على تراثِ التصوف السناري، وأنهما وقفتا ضد الفقه المدرسي الوافد، وضد افراغه للدين من محتواه، وجعله شأنًا وظيفيًّا يقوم به حصريَّا قبيلً متخصِّصٌ في الدارسات الفقهية، يُسمَّوْن برجال الدين. فتلك الصورة المؤسسية الوظيفية الأداتية للدين، التي دخلت مع الغزو التركي المصري الخديوي، ليست من الإسلام، وإنما تعود شكلاً ومضمونًا إلى تقاليد الكهنوت اليهودي والمسيحي في العصور الغابرة.
وأكد النور في ختام ورقته أنه لا يدعو، لا صراحةً ولا ضمنًا، في دعوته الكوشية إلى "أي جفوةٍ مع الإسلام أو مع العروبة، أو إلى أي انكارٍ للمكونات العربية والإسلامية في مُركَّب الهوية السودانية. فالإسلام والعروبة مكونان هامّان جدًّا من مكونات الشخصية السودانية". وهما كذلك مكون في هوية شرق أفريقيا منذ عابر الحقب. ولكن كل ما في الأمر " أن تماهينا مع الإسلام ومع العروبة ينبغي أن يكون تماهيًا من حيث الجوهر، لا من حيث الملابسات التاريخية خاصة التي حدثت في فترة الانحطاط الاسلامية الطويلة. فما نحتاجه نحن اليوم كسودانيين، هو إعادة تعريف الإسلام، والعروبة، وربطهما بالقيم الانسانية الخالدة، وبما ورثناه من فضائل كتبها في شفراتنا الوراثية تاريخنا الطويل السابق للعروبة وللإسلام. ولكن، لن يتحقق لنا هذا، ما لم نقم بتملُّك سودانيٍّ للمعاني الإنسانية السامقة المندغمة في كلٍّ من الإسلام والعروبة، والفرز بينها وبين ما بِيْعَ لنا باسمهما، في وقتٍ متأخرٍ، في إطار التوسعات الإمبراطورية، بغرض استتباعنا".
ولا يدري المرء كيف تحول النور عن هذا النشيد في جلائل المأثرة السنارية في مقالات أمسه القريب إلى استرذالها في كتابات يومه لا يلوي على شيء.
وفي مقالنا القادم نرى متاعب النور مع المدرسة الاستمرارية في التأرخة للسودان (التي ترى أن السودانيين قوم واحد يتمثل الثقافات التي تطرأ عليه ويبقى على أرومته الأصل لا يبغي عنها حولا) التي ينتمي إليها حين نفى الفونج عن الإرث الكوشي، بل حمّلها جريرة خرابه.
Comments
Post a Comment