زنوجة محمد الفيتوري
صبحي حديدي
الأعمال النقدية المكرّسة لتجربة الشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري (1936 ـ 2015)، قليلة على نحو مفاجئ، ومحزن بالطبع، حتى على مستوى الأطروحات الجامعية؛ وذلك بالقياس إلى تجربة الشاعر الطويلة، ومكانته الريادية في شعر السودان الحديث خصوصاً، وحركة ما سيُسمّى «الشعر الحرّ» على نطاق الوطن العربي عموماً. أشير، مثلاً، إلى نجيب صالح، في «محمد الفيتوري والمرايا الدائرية»؛ وعبد الفتاح الشطي، «شعر محمد الفيتوري: المحتوى، الفن»؛ ومنيف موسى، «محمد الفيتوري شاعر الحسّ والوطنية والحب». هذا فضلاً عن أقسام مستقلة عند محمد النويهي، «الاتجاهات الشعرية في السودان؛ وعبده بدوي، «الشعر في السودان»؛ ومحمد مصطفى هدارة، «تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان»، وسواهم.
لكنّ العمل الأهمّ، في نظري، هو «النزعة الزنجية في الشعر المعاصر: محمد الفيتوري نموذجاً»، للناقد المغربي الصديق بنعيسى بوحمالة؛ والذي صدر سنة 2004، في جزءين، وكان فاتحة معمقة ومتميزة لإقامة أكثر من رباط، في المحتوى والشكل، بين الشعر والموضوعة الزنجية. ثمة، كما تقتضي الإشارة، مصطلح «الزَنْوَجة» الأشهر الذي صاغه شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير، بشراكة مع الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس؛ ثم أسفر عن منهج تطبيقي يتيح دراسة «الكتابة السوداء»، وتوفير مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الفرنسية التي ظلّت جزءاً لا يتجزأ من سيرورة المشروع الاستعماري. ولقد كان للمصطلح/ المنهج فضل كبير في تحديد الثقافة السوداء والهوية السوداء؛ رغم سلسلة الإشكاليات التي اكتنفته منذ البدء، وكانت على رأسها معضلة تنميط «علم الجمال الأسود»، إذا انقلب إلى محض نظير لـ»علم الجمال الأبيض»، ليس أكثر.
وفي توطئة لكتابه، وجيزة وذاتية ولطيفة، يقول بوحمالة إن عمله «بمثابة تمجيد لحيّز حميم وجميل» من ذاكرته، وتربيته الذوقية، و»الرصيد المفعم من الألوان الموسيقية الزنجية: كناوة… الجاز… البلوز… الراجتايم… الغوسبل… الذي تغذت عليه حساسيتي الروحية على مدى الأعوام البهية لستينات القرن العشرين». وفي هذا إقرار بالأبعاد الوجدانية، الشخصية بالطبع، لهذا الاشتغال على النزعة الزنجية عند الفيتوري؛ الأمر الذي سيستعرض بوحمالة بواعثه وعناصره، اعتماداً على منهج بنيوي تكويني لا يكتفي بسوسيولوجيا المضامين في العمل الأدبي، بل يُعلي أيضاً قيمة «الشكل الأدبي ووظيفيته الدالة في الإبانة عن الأوعاء والرؤى التاريخية».
وإذْ يسجّل بوحمالة، كما يجدر بناقد مثله، رصين المقاربة والعدّة، أنّ معظم شعراء السودان المعروفين (تاج السرّ حسن، جيلي عبد الرحمن، محي الدين فارس، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المهدي المجذوب…)، قاربوا النزعة الزنجية، بوصفها «ثابتا ذهنيا ووجدانيا في المجتمع السوداني»؛ فإنه، من جانب آخر، يعتبر أنّ الموازنة بين هؤلاء والفيتوري ترجّح امتياز الأخير على زملائه، من حيث الكمّ الشعري بادئ ذي بدء: أربع مجموعات شعرية متعاقبة حول النزعة الزنجية، هي «أغاني أفريقيا»، «عاشق من أفريقيا»، «اذكريني يا أفريقيا»، و»أحزان أفريقيا». والحال أنّ اسم القارّة لا يتكرر هنا إلا لأنّ الفيتوري كان، يومذاك ـ وهكذا ظلّ ربما، حتى غادر عالمنا هذا ـ وفيّاً لانحياز أفرو ـ سوداني أوّل، استكمله انحياز ثان عربي؛ أو، كما يشخّص بوحمالة حال السودان: «بلد أفرو ـ عربي، ينتمي جغرافياً إلى أفريقيا، بينما ينتمي إثنياً وتاريخياً ولغوياً وعقائدياً واجتماعياً إلى جذرين اثنين هما العروبة والزنجية».
وفي شعر الفيتوري عشرات النماذج على هذا المزيج، الذي يذهب أحياناً إلى درجات مفرطة وتهويلية، بعضها عصابي أيضاً، في الانحياز الأفريقي؛ كما في القصيدة الشهيرة «أنا زنجي»، وفيها يقول: «الفجر يدكّ جدار الظلمة/ فاسمعْ ألحان النصر/ ها هي ذي الظلمة تدّاعى/ تسّاقط.. تهوي في ذعر/ ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءته/ عاري الصدر/ ها هو ذا الطوفان الأسود/ يعدو عبر السدّ الصخري/ ها هي ذي أفريقيا الكبرى/ تتألق في ضوء الفجر». وغنيّ عن القول، بذلك، أنّ الفيتوري ناصر السود في كلّ بقاع الأرض تقريباً، فكتب عن نلسون مانديلا، وبول روبسون، والسود في نيويورك، وسولارا الصبية السوداء المغتصبة، وحقول الأبنوس… فضلاً عن أهوال الاستعمار عموماً، وحيثما كان السود هم الضحية بصفة خاصة.
عمل بوحمالة يتناول مستويات شتى في متن شعر الفيتوري، بنائية تخصّ الشكل (اللفظ، والتركيب، والإيقاع، وسيميائية العنوان، والمكوّن السردي ـ الدرامي…)؛ وأخرى تخصّ الدلالة (بنية تدمير الهوية من حيث الاسترقاق والاستعمار والتمييز العنصري، وبنية استعادة الهوية من خلال دلالات الحرية والثورة والإنسان…). وهو مثال رفيع على اشتغال نقدي لا تُثقله المراهنة المنهجية، بقدر ما تغويه ذائقة «شخصية، عاشقة ومنصتة».
لكنّ العمل الأهمّ، في نظري، هو «النزعة الزنجية في الشعر المعاصر: محمد الفيتوري نموذجاً»، للناقد المغربي الصديق بنعيسى بوحمالة؛ والذي صدر سنة 2004، في جزءين، وكان فاتحة معمقة ومتميزة لإقامة أكثر من رباط، في المحتوى والشكل، بين الشعر والموضوعة الزنجية. ثمة، كما تقتضي الإشارة، مصطلح «الزَنْوَجة» الأشهر الذي صاغه شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير، بشراكة مع الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس؛ ثم أسفر عن منهج تطبيقي يتيح دراسة «الكتابة السوداء»، وتوفير مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الفرنسية التي ظلّت جزءاً لا يتجزأ من سيرورة المشروع الاستعماري. ولقد كان للمصطلح/ المنهج فضل كبير في تحديد الثقافة السوداء والهوية السوداء؛ رغم سلسلة الإشكاليات التي اكتنفته منذ البدء، وكانت على رأسها معضلة تنميط «علم الجمال الأسود»، إذا انقلب إلى محض نظير لـ»علم الجمال الأبيض»، ليس أكثر.
وفي توطئة لكتابه، وجيزة وذاتية ولطيفة، يقول بوحمالة إن عمله «بمثابة تمجيد لحيّز حميم وجميل» من ذاكرته، وتربيته الذوقية، و»الرصيد المفعم من الألوان الموسيقية الزنجية: كناوة… الجاز… البلوز… الراجتايم… الغوسبل… الذي تغذت عليه حساسيتي الروحية على مدى الأعوام البهية لستينات القرن العشرين». وفي هذا إقرار بالأبعاد الوجدانية، الشخصية بالطبع، لهذا الاشتغال على النزعة الزنجية عند الفيتوري؛ الأمر الذي سيستعرض بوحمالة بواعثه وعناصره، اعتماداً على منهج بنيوي تكويني لا يكتفي بسوسيولوجيا المضامين في العمل الأدبي، بل يُعلي أيضاً قيمة «الشكل الأدبي ووظيفيته الدالة في الإبانة عن الأوعاء والرؤى التاريخية».
وإذْ يسجّل بوحمالة، كما يجدر بناقد مثله، رصين المقاربة والعدّة، أنّ معظم شعراء السودان المعروفين (تاج السرّ حسن، جيلي عبد الرحمن، محي الدين فارس، صلاح أحمد إبراهيم، محمد المهدي المجذوب…)، قاربوا النزعة الزنجية، بوصفها «ثابتا ذهنيا ووجدانيا في المجتمع السوداني»؛ فإنه، من جانب آخر، يعتبر أنّ الموازنة بين هؤلاء والفيتوري ترجّح امتياز الأخير على زملائه، من حيث الكمّ الشعري بادئ ذي بدء: أربع مجموعات شعرية متعاقبة حول النزعة الزنجية، هي «أغاني أفريقيا»، «عاشق من أفريقيا»، «اذكريني يا أفريقيا»، و»أحزان أفريقيا». والحال أنّ اسم القارّة لا يتكرر هنا إلا لأنّ الفيتوري كان، يومذاك ـ وهكذا ظلّ ربما، حتى غادر عالمنا هذا ـ وفيّاً لانحياز أفرو ـ سوداني أوّل، استكمله انحياز ثان عربي؛ أو، كما يشخّص بوحمالة حال السودان: «بلد أفرو ـ عربي، ينتمي جغرافياً إلى أفريقيا، بينما ينتمي إثنياً وتاريخياً ولغوياً وعقائدياً واجتماعياً إلى جذرين اثنين هما العروبة والزنجية».
وفي شعر الفيتوري عشرات النماذج على هذا المزيج، الذي يذهب أحياناً إلى درجات مفرطة وتهويلية، بعضها عصابي أيضاً، في الانحياز الأفريقي؛ كما في القصيدة الشهيرة «أنا زنجي»، وفيها يقول: «الفجر يدكّ جدار الظلمة/ فاسمعْ ألحان النصر/ ها هي ذي الظلمة تدّاعى/ تسّاقط.. تهوي في ذعر/ ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءته/ عاري الصدر/ ها هو ذا الطوفان الأسود/ يعدو عبر السدّ الصخري/ ها هي ذي أفريقيا الكبرى/ تتألق في ضوء الفجر». وغنيّ عن القول، بذلك، أنّ الفيتوري ناصر السود في كلّ بقاع الأرض تقريباً، فكتب عن نلسون مانديلا، وبول روبسون، والسود في نيويورك، وسولارا الصبية السوداء المغتصبة، وحقول الأبنوس… فضلاً عن أهوال الاستعمار عموماً، وحيثما كان السود هم الضحية بصفة خاصة.
عمل بوحمالة يتناول مستويات شتى في متن شعر الفيتوري، بنائية تخصّ الشكل (اللفظ، والتركيب، والإيقاع، وسيميائية العنوان، والمكوّن السردي ـ الدرامي…)؛ وأخرى تخصّ الدلالة (بنية تدمير الهوية من حيث الاسترقاق والاستعمار والتمييز العنصري، وبنية استعادة الهوية من خلال دلالات الحرية والثورة والإنسان…). وهو مثال رفيع على اشتغال نقدي لا تُثقله المراهنة المنهجية، بقدر ما تغويه ذائقة «شخصية، عاشقة ومنصتة».
صبحي حديدي
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment