كتمندو بين أعجوبة باشوباتينات وسراب «أمّة الزلازل»
وسام سعادة
الزلزال الذي نُكِبَت به كتمندو ومناطق أخرى من النيبال وامتدّت آثاره للبلدان المجاورة، لم يُحصَر عدد ضحاياه بعد، ولن تُحصر نتائجه الوخيمة على هذا البلد الجبلي الفقير لسنوات عديدة. هو في ذاكرة المدينة استفاقة على ما حلّ بها عام 1934 في زلزال كارثيّ هو الآخر، دمّر ميدان دربر الملكيّ في وسطها، بل كانَت آثاره التدميرية للمعالم الدينية والثقافية تتجاوز ما أحدثه الزلزال الحالي.
مع فارق: في زلزال 1934، لم يتهاو برج داراهارا (المشاد عام 1832) برمتّه، إنّما صمد فيه طابقان من أصل احد عشر، وهو ما شجّع لاحقاً على اعادة بنائه، بخلاف برج قرين له يعود الى نفس تاريخ الانشاء، ومحاه زلزال 1934 بالكامل. في الزمن الملكيّ، كان المخزون الثقافي للملكية نفسها يسهّل عملية بناء أبراج ومعابد تأتي عليها الزلازل، إذ لم تكن هذه الأبراج والمعابد تُعامل كإرثّ حضاري «للإنسانية اليونسكية السياحية» فقط، بل كان لها وظيفتها الحيّة، الاجتماعية، الحاضرة في المعاش اليومي. اليوم، صحيح أنّ تقنية ترميم المباني تطوّرت بشكل كبير منذ الثلاثينيات الى اليوم، لكنّ الانقطاع عن الزمن الملكيّ للنيبال الذي أوجد هذه المعالم التراثية له مترتباته. في الماضي الملكي، ما كانت الزلازل لتثني عن اعمار ما تهدّم من معابد وأبراج وقصور، بل كانت اعادة الاعمار اثباتاً لصفة الزمن الملكي كزمن دائريّ بامتياز. «السياحة» على أهميّتها الاقتصادية بالنسبة للنيباليين لا يمكن أن تقوم مقام ذلك. ترميم ما هو ملكي عليه أن يجابه شبهة «الافتعال» بعد أن دُثِرَت الملكية.
حين وقع الزلزال عام 1934، ودمّر معابد كثيرة ليس فقط في كتمندو، بل في باتان الملاصقة وبكتبور المجاورة، سارع الناس للاطمئنان على معبد باشوباتينات، أقدس معابد المملكة، وأحد أهم المعابد المكرّسة للإله شيفا بالنسبة الى عموم الهندوس. يقع باشوباتينات على ضفة نهر باغماتي، في نطاق العاصمة، ويحظّر – الى اليوم – دخوله لغير الهندوس، وكان يحظر فيما مضى دخوله لطبقة المنبذوين منهم أيضاً. تحرق جثث الموتى بالقرب منه، وكان للعائلة المالكة حظوة حرق موتاها في مواجهة بوابته الرئيسية، دون سائر رعاياها.
تحقّق الناس آنذاك من حدوث الأعجوبة: لم يصب معبد باشوباتينات بخدش. كأنه مزروع في عالمنا من أوان آخر. زادت، بنجاته الصافية، قدسيته ومكانته. ظلّ محظّراً دخوله لغير الهندوس. لم «يتسيحَن» (من سياحة) مثل معابد المدن الملكية الأخرى.
اليوم أيضاً، اهتمّ الهندوس، وهم أكثرية النيباليين الساحقة، بل اهتمّ هندوس الهند، بصحة جدران المعبد ذي السقف المصنوع من الذهب. تراوحت المعلومات الأولية، بين نجاته الكاملة، وبين وقوع أضرار طفيفة فيه. المعجزة مستمرة.
للزلزال مقام في الزمن الديني. حين وقع زلزال 1934، شمل النيبال وبيهار المجاورة في الهند أيضاً. في وقت سعد فيه النيباليون بنجاة معبد باشوباتينات كاملاً، كان للمهاتما غاندي تعليق على الكارثة، بأنها لعنة الهية بسبب حرمان طبقة المنبوذين من حقوقها وكرامة أبنائها.
أغلب الظنّ، أنّ هذا النظر الى الزلزال كلعنة الهية سيجد ما يحاكيه في نيبال اليوم، ولو بشكل غير مباشر، في التداعيات السياسية للكارثة. من المبكر التحقيب، لكن مرحلة الحرب الأهلية (1996-2006) تلتها مرحلة ما بعدها، التي بدأت بوصول الماويين الى السلطة ثم خسارتهم لها، وارتفع التوتر مجدداً بينهم وبين الائتلاف الحاكم (المكون من حزب المؤتمر ومن الحزب الماركسي اللينيني غير الماوي، ولا يغرنّك الاسم فهو في النيبال يسار وسط). مرحلة ما بعد الحرب الأهلية ربّما كانت تسلّم الشعلة اليوم لمرحلة «ما بعد الزلزال». والسؤال هنا، هل تغلّب الكارثة الوطنية النزعات الطاردة، أم تنتج وعياً توحيدياً قومياً.
في الشهور الأخيرة، ارتفع التصلّب في النقاش حول كيفية حلّ الميليشيات الماوية ودمجها في الجيش الملكي سابقاً. ظهر أكثر فأكثر أن الفدرالية المعتمدة لا ترضي كافة القوى، وثمة من يطالب بفدرالية «اثنية» بوضوح وليس فقط «اقليمية». الاستقطاب السياسي والاقتصادي بين الجارين، الهند والصين، اتسعت مساحته. الطرق التي تقوم شركات صينية بشقّها، في بلد محصورة فيه شبكة المواصلات ولا يعرف سكة حديد وتتعطّل ملاحة المطار الدولي فيه لأيام عديدة عند أقل ضرر، رفع من سقف المزاحمة، وان كان معظم التبادل التجاري يتم مع الهند، الذي يشترك معها النيبال من الناحية الدينية (أغلبية هندوسية، وأقلية بوذية قسم كبير منها من اللاجئين التيبتيين، وأقلية مسلمة متنامية)، كما يشهد حالات متصاعدة من الاحيائية الدينية.
هل ثمة تأثير ايجابي للكوارث الطبيعية، من زلازل وفيضانات، في انتاج دينامية قومية توحيدية في هذا البلد، وخصوصاً بعد الكارثة الحالية، أم العكس؟ المتاح قوله الآن أن النيبال عاشت «أزمات راكدة» بعد حربها الأهلية، ومن الصعب أن تبعد عنها الآن كأس «الأزمات الحيوية»، سواء نمّت النزعات الطاردة، أو الوعي القومي بضرورة مشاركة البلد في حالة النهوض الأسيوي الصناعيّ في البلدان القريبة منه.
المثال الأبرز لزلازل تنتج وعياً قومياً هو اليابان. في كتابه الممتع «أمة الزلازل – الثقافات السياسية للنشاطية الزلزالية اليابانية 1868 – 1930» (2006)، يظهر لنا المؤرخ غريغوري كلنسي دور الزلازل في بناء الوعي القومي والدولة الأمة باليابان.
فهذا الأرخبيل وقع تحت سحر المهندسين والمعماريين الأجانب في مرحلة اصلاحات ميجي، وهؤلاء كانوا يزدرون الأبنية والجسور الخشبية ويعتبرونها «أنوثة هشّة»، ويطالبون بالحديد والحجر، الى ان حلّ زلزال «نوبي» الضخم، ودمّر ما بني على الطراز الغربي، فيما سلمت القصور والمعابد الخشبية، لتطلق موجة من «الثقة بالذات» المعمارية والتقنية. يوضح بعد ذلك كلنسي كيف تطور الوعي القومي لليابانيين بين نظرتهم الى نفسهم كـ»أمّة زلازل» وبين محنة «سيطرة الانسان على الطبيعة» التي تخونها الزلازل، وكيف عادت وطوكيو بعد كل هذه الثقة بالذات فدمّرها زلزال «كانو» بشكل واسع عام 1923 موقعاً أزيد من مئة وأربعين ألف قتيل، وهنا دمّرت المباني الغربية الطراز، لكن أيضاً تلك الخشبية، انما بفعل الحرائق. بقي أن النظرة الى الزلزال كـ»لحظة خلق عنيفة». كثيرون يغفلون ان طوكيو التي دمّرت في الحرب العالمية كانت دمّرت بهذا الزلزال العنيف قبل ذلك بعشرين عاماً. خبرة اعادة بناء المدينة بعد الزلزال سهّلت اعادة بنائها بعد الحرب.
لن يكون زلزال كتمندو «لحظة خلق عنيفة» على الطريقة اليابانية. لكنه، على أقل تقدير، سيرفع منسوب التحدي: أمّا وقد سلم معبد باشوباتينات وتكرّرت معجزته، فكيف السبيل لامتداد النهضة الصناعية الى النيبال، فمن دون هكذا نهضة ستبقى البيوت تشاد بالطوب ال مقوى، وستبقى الكوارث الطبيعية تفتّت الوعي القومي، بدلاً من أن تولّده كتحدّ مع الذات والآخرين على حد سواء.
مع فارق: في زلزال 1934، لم يتهاو برج داراهارا (المشاد عام 1832) برمتّه، إنّما صمد فيه طابقان من أصل احد عشر، وهو ما شجّع لاحقاً على اعادة بنائه، بخلاف برج قرين له يعود الى نفس تاريخ الانشاء، ومحاه زلزال 1934 بالكامل. في الزمن الملكيّ، كان المخزون الثقافي للملكية نفسها يسهّل عملية بناء أبراج ومعابد تأتي عليها الزلازل، إذ لم تكن هذه الأبراج والمعابد تُعامل كإرثّ حضاري «للإنسانية اليونسكية السياحية» فقط، بل كان لها وظيفتها الحيّة، الاجتماعية، الحاضرة في المعاش اليومي. اليوم، صحيح أنّ تقنية ترميم المباني تطوّرت بشكل كبير منذ الثلاثينيات الى اليوم، لكنّ الانقطاع عن الزمن الملكيّ للنيبال الذي أوجد هذه المعالم التراثية له مترتباته. في الماضي الملكي، ما كانت الزلازل لتثني عن اعمار ما تهدّم من معابد وأبراج وقصور، بل كانت اعادة الاعمار اثباتاً لصفة الزمن الملكي كزمن دائريّ بامتياز. «السياحة» على أهميّتها الاقتصادية بالنسبة للنيباليين لا يمكن أن تقوم مقام ذلك. ترميم ما هو ملكي عليه أن يجابه شبهة «الافتعال» بعد أن دُثِرَت الملكية.
حين وقع الزلزال عام 1934، ودمّر معابد كثيرة ليس فقط في كتمندو، بل في باتان الملاصقة وبكتبور المجاورة، سارع الناس للاطمئنان على معبد باشوباتينات، أقدس معابد المملكة، وأحد أهم المعابد المكرّسة للإله شيفا بالنسبة الى عموم الهندوس. يقع باشوباتينات على ضفة نهر باغماتي، في نطاق العاصمة، ويحظّر – الى اليوم – دخوله لغير الهندوس، وكان يحظر فيما مضى دخوله لطبقة المنبذوين منهم أيضاً. تحرق جثث الموتى بالقرب منه، وكان للعائلة المالكة حظوة حرق موتاها في مواجهة بوابته الرئيسية، دون سائر رعاياها.
تحقّق الناس آنذاك من حدوث الأعجوبة: لم يصب معبد باشوباتينات بخدش. كأنه مزروع في عالمنا من أوان آخر. زادت، بنجاته الصافية، قدسيته ومكانته. ظلّ محظّراً دخوله لغير الهندوس. لم «يتسيحَن» (من سياحة) مثل معابد المدن الملكية الأخرى.
اليوم أيضاً، اهتمّ الهندوس، وهم أكثرية النيباليين الساحقة، بل اهتمّ هندوس الهند، بصحة جدران المعبد ذي السقف المصنوع من الذهب. تراوحت المعلومات الأولية، بين نجاته الكاملة، وبين وقوع أضرار طفيفة فيه. المعجزة مستمرة.
للزلزال مقام في الزمن الديني. حين وقع زلزال 1934، شمل النيبال وبيهار المجاورة في الهند أيضاً. في وقت سعد فيه النيباليون بنجاة معبد باشوباتينات كاملاً، كان للمهاتما غاندي تعليق على الكارثة، بأنها لعنة الهية بسبب حرمان طبقة المنبوذين من حقوقها وكرامة أبنائها.
أغلب الظنّ، أنّ هذا النظر الى الزلزال كلعنة الهية سيجد ما يحاكيه في نيبال اليوم، ولو بشكل غير مباشر، في التداعيات السياسية للكارثة. من المبكر التحقيب، لكن مرحلة الحرب الأهلية (1996-2006) تلتها مرحلة ما بعدها، التي بدأت بوصول الماويين الى السلطة ثم خسارتهم لها، وارتفع التوتر مجدداً بينهم وبين الائتلاف الحاكم (المكون من حزب المؤتمر ومن الحزب الماركسي اللينيني غير الماوي، ولا يغرنّك الاسم فهو في النيبال يسار وسط). مرحلة ما بعد الحرب الأهلية ربّما كانت تسلّم الشعلة اليوم لمرحلة «ما بعد الزلزال». والسؤال هنا، هل تغلّب الكارثة الوطنية النزعات الطاردة، أم تنتج وعياً توحيدياً قومياً.
في الشهور الأخيرة، ارتفع التصلّب في النقاش حول كيفية حلّ الميليشيات الماوية ودمجها في الجيش الملكي سابقاً. ظهر أكثر فأكثر أن الفدرالية المعتمدة لا ترضي كافة القوى، وثمة من يطالب بفدرالية «اثنية» بوضوح وليس فقط «اقليمية». الاستقطاب السياسي والاقتصادي بين الجارين، الهند والصين، اتسعت مساحته. الطرق التي تقوم شركات صينية بشقّها، في بلد محصورة فيه شبكة المواصلات ولا يعرف سكة حديد وتتعطّل ملاحة المطار الدولي فيه لأيام عديدة عند أقل ضرر، رفع من سقف المزاحمة، وان كان معظم التبادل التجاري يتم مع الهند، الذي يشترك معها النيبال من الناحية الدينية (أغلبية هندوسية، وأقلية بوذية قسم كبير منها من اللاجئين التيبتيين، وأقلية مسلمة متنامية)، كما يشهد حالات متصاعدة من الاحيائية الدينية.
هل ثمة تأثير ايجابي للكوارث الطبيعية، من زلازل وفيضانات، في انتاج دينامية قومية توحيدية في هذا البلد، وخصوصاً بعد الكارثة الحالية، أم العكس؟ المتاح قوله الآن أن النيبال عاشت «أزمات راكدة» بعد حربها الأهلية، ومن الصعب أن تبعد عنها الآن كأس «الأزمات الحيوية»، سواء نمّت النزعات الطاردة، أو الوعي القومي بضرورة مشاركة البلد في حالة النهوض الأسيوي الصناعيّ في البلدان القريبة منه.
المثال الأبرز لزلازل تنتج وعياً قومياً هو اليابان. في كتابه الممتع «أمة الزلازل – الثقافات السياسية للنشاطية الزلزالية اليابانية 1868 – 1930» (2006)، يظهر لنا المؤرخ غريغوري كلنسي دور الزلازل في بناء الوعي القومي والدولة الأمة باليابان.
فهذا الأرخبيل وقع تحت سحر المهندسين والمعماريين الأجانب في مرحلة اصلاحات ميجي، وهؤلاء كانوا يزدرون الأبنية والجسور الخشبية ويعتبرونها «أنوثة هشّة»، ويطالبون بالحديد والحجر، الى ان حلّ زلزال «نوبي» الضخم، ودمّر ما بني على الطراز الغربي، فيما سلمت القصور والمعابد الخشبية، لتطلق موجة من «الثقة بالذات» المعمارية والتقنية. يوضح بعد ذلك كلنسي كيف تطور الوعي القومي لليابانيين بين نظرتهم الى نفسهم كـ»أمّة زلازل» وبين محنة «سيطرة الانسان على الطبيعة» التي تخونها الزلازل، وكيف عادت وطوكيو بعد كل هذه الثقة بالذات فدمّرها زلزال «كانو» بشكل واسع عام 1923 موقعاً أزيد من مئة وأربعين ألف قتيل، وهنا دمّرت المباني الغربية الطراز، لكن أيضاً تلك الخشبية، انما بفعل الحرائق. بقي أن النظرة الى الزلزال كـ»لحظة خلق عنيفة». كثيرون يغفلون ان طوكيو التي دمّرت في الحرب العالمية كانت دمّرت بهذا الزلزال العنيف قبل ذلك بعشرين عاماً. خبرة اعادة بناء المدينة بعد الزلزال سهّلت اعادة بنائها بعد الحرب.
لن يكون زلزال كتمندو «لحظة خلق عنيفة» على الطريقة اليابانية. لكنه، على أقل تقدير، سيرفع منسوب التحدي: أمّا وقد سلم معبد باشوباتينات وتكرّرت معجزته، فكيف السبيل لامتداد النهضة الصناعية الى النيبال، فمن دون هكذا نهضة ستبقى البيوت تشاد بالطوب ال مقوى، وستبقى الكوارث الطبيعية تفتّت الوعي القومي، بدلاً من أن تولّده كتحدّ مع الذات والآخرين على حد سواء.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment