لا يحكى
الهوية والسياسة
عماد البليك
: ما هي علاقة الهوية بالسياسة؟ وهل بالضرورة أن "الميتاسياسة" تتطلب لأجل تحويلها إلى واقع عملي وتهميش الفعل السياسي اليومي، نوعا من التغيير أو التعديل في أشكال التخييل الاجتماعي أو أنساق الرؤية الكلية التي يتمتع بها المجتمع في نظرته إلى ذاته، من هو بالضبط وماذا يعني لنفسه؟
وهل يمكن في هذا الإطار الانتباه إلى ضرورة إعادة تعريف الهوية واعتبارها أمرا مهما في شأن هذا التعديل؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة لاعتبارات كثيرة، أن أي عمل سياسي أو ميتاسياسي لا يمكن عزله عن التشكيل الذهني للمجتمع وكيفية تصوره للعالم والوجود وإدارة الحياة، وهذا في جملته مرتبط بالتاريخ والرغبة في الأنسنة وكذلك بمعادل أعلى موضوعيا هو الهوية الذاتية التي تميز الأمة أو المجتمع المعين.
ولكن ثمة خلاف أو جدل بين المفكرين في ضرورة الهوية، ففي الوقت الذي يعتبر البعض أنها باتت من أشكال الماضي وأنها ليست ذات قيمة في سبيل بناء الدولة المستقبلية وأنه يجب البحث عن مفاهيم أكثر حداثة كالهوية المواطنية مثلا، فهناك من يرى العكس ويراهن على هذا الباب، باعتبار أنه لا مستقبل دون تحديد الهوية وفق نسقها الكلاسيكي. ويرى أنها مهمة للفعل السياسي وكونه إلى حد بعيد ينشد كثيرا من مراميه أو يعضد لحمته عبر مقولات أو لافتات طابعها يتمثل أشكال الهوية التقليدية، سواء عقائدية كانت أم مرتبطة بالمكان، الجغرافية، أو بقيم اجتماعية كالعدالة والمساواة أو غيرها من أنساق يمكن استحداثها والعمل على تطويرها وفق ما يفرضه المزاج والوعي العام للمجتمع.
وبعيدا عن سجال الهوية، وهل هي موجودة فعلا أم لا، فالواقع أنها متغيرة وليس لها من ثبات فهي تتغير مع الزمن وبناء على اعتبارات كثيرة ومصالح سياسية عامة محلية ودولية بالإضافة إلى الصراعات الإنسانية المركزية التي تدور حول الهيمنة البشرية لمجموعات معينة على حساب مجموعة أو مجموعات أخرى، طالما أن الإنسان ورغم أننا في الألفية الثالثة لم يتحرر بعد من هذه الخصومات الشهوانية الضيقة التي تجعله يدير الحروب وينزف الدماء والدموع ويخاصم ويقتل وينتهك ويغتضب، دون هوادة ولا أدنى حياء.
إذن الهوية هي جزء من المتخيل السياسي وهي اختراع سياسي بإمتياز ومن هنا يمكن فهم العلاقة بين الاثنين، ففي الدولة الدينية مثلا تحاول الجماعات المهيمنة على السلطة أن تتبنى هوية ذات بعد ديني وعقدي وتتزرع بالغيب الذي تتخذه كحجة لتمديد سطوتها الدنيوية، وتعمل على ابتكار الأنظمة والتشريعات والقوانين وتكيفها داخل هذه الهوية المخترعة، وفي الدولة التي تتبنى الليبرالية أو نسق الحكم الديمقراطي فإن الهوية تقوم على "الفاكتور" الإنساني وتحديد المزاج وفق العامل الإنساني العام بمعنى أن خصائص الحرية والعدل والمساواة وغيرها من قيم التماثل البشري هي التي تحكم العلاقات، وبالتالي هي مُشكِّلات وَقْع الهوية ودربها الذي تنشده.
إذن هل الهوية ضرورية للسياسة أم هي العكس؟ الإجابة هي الاثنين معا. فالهوية تأخذ من السياسة والسياسة تأخذ من الهوية، بحيث يصعب نزع اللحم عن العظم في توليفة تتداخل فيها سياقات المصالح والتجارة والتعاون البشري والخلافات أيضا، في ظل أن السياسة مسألة معقدة ليس لها من حدود سوى حكمة القوة وسلطتها ومداها.
لكن الإشكال الذي تعاني منه الهوية اليوم في الدولة الحديثة، أنها تتعرض في أحيان كثيرة وباسم السياسة لتشويه متعمد هدفه المصلحة الضيقة لحزب أو جماعة ضغط معينة أو معارضة، ترى أن توظيف هذا الموضوع سيؤدي بها إلى مد سلطتها أو تضييق مساحات الأطراف الأخرى المنافسة. والمقصود بالتشويه أن التفكير في الهوية وإعادة ابتكارها يتم ليس وفق منهج عادل أو نظام ممنهج في الرؤية بل اعتمادا على الرغبة المحددة وربما الوقتية التي تهيئ لهدف معين ومن ثم يسقط الباقي مع الزمن، وقد شهدنا في مطلع التسعينات كيف وظفت الدولة الهوية الدينية الإسلامية مقابل المسيحية في حرب الجنوب، واعتبار أن المقاتلين من الطرف الآخر متمردين و"كفار" بالمعنى الديني المباشر، بحيث يتحول القتيل إلى الشهيد. ولاحقا كانت ذات المجموعات تتصالح وتتوافق على السلطة في الألفية الثالثة، وهذا يعني أن الهوية التي تم طرحها في البداية كانت مضللة وكاذبة وذات مصلحة مؤقتة بحتة. ولهذا فإن الهوية الحقيقية للأمة تنمو في مناخ معافى وفي ظل نظام ليبرالي يقوم فيه كل فرد بطرح وجهة نظر معينة وتتصارع الوجهات بمنطق القوة العالمة حتى لو أنه كانت ثمة أطراف أخرى تؤثر بالضغط المادي أو التسلط بأي شكل كان. لكن ذلك الطريق هو الآخر في ظل مجتمعات السودان يتطلب نوعا من الاستعداد غير المتوفر آنيا من بناء صيغة المجتمع الديمقراطي السديد الذي يتأسس على المعرفة وليس مجرد التقليد والاتباع.
يمكن القول إن الهوية سواء كانت لغرض محدد أو مستمر، وسواء نجحت في السيطرة أو فشلت لفترة ما، سواء كانت قمعية ديكتاتورية جاء بها حاكم جائر أو جاءت بها أحزاب عادلة تقوم على الديمقراطية فإن النتيجة هي أن كل هذه الأشكال من الهويات هي في النهاية صور أو متخيلات وليس لها من تحديد واقعي يمكن القبض عليه، لهذا كانت الإشارة السابقة إلى أن الهوية هي أمر غير ثابت ومتغير لكن هذا يعني أنه يجب في مناخ معافى أن يتغير منظور وشكل الهوية نحو الأفضل بناء على ما يلبي المتطلبات المجتمعية وأسئلة الراهن والمعاش دون النزوع نحو إنتاج عوالم عبثية او يوتوبية ليس لها من وجود حقيقي، لا تحل مشكلات أو لا توجد سوى الدخول في صراعات غير ذات جدوى. وهذا يقود بشكل عمومي إلى دور المتخيلات سواء تمثلت في الهوية أو الفكر السياسي الجديد أو الميتاسياسة في تعزيز الوجود الاجتماعي الحر والمضي بالإنسان نحو قيمة مبتكرة تساعده في الإبداع والتميز والإضافة وليس مجرد كائن اجتراري وتعيس. وعلى مدار التاريخ البشري كانت المتخيلات هي التي تقود أو تحرك التاريخ نحو المزيد من الإضافات النوعية هذا في ظل خيال إيجابي يعمل على إحداث نقلات فعلية وفاعلة وليس خيال شرير ومهووس كما يتم استنساخه وفق أنظمة القمع والنازيات والشوفينيات القديم منها والجديد.
أخيرا فإن مستقبل فكرة الهوية في علاقتها ببناء الأمة أو الشعب المعين، هو أمر يظل مرتهنا لحد كبير بالسياق السياسي كيف يمكن تطويره ونقله إلى آفاق حديثة وهذا رهان لن يكون مربطه فقط الرغبة أو الخطاب النخبوي بل إنزال القيم إلى أرض الواقع عبر كافة قطاعات "السيطرة النمطية" من تربية وتعليم وإعلام، وقبل ذلك التعزيز القوي والتجديدي لنظام التقاليد الاجتماعية وكيفية رؤيتها بوجهة جديدة ومفيدة.
وهل يمكن في هذا الإطار الانتباه إلى ضرورة إعادة تعريف الهوية واعتبارها أمرا مهما في شأن هذا التعديل؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة لاعتبارات كثيرة، أن أي عمل سياسي أو ميتاسياسي لا يمكن عزله عن التشكيل الذهني للمجتمع وكيفية تصوره للعالم والوجود وإدارة الحياة، وهذا في جملته مرتبط بالتاريخ والرغبة في الأنسنة وكذلك بمعادل أعلى موضوعيا هو الهوية الذاتية التي تميز الأمة أو المجتمع المعين.
ولكن ثمة خلاف أو جدل بين المفكرين في ضرورة الهوية، ففي الوقت الذي يعتبر البعض أنها باتت من أشكال الماضي وأنها ليست ذات قيمة في سبيل بناء الدولة المستقبلية وأنه يجب البحث عن مفاهيم أكثر حداثة كالهوية المواطنية مثلا، فهناك من يرى العكس ويراهن على هذا الباب، باعتبار أنه لا مستقبل دون تحديد الهوية وفق نسقها الكلاسيكي. ويرى أنها مهمة للفعل السياسي وكونه إلى حد بعيد ينشد كثيرا من مراميه أو يعضد لحمته عبر مقولات أو لافتات طابعها يتمثل أشكال الهوية التقليدية، سواء عقائدية كانت أم مرتبطة بالمكان، الجغرافية، أو بقيم اجتماعية كالعدالة والمساواة أو غيرها من أنساق يمكن استحداثها والعمل على تطويرها وفق ما يفرضه المزاج والوعي العام للمجتمع.
وبعيدا عن سجال الهوية، وهل هي موجودة فعلا أم لا، فالواقع أنها متغيرة وليس لها من ثبات فهي تتغير مع الزمن وبناء على اعتبارات كثيرة ومصالح سياسية عامة محلية ودولية بالإضافة إلى الصراعات الإنسانية المركزية التي تدور حول الهيمنة البشرية لمجموعات معينة على حساب مجموعة أو مجموعات أخرى، طالما أن الإنسان ورغم أننا في الألفية الثالثة لم يتحرر بعد من هذه الخصومات الشهوانية الضيقة التي تجعله يدير الحروب وينزف الدماء والدموع ويخاصم ويقتل وينتهك ويغتضب، دون هوادة ولا أدنى حياء.
إذن الهوية هي جزء من المتخيل السياسي وهي اختراع سياسي بإمتياز ومن هنا يمكن فهم العلاقة بين الاثنين، ففي الدولة الدينية مثلا تحاول الجماعات المهيمنة على السلطة أن تتبنى هوية ذات بعد ديني وعقدي وتتزرع بالغيب الذي تتخذه كحجة لتمديد سطوتها الدنيوية، وتعمل على ابتكار الأنظمة والتشريعات والقوانين وتكيفها داخل هذه الهوية المخترعة، وفي الدولة التي تتبنى الليبرالية أو نسق الحكم الديمقراطي فإن الهوية تقوم على "الفاكتور" الإنساني وتحديد المزاج وفق العامل الإنساني العام بمعنى أن خصائص الحرية والعدل والمساواة وغيرها من قيم التماثل البشري هي التي تحكم العلاقات، وبالتالي هي مُشكِّلات وَقْع الهوية ودربها الذي تنشده.
إذن هل الهوية ضرورية للسياسة أم هي العكس؟ الإجابة هي الاثنين معا. فالهوية تأخذ من السياسة والسياسة تأخذ من الهوية، بحيث يصعب نزع اللحم عن العظم في توليفة تتداخل فيها سياقات المصالح والتجارة والتعاون البشري والخلافات أيضا، في ظل أن السياسة مسألة معقدة ليس لها من حدود سوى حكمة القوة وسلطتها ومداها.
لكن الإشكال الذي تعاني منه الهوية اليوم في الدولة الحديثة، أنها تتعرض في أحيان كثيرة وباسم السياسة لتشويه متعمد هدفه المصلحة الضيقة لحزب أو جماعة ضغط معينة أو معارضة، ترى أن توظيف هذا الموضوع سيؤدي بها إلى مد سلطتها أو تضييق مساحات الأطراف الأخرى المنافسة. والمقصود بالتشويه أن التفكير في الهوية وإعادة ابتكارها يتم ليس وفق منهج عادل أو نظام ممنهج في الرؤية بل اعتمادا على الرغبة المحددة وربما الوقتية التي تهيئ لهدف معين ومن ثم يسقط الباقي مع الزمن، وقد شهدنا في مطلع التسعينات كيف وظفت الدولة الهوية الدينية الإسلامية مقابل المسيحية في حرب الجنوب، واعتبار أن المقاتلين من الطرف الآخر متمردين و"كفار" بالمعنى الديني المباشر، بحيث يتحول القتيل إلى الشهيد. ولاحقا كانت ذات المجموعات تتصالح وتتوافق على السلطة في الألفية الثالثة، وهذا يعني أن الهوية التي تم طرحها في البداية كانت مضللة وكاذبة وذات مصلحة مؤقتة بحتة. ولهذا فإن الهوية الحقيقية للأمة تنمو في مناخ معافى وفي ظل نظام ليبرالي يقوم فيه كل فرد بطرح وجهة نظر معينة وتتصارع الوجهات بمنطق القوة العالمة حتى لو أنه كانت ثمة أطراف أخرى تؤثر بالضغط المادي أو التسلط بأي شكل كان. لكن ذلك الطريق هو الآخر في ظل مجتمعات السودان يتطلب نوعا من الاستعداد غير المتوفر آنيا من بناء صيغة المجتمع الديمقراطي السديد الذي يتأسس على المعرفة وليس مجرد التقليد والاتباع.
يمكن القول إن الهوية سواء كانت لغرض محدد أو مستمر، وسواء نجحت في السيطرة أو فشلت لفترة ما، سواء كانت قمعية ديكتاتورية جاء بها حاكم جائر أو جاءت بها أحزاب عادلة تقوم على الديمقراطية فإن النتيجة هي أن كل هذه الأشكال من الهويات هي في النهاية صور أو متخيلات وليس لها من تحديد واقعي يمكن القبض عليه، لهذا كانت الإشارة السابقة إلى أن الهوية هي أمر غير ثابت ومتغير لكن هذا يعني أنه يجب في مناخ معافى أن يتغير منظور وشكل الهوية نحو الأفضل بناء على ما يلبي المتطلبات المجتمعية وأسئلة الراهن والمعاش دون النزوع نحو إنتاج عوالم عبثية او يوتوبية ليس لها من وجود حقيقي، لا تحل مشكلات أو لا توجد سوى الدخول في صراعات غير ذات جدوى. وهذا يقود بشكل عمومي إلى دور المتخيلات سواء تمثلت في الهوية أو الفكر السياسي الجديد أو الميتاسياسة في تعزيز الوجود الاجتماعي الحر والمضي بالإنسان نحو قيمة مبتكرة تساعده في الإبداع والتميز والإضافة وليس مجرد كائن اجتراري وتعيس. وعلى مدار التاريخ البشري كانت المتخيلات هي التي تقود أو تحرك التاريخ نحو المزيد من الإضافات النوعية هذا في ظل خيال إيجابي يعمل على إحداث نقلات فعلية وفاعلة وليس خيال شرير ومهووس كما يتم استنساخه وفق أنظمة القمع والنازيات والشوفينيات القديم منها والجديد.
أخيرا فإن مستقبل فكرة الهوية في علاقتها ببناء الأمة أو الشعب المعين، هو أمر يظل مرتهنا لحد كبير بالسياق السياسي كيف يمكن تطويره ونقله إلى آفاق حديثة وهذا رهان لن يكون مربطه فقط الرغبة أو الخطاب النخبوي بل إنزال القيم إلى أرض الواقع عبر كافة قطاعات "السيطرة النمطية" من تربية وتعليم وإعلام، وقبل ذلك التعزيز القوي والتجديدي لنظام التقاليد الاجتماعية وكيفية رؤيتها بوجهة جديدة ومفيدة.
Comments
Post a Comment