لغة الصمت
الياس خوري
كنت جالسا مع عبد الجليل في المقهى، وفجأة ونحن نتكلم كنت جالسا مع عبد الجليل في المقهى، وفجأة ونحن نتكلم عن كل شيء، التفت اليّ صديقي وقال إننا نحكي كمن لا يحكي، نحكي كي لا نقول شيئاً، «ما رأيك لو نصمت، لقد تعبت منا الكلمات وتعبنا منها».
«الكلام بدأ يصيبني بالسأم» قال، «اجتماع الحروف بالحروف كي تتشكل الكلمات صار يبدو لي مستحيلاً، الكلام صار ضجيجاً، وانا تعبت من ضجيجي وضجيج الناس، تعال نجرب الصمت».
جلست مع عبد الجليل حوالي ساعتين، وفي كل مرة حاولت فيها ان أحكي، كان يسكتني عبر وضع سبابته على شفتيه. ثم وقف وقال ان عليه أن يمضي. صافحني وهو يقول انه يشكرني على هذا اللقاء الجميل، وانه استمتع بآرائي، ومضى.
وصار الصمت لغتنا، وشكل صداقتنا.
أشعر الآن، وأنا اكتب، أنني أخون العهد كي أروي حكاية هذه العلاقة التي لا اسم لها سوى صداقة الصمت.
وصلنا إلى عهد الصمت بعد لحظة غرائبية، كنا نجلس كعادتنا مساء كل يوم في المقهى، أنا أشرب الشاي وهو يحتسي فنجان قهوته المرة، ونحكي. مع عبدالجليل كان الكلام لا ينضب، وكنا نحكي كمن يمتلك سلطان الكلام.
هناك سلطانان يعطيان حياة الإنسان معنى، سلطان النوم وسلطان الكلام. في النوم نذهب في رحلة متعرجة إلى أحلامنا، وفي الكلام نكتشف قدرتنا على أن نكون. سلطانان، الأول يمنحنا تجربة الموت المؤقت، فنعيش كما يحلو للمنام، أو كما يحلم الأموات حين يصيرون عاجزين عن اليقظة، فيذهبون في منعطفات النوم إلى حيث ينحل المنطق كأجسادهم التي تتحلل. أما الثاني فيعطينا شعوراً بأننا نسيطر على حياتنا، نحلل الأحداث، نحكي كمن يشارك في صنع التاريخ، نسخر من الآخرين، نشتم الزمن، ونتأرجح على حبال أصواتنا.
كنا نحكي، نستعيد أفكاراً سبق لنا أن ناقشناها، نعلق على الأحداث، ونبدي بَرَماً دائما بحالة لبنان والعالم العربي. لم تكن لقاءاتنا تحمل أي شيء خاص، كنا ككل الناس نستشهد بمقالات قرأناها في الصحف، أو بأشعار حفظناها، أو باشارات إلى أبطال روايات قديمة.
في أحد الأيام قال عبدالجليل انه توقف عن مشاهدة الأخبار في التلفزيون، وألقى على مسامعي محاضرة عن الكذب والزعبرة.
وبعد ذلك بحوالي شهر أبلغني انه توقف عن قراءة الصحف، قال ان مشاهدة الأخبار في التلفزيون وقراءة الصحف تصيبه بألم في عينيه.
حاولت أن أناقشه بلا جدوى قراريه، فنحن نعيش في عالم مصنوع من الصورة والكلمة، وقراره سوف يعني انه يخرج من الحاضر، وهو شكل من أشكال الاستسلام.
امتعض عبدالجليل من كلامي، فصداقتنا ككل الصداقات الطويلة بُنيت على التواطوء. وهذه لعبة اتقنها كلانا، بدل أن نختلف ندوّر الجمل، فنستعيدها بعد أن نُضفي عليها معاني جديدة. هذه هي أصول الصداقة، تدوير الكلام من أجل أن نجعله يبدو متطابقاً.
لكن حين أعلن قراره بمقاطعة التلفزيون والصحف لم استطع أن ألعب معه لعبة التدوير التقليدية، فدخلنا في نقاش، انتهى بسرعة لأن صديقي بدا حاسماً في قناعته الجديدة.
جاء قرار صديقي بعد أحداث سنجار، ومقتلة الأيزيدين العراقيين واسترقاق نسائهم. يومها قاطعني عبد الجليل وقال انه لا يريد أن يستمع إلى هذه الأخبار، وانه يشعر بأن المعرفة صارت جريمة، فحين لا تستطيع أن تفعل شيئاً لوقف المأساة فإنك تصبح شريكاً في الجريمة. الأفضل أن لا نعرف، فالمعرفة العاجزة هي انتحار، وانا لا أريد أن أنتحر.
احترمت قراره، وصرنا نستلّ كلماتنا من بئر الذاكرة. نحكي عن الماضي، وحين أحاول أن أربط بين فشلنا السياسي والثقافي، وبين ما يجري اليوم، كان عبد الجليل يدخل في الصمت.
ثم بدأت ألاحظ أن صديقي يتعثر بكلماته. يبدأ في الكلام ثم يسكت في وسط الجملة قبل أن يكتمل المعنى، وكان عليّ أن أملأ فراغات سكوته بالكلام.
ومنذ ثلاثة أسابيع جئت إلى المقهى للقائه وانا أحمل ديوان «أنشودة المطر» للسيّاب، نظر عبد الجليل إلى الكتاب وقال ان السياب شاعر عظيم، وان قصيدته «غريب على الخليج»، حين يصرخ بالعراق والعراق لا يجيب هي أجمل قصيدة في الشعر العربي الحديث. فتحت الكتاب وبدأت في تلاوة القصيدة، فقاطعني وقال انه لا يستطيع سماعها، فهذا الشعر يستدعي الدموع، وهو لا يريد أن يبكي.
لا أذكر ماذا حكينا، لكنه فجأة قال ان الكلام يؤلمه، «الحكي بوجّع».
ودخلنا في صداقة الصمت. يومها قال لي ان الصمت هو الوسيلة الوحيدة للتواصل، وان المحافظة على الصداقة والود تقتضي منا اليوم الاستماع إلى صوت الصمت.
حين قال صوت الصمت ارتسمت على وجهي علامات الحيرة، فقال ان صوت الصمت هو اليوم الصوت الوحيد الصادق، فلنستمع إليه كي نجد أرواحنا من جديد.
لا أدري كيف أصف صداقتنا التي ازدادت رسوخا، وتواطؤنا الذي صار أكثر صلابة، وفهمنا للزمن الذي صار أكثر وضوحاً.
لا أستطيع أن أخترع كلمات صامتة تروي حكاية لغة الصمت التي اقترحها صديقي، لكنها حكاية يجب أن تُروى، وربما كانت الباب الوحيد الذي نستعيد من خلاله صورتنا من مرايا لغة صارت عدوا لنفسها وللناطقين بها.
«الكلام بدأ يصيبني بالسأم» قال، «اجتماع الحروف بالحروف كي تتشكل الكلمات صار يبدو لي مستحيلاً، الكلام صار ضجيجاً، وانا تعبت من ضجيجي وضجيج الناس، تعال نجرب الصمت».
جلست مع عبد الجليل حوالي ساعتين، وفي كل مرة حاولت فيها ان أحكي، كان يسكتني عبر وضع سبابته على شفتيه. ثم وقف وقال ان عليه أن يمضي. صافحني وهو يقول انه يشكرني على هذا اللقاء الجميل، وانه استمتع بآرائي، ومضى.
وصار الصمت لغتنا، وشكل صداقتنا.
أشعر الآن، وأنا اكتب، أنني أخون العهد كي أروي حكاية هذه العلاقة التي لا اسم لها سوى صداقة الصمت.
وصلنا إلى عهد الصمت بعد لحظة غرائبية، كنا نجلس كعادتنا مساء كل يوم في المقهى، أنا أشرب الشاي وهو يحتسي فنجان قهوته المرة، ونحكي. مع عبدالجليل كان الكلام لا ينضب، وكنا نحكي كمن يمتلك سلطان الكلام.
هناك سلطانان يعطيان حياة الإنسان معنى، سلطان النوم وسلطان الكلام. في النوم نذهب في رحلة متعرجة إلى أحلامنا، وفي الكلام نكتشف قدرتنا على أن نكون. سلطانان، الأول يمنحنا تجربة الموت المؤقت، فنعيش كما يحلو للمنام، أو كما يحلم الأموات حين يصيرون عاجزين عن اليقظة، فيذهبون في منعطفات النوم إلى حيث ينحل المنطق كأجسادهم التي تتحلل. أما الثاني فيعطينا شعوراً بأننا نسيطر على حياتنا، نحلل الأحداث، نحكي كمن يشارك في صنع التاريخ، نسخر من الآخرين، نشتم الزمن، ونتأرجح على حبال أصواتنا.
كنا نحكي، نستعيد أفكاراً سبق لنا أن ناقشناها، نعلق على الأحداث، ونبدي بَرَماً دائما بحالة لبنان والعالم العربي. لم تكن لقاءاتنا تحمل أي شيء خاص، كنا ككل الناس نستشهد بمقالات قرأناها في الصحف، أو بأشعار حفظناها، أو باشارات إلى أبطال روايات قديمة.
في أحد الأيام قال عبدالجليل انه توقف عن مشاهدة الأخبار في التلفزيون، وألقى على مسامعي محاضرة عن الكذب والزعبرة.
وبعد ذلك بحوالي شهر أبلغني انه توقف عن قراءة الصحف، قال ان مشاهدة الأخبار في التلفزيون وقراءة الصحف تصيبه بألم في عينيه.
حاولت أن أناقشه بلا جدوى قراريه، فنحن نعيش في عالم مصنوع من الصورة والكلمة، وقراره سوف يعني انه يخرج من الحاضر، وهو شكل من أشكال الاستسلام.
امتعض عبدالجليل من كلامي، فصداقتنا ككل الصداقات الطويلة بُنيت على التواطوء. وهذه لعبة اتقنها كلانا، بدل أن نختلف ندوّر الجمل، فنستعيدها بعد أن نُضفي عليها معاني جديدة. هذه هي أصول الصداقة، تدوير الكلام من أجل أن نجعله يبدو متطابقاً.
لكن حين أعلن قراره بمقاطعة التلفزيون والصحف لم استطع أن ألعب معه لعبة التدوير التقليدية، فدخلنا في نقاش، انتهى بسرعة لأن صديقي بدا حاسماً في قناعته الجديدة.
جاء قرار صديقي بعد أحداث سنجار، ومقتلة الأيزيدين العراقيين واسترقاق نسائهم. يومها قاطعني عبد الجليل وقال انه لا يريد أن يستمع إلى هذه الأخبار، وانه يشعر بأن المعرفة صارت جريمة، فحين لا تستطيع أن تفعل شيئاً لوقف المأساة فإنك تصبح شريكاً في الجريمة. الأفضل أن لا نعرف، فالمعرفة العاجزة هي انتحار، وانا لا أريد أن أنتحر.
احترمت قراره، وصرنا نستلّ كلماتنا من بئر الذاكرة. نحكي عن الماضي، وحين أحاول أن أربط بين فشلنا السياسي والثقافي، وبين ما يجري اليوم، كان عبد الجليل يدخل في الصمت.
ثم بدأت ألاحظ أن صديقي يتعثر بكلماته. يبدأ في الكلام ثم يسكت في وسط الجملة قبل أن يكتمل المعنى، وكان عليّ أن أملأ فراغات سكوته بالكلام.
ومنذ ثلاثة أسابيع جئت إلى المقهى للقائه وانا أحمل ديوان «أنشودة المطر» للسيّاب، نظر عبد الجليل إلى الكتاب وقال ان السياب شاعر عظيم، وان قصيدته «غريب على الخليج»، حين يصرخ بالعراق والعراق لا يجيب هي أجمل قصيدة في الشعر العربي الحديث. فتحت الكتاب وبدأت في تلاوة القصيدة، فقاطعني وقال انه لا يستطيع سماعها، فهذا الشعر يستدعي الدموع، وهو لا يريد أن يبكي.
لا أذكر ماذا حكينا، لكنه فجأة قال ان الكلام يؤلمه، «الحكي بوجّع».
ودخلنا في صداقة الصمت. يومها قال لي ان الصمت هو الوسيلة الوحيدة للتواصل، وان المحافظة على الصداقة والود تقتضي منا اليوم الاستماع إلى صوت الصمت.
حين قال صوت الصمت ارتسمت على وجهي علامات الحيرة، فقال ان صوت الصمت هو اليوم الصوت الوحيد الصادق، فلنستمع إليه كي نجد أرواحنا من جديد.
لا أدري كيف أصف صداقتنا التي ازدادت رسوخا، وتواطؤنا الذي صار أكثر صلابة، وفهمنا للزمن الذي صار أكثر وضوحاً.
لا أستطيع أن أخترع كلمات صامتة تروي حكاية لغة الصمت التي اقترحها صديقي، لكنها حكاية يجب أن تُروى، وربما كانت الباب الوحيد الذي نستعيد من خلاله صورتنا من مرايا لغة صارت عدوا لنفسها وللناطقين بها.
الياس خوري
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment