حروب بلا أسماء
الياس خوري
تحيرني اسماء هذه الحروب التي تخاض في بلاد العرب، فالأسماء لا تدل على
شيء، لأن ما يجري هو كناية عن جولات في حرب كبيرة غامضة الملامح، تشمل
الاقليم برمته، من تركيا الى ايران وباكستان وصولا الى السودان، مرورا
بساحات القتال الممتدة من ليبيا الى سورية والعراق واليمن.
من الصعب أن نفهم منطق هذه الحروب من خلال لغتها. فمن يصدّق الخطاب الايراني ومعه خطاب حزب الله اللبناني وانصار الله في اليمن، يخال اننا امام حرب تحرير فلسطين، ومن يستسيغ الكلام الامريكي يعتقد اننا امام فصل جديد من الحرب العالمية على الارهاب في سبيل ترسيخ القيم الديموقراطية، ومن ينتشي بالخطاب السعودي- المصري يجد نفسه أمام يقظة قومية هدفها منع التدخلات الخارجية في السياسة العربية. أما خطاب الدولة الاسلامية في مرحلة «ادارة التوحش»، فهو خطاب الانبعاث الاسلامي والعودة الى الأصول!
كلام لا هدف له سوى حجب النوايا، الى درجة يخال فيها المرء ان المعاني ضاعت، في لحظة عدم توازن تاريخي تعبر فيه المنطقة بعدما اسلمت قيادها الى قوتين أصوليتين واحدة شيعية في طهران وثانية سنية في الرياض، تعيدانها الى زمن الحروب الدينية والطائفية.
الانطلاق من اسماء الحروب أو من خطابات دعاتها تصيبنا بالعماء المطلق، لأن كل خطاب يخفي أكثر مما يكشف، وهو مصنوع من شيفرة سرية مبنية على فكرة استعادة خطاب الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية، باعتباره الملجأ الأخير لوأد الحلم الذي راود خيال ملايين العرب الذين نزلوا الى ساحات المدن تحت شعار الحرية والكرامة الانسانية وانهاء الاستبداد.
تعالوا نحاول أن نستعيد سياسة القوتين الاقليمتين الكبريين تجاه انتفاضات الشعوب العربية، كي نفهم ما تخفيه لعبة هذه الأسماء المزورة، وكي لا نقع اسرى هذه الدوامة الدموية التي تعصف بنا.
فلنبدأ بالموقف العربي، حيث أن استعادة وقائع الربيع العربي تشير الى حقيقة أن الموقف السعودي كان مؤيدا لبن علي في تونس، ومدافعا عن بقاء حسني مبارك في مصر الذي صار بعد ذلك دعما لعودة الجيش الى السلطة، اما في اليمن فان التسوية التي رعتها دول الخليج، وتم بموجبها اخراج علي عبدالله الصالح من السلطة، ضمنت بقاء نظامه ما سمح له بالاستمرار في السيطرة على قوات النخبة في الجيش اليمني جاعلة منه اليوم لاعبا كبيرا في الحرب اليمنية.
هذا من دون ان ننسى التردد السعودي امام الثورة السورية، قبل أن يحسم الموقف في اطار الحرب الاقليمية ضد النفوذ الايراني.
الموقف الايراني كان أكثر غموضاً، لكنه انكشف بشكل واضح في دعمه المطلق العسكري والسياسي والايديولوجي والمالي للنظام الاستبدادي في سورية، وفي تبنيه سياسات طائفية عراقية ارادت استبدال ديكتاتورية سنية بديكتاتورية شيعية تنافس الاولى في التوحش. اما في اليمن فان تاييده للحوثيين ليس سوى احد وجوه دعمه للنظام القديم.
المعسكران متفقان في العمق على أمر اساسي، هو وأد الحلم الديموقراطي والتمسك بالاستبداد. هذا هو الموضوع الذي يغيب اليوم عن الواجهة الاعلامية والسياسية في العالم العربي، ويجري استبداله بسيل من الكلام الدعائي الذي يجعل الباطل حقا والحق باطلا.
غير أن الاتفاق الجوهري بين المعسكرين المتخاصمين لا ينعكس وئاما بينهما لأنه يتمفصل على الفراغ السياسي الذي انتجته نهاية الحرب الباردة، وسياسة ادارة اوباما التي تنطلق من واقع حدود القوة الامريكية التي كشفتها نتائج الغزو الأحمق للعراق. الفراغ الذي احتل المكان العربي بعد تداعي انظمة الاستبداد سمح للقوتين الاقليمتين المعارضتين بنيويا للتغيير بالاعتقاد ان كل واحدة منهما تمتلك القدرة منفردة على تعبئة الفراغ، وهذا ما قاد الى حرب مفتوحة وقودها الايديولوجي الوحيد هو الصراع الطائفي والمذهبي.
الحرب بين معسكرين محافظين يريدان استمرار الماضي الذي تداعى في ميادين مدن العرب، يجب أن لا يحجب حقيقة الموقف الذي يجمعهما ويفرقهما في آن معاً. يجتمعان ضد الثورة الشعبية التي انفجرت، ويفترقان في قراءتيهما لكيفية تعبئة الفراغ الناجم عن تفكك الاستبداد القديم، باستبداد جديد.
الايرانيون يندفعون الى التوسع على قاعدة حشد العصبيىة الشيعية من لبنان الى العراق واليمن، والسعوديون ومعهم دول مجلس التعاون الخليجي يسعون الى صد هذا التوسع استنادا الى العصبية السنية. وفي هذه الحمى الحمقاء تتفكك المنطقة وتستنزف من دون ان يلوح في الأفق اية امكانية لانتصار حاسم لأحد المعسكرين.
لكن هذا الاستنزاف يحقق في المقابل هدفين:
الأول هو تيئيس الشعوب من فكرة الحرية، وتحطيم ارادتها، ودفعها الى أحضان استبدادات جديدة وحشية تمثلها ميلشيات الاصوليين من داعش الى عصائب اهل الحق الى آخر ما لا آخر له من هذه الخريطة الدموية التي شاركت في صنعها أصابع استخبارات القوى الاقليمية واموالها.
الثاني هو اخراج قضية فلسطين من الخريطة، عبر الاندفاع الى صراع قبلي ديني طائفي، يجعل من العربي عدوا للعربي. وهنا تبدو ضحالة خطاب الممانعة الذي لا يستأسد اليوم الا على الشعب، ويؤجل رده «المزلزل» على اسرائيل او يتناساه او يصير خارج اولوياته. كما يبرز من جهة ثانية ان المبادرة العربية من اجل فلسطين لم تكن سوى كلام عاجزين لا يملكون قرار تحويلها الى فعل خوفا من الحليف الامريكي او مراعاة له.
القوتان اللتان تخوضان الحروب في تكريت وصعدة وغيرهما تتناسيان في غمرة انتفاخهما بفراغ القوة، أن قوة الفراغ التي تسكران بها تجعلهما اضحوكة امام الامريكي الذي يقصف في تكريت دعما للايرانيين ويغطي ويساهم في قصف صنعاء دعما للسعوديين! جاعلا من تحالفه مع القوتين الاقليمتين المتصارعتين احدى أكبر مهازل هذا الزمن الأرعن.
انها حروب بلا اسماء وبلا أفق، ولن تكون في النهاية سوى المحاولة الأخيرة لوأد الحرية في العالم العربي.
هذا هو الاسم الحقيقي لهــــذه الحروب، والمعــــركة الكــــبرى يجب أن تخاض خارج هذين الاصطــــفافين الاستبداديين، من أجل استعادة المعنى الذي كتبه اطفال درعــا بدمهم والمهم وموتهم.
الياس خوري
من الصعب أن نفهم منطق هذه الحروب من خلال لغتها. فمن يصدّق الخطاب الايراني ومعه خطاب حزب الله اللبناني وانصار الله في اليمن، يخال اننا امام حرب تحرير فلسطين، ومن يستسيغ الكلام الامريكي يعتقد اننا امام فصل جديد من الحرب العالمية على الارهاب في سبيل ترسيخ القيم الديموقراطية، ومن ينتشي بالخطاب السعودي- المصري يجد نفسه أمام يقظة قومية هدفها منع التدخلات الخارجية في السياسة العربية. أما خطاب الدولة الاسلامية في مرحلة «ادارة التوحش»، فهو خطاب الانبعاث الاسلامي والعودة الى الأصول!
كلام لا هدف له سوى حجب النوايا، الى درجة يخال فيها المرء ان المعاني ضاعت، في لحظة عدم توازن تاريخي تعبر فيه المنطقة بعدما اسلمت قيادها الى قوتين أصوليتين واحدة شيعية في طهران وثانية سنية في الرياض، تعيدانها الى زمن الحروب الدينية والطائفية.
الانطلاق من اسماء الحروب أو من خطابات دعاتها تصيبنا بالعماء المطلق، لأن كل خطاب يخفي أكثر مما يكشف، وهو مصنوع من شيفرة سرية مبنية على فكرة استعادة خطاب الصراعات الدينية والطائفية والمذهبية، باعتباره الملجأ الأخير لوأد الحلم الذي راود خيال ملايين العرب الذين نزلوا الى ساحات المدن تحت شعار الحرية والكرامة الانسانية وانهاء الاستبداد.
تعالوا نحاول أن نستعيد سياسة القوتين الاقليمتين الكبريين تجاه انتفاضات الشعوب العربية، كي نفهم ما تخفيه لعبة هذه الأسماء المزورة، وكي لا نقع اسرى هذه الدوامة الدموية التي تعصف بنا.
فلنبدأ بالموقف العربي، حيث أن استعادة وقائع الربيع العربي تشير الى حقيقة أن الموقف السعودي كان مؤيدا لبن علي في تونس، ومدافعا عن بقاء حسني مبارك في مصر الذي صار بعد ذلك دعما لعودة الجيش الى السلطة، اما في اليمن فان التسوية التي رعتها دول الخليج، وتم بموجبها اخراج علي عبدالله الصالح من السلطة، ضمنت بقاء نظامه ما سمح له بالاستمرار في السيطرة على قوات النخبة في الجيش اليمني جاعلة منه اليوم لاعبا كبيرا في الحرب اليمنية.
هذا من دون ان ننسى التردد السعودي امام الثورة السورية، قبل أن يحسم الموقف في اطار الحرب الاقليمية ضد النفوذ الايراني.
الموقف الايراني كان أكثر غموضاً، لكنه انكشف بشكل واضح في دعمه المطلق العسكري والسياسي والايديولوجي والمالي للنظام الاستبدادي في سورية، وفي تبنيه سياسات طائفية عراقية ارادت استبدال ديكتاتورية سنية بديكتاتورية شيعية تنافس الاولى في التوحش. اما في اليمن فان تاييده للحوثيين ليس سوى احد وجوه دعمه للنظام القديم.
المعسكران متفقان في العمق على أمر اساسي، هو وأد الحلم الديموقراطي والتمسك بالاستبداد. هذا هو الموضوع الذي يغيب اليوم عن الواجهة الاعلامية والسياسية في العالم العربي، ويجري استبداله بسيل من الكلام الدعائي الذي يجعل الباطل حقا والحق باطلا.
غير أن الاتفاق الجوهري بين المعسكرين المتخاصمين لا ينعكس وئاما بينهما لأنه يتمفصل على الفراغ السياسي الذي انتجته نهاية الحرب الباردة، وسياسة ادارة اوباما التي تنطلق من واقع حدود القوة الامريكية التي كشفتها نتائج الغزو الأحمق للعراق. الفراغ الذي احتل المكان العربي بعد تداعي انظمة الاستبداد سمح للقوتين الاقليمتين المعارضتين بنيويا للتغيير بالاعتقاد ان كل واحدة منهما تمتلك القدرة منفردة على تعبئة الفراغ، وهذا ما قاد الى حرب مفتوحة وقودها الايديولوجي الوحيد هو الصراع الطائفي والمذهبي.
الحرب بين معسكرين محافظين يريدان استمرار الماضي الذي تداعى في ميادين مدن العرب، يجب أن لا يحجب حقيقة الموقف الذي يجمعهما ويفرقهما في آن معاً. يجتمعان ضد الثورة الشعبية التي انفجرت، ويفترقان في قراءتيهما لكيفية تعبئة الفراغ الناجم عن تفكك الاستبداد القديم، باستبداد جديد.
الايرانيون يندفعون الى التوسع على قاعدة حشد العصبيىة الشيعية من لبنان الى العراق واليمن، والسعوديون ومعهم دول مجلس التعاون الخليجي يسعون الى صد هذا التوسع استنادا الى العصبية السنية. وفي هذه الحمى الحمقاء تتفكك المنطقة وتستنزف من دون ان يلوح في الأفق اية امكانية لانتصار حاسم لأحد المعسكرين.
لكن هذا الاستنزاف يحقق في المقابل هدفين:
الأول هو تيئيس الشعوب من فكرة الحرية، وتحطيم ارادتها، ودفعها الى أحضان استبدادات جديدة وحشية تمثلها ميلشيات الاصوليين من داعش الى عصائب اهل الحق الى آخر ما لا آخر له من هذه الخريطة الدموية التي شاركت في صنعها أصابع استخبارات القوى الاقليمية واموالها.
الثاني هو اخراج قضية فلسطين من الخريطة، عبر الاندفاع الى صراع قبلي ديني طائفي، يجعل من العربي عدوا للعربي. وهنا تبدو ضحالة خطاب الممانعة الذي لا يستأسد اليوم الا على الشعب، ويؤجل رده «المزلزل» على اسرائيل او يتناساه او يصير خارج اولوياته. كما يبرز من جهة ثانية ان المبادرة العربية من اجل فلسطين لم تكن سوى كلام عاجزين لا يملكون قرار تحويلها الى فعل خوفا من الحليف الامريكي او مراعاة له.
القوتان اللتان تخوضان الحروب في تكريت وصعدة وغيرهما تتناسيان في غمرة انتفاخهما بفراغ القوة، أن قوة الفراغ التي تسكران بها تجعلهما اضحوكة امام الامريكي الذي يقصف في تكريت دعما للايرانيين ويغطي ويساهم في قصف صنعاء دعما للسعوديين! جاعلا من تحالفه مع القوتين الاقليمتين المتصارعتين احدى أكبر مهازل هذا الزمن الأرعن.
انها حروب بلا اسماء وبلا أفق، ولن تكون في النهاية سوى المحاولة الأخيرة لوأد الحرية في العالم العربي.
هذا هو الاسم الحقيقي لهــــذه الحروب، والمعــــركة الكــــبرى يجب أن تخاض خارج هذين الاصطــــفافين الاستبداديين، من أجل استعادة المعنى الذي كتبه اطفال درعــا بدمهم والمهم وموتهم.
الياس خوري
Comments
Post a Comment