Skip to main content

الرواية المُنتجة معرفيا… «أنا أحيا» ليلى بعلبكي نموذجا _____زهور كرام

الرواية المُنتجة معرفيا… «أنا أحيا» ليلى بعلبكي نموذجا

زهور كرام
لا تتشابه النصوص الأدبية في مداخلها، لأنها تختلف في سر وجودها. كل نص أدبي، يحمل معه تاريخ وجوده، بمعنى، كل نص له مجموعة من المداخل، مثلما هو الإنسان.هناك مداخل متعددة ومفتوحة، لكننا نراهن على أكثر المداخل شرعية، تلك التي تمثل قوة النص وتمنحه الحياة. إن مطمح كل نص أن يصبح خالدا، وحياة دائمة في الذاكرة، وما الخلود والحياة إلا ضوء القراءة التي تجعل النص حاضرا، حركيا، مسافرا بين القراءات واللغات. ليست كل النصوص دائمة الحضور في ذاكرة القراءة، هناك نصوص تعيش لحظات سريعة، ثم تضيع في الزحام، لأنها لم تبدع معنى الحياة، حتى إن ركبت موجة الموضة، واقتاتت من المُستهلك، فإنها تظل باردة، ذابلة، بدون روح، وغير قادرة على إحداث الدهشة، سر المرافقة والمواكبة. وهناك نصوص تفرض شرعيتها عند التواصل الأول، وتظل حاملة لسر استمرارها، وضامنة لحياة مع قراء خارج زمن كتابتها، لكونها تمتلك مقومات الدهشة في التشخيص والكتابة والتعبير.
هناك نصوص تُصبح العودة إلى قراءتها، مسألة واجبة وضرورية ومُلزمة لمسار تطور وعي ما. لكن، ليست كل النصوص تفرض هذا الإلزام الاسترجاعي في القراءة، إنما تلك التي تكون قوية برؤيتها في الكتابة. فالأدب بكل تجنيساته، يتحول إلى مادة لتمثل مسار تحول الكتابة، لأن الأدب، على حد تعبير عبد الفتاح كليطو في إحدى حواراته، يُدرس على ضوء الأدب، وقد يُدرس على ضوء علوم أخرى. والنقد يتأسس قبل كل شيء على الأدب، في قراءته للأدب. ولهذا، تتحول بعض الأعمال الإبداعية إلى مادة معرفية نظرية.
من النصوص الروائية التي بإعادة قراءتها، ننتج وعيا بشكل الكتابة السردية اليوم، أو أنها تستطيع أن تمدنا بإشارات لقراءة تحولات السرد الروائي العربي، نلتقي برواية « أنا أحيا» 1958 للكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي. لا تعود أهمية هذه الرواية إلى موضوع المرأة في علاقتها بفكرة التحرر، وإنما إلى طبيعة البنية السردية، من جهة، التي كانت – زمن صدور الرواية – تتجاوز البنية السائدة في التعبير الروائي، ومن جهة ثانية، دور خصوصية السياق الثقافي -الاجتماعي في كتابة الاختلاف بأسلوب خاص، ومنظور مختلف، من خلال صوت المرأة -الكاتبة. يمكن إضاءة التركيبة السردية في «أنا أحيا» من خلال مظهرين اثنين: ضمير الساردة، ثم طبيعة الزمن. إذ، يُفتتح السرد بفعل عائد إلى الذات الساردة، والمُعلنة عن قرار الحكي والفعل معا. ويتضح ذلك أكثر، بورود أفعال مباشرة، منتسبة إلى الذات الساردة، والمتكلمة والفاعلة. وهي وضعية لا تخص، فحسب المشهد الافتتاحي للنص، وإنما ستشكل الإيقاع العام لبناء السرد.
تحكي الرواية حكاية «لينا» التي تقرر أن تحيا كما تريد، وليس كما يُراد لها أن تكون. فتخوض مجموعة من الأفعال (قص الشعر، التمرد على الأسرة، العمل، الاستقلال المادي، الجامعة، العلاقة مع الرجل) عبرها تعاند واقعها، وتُجرَب خيارها باستقلال عن الآخرين (الأسرة،المجتمع). تسرد الساردة هذه الحكاية، بضمير المتكلم المفرد «أنا»، ومن داخل الفعل. وفي هذه الوضعية السردية يتوازى الضميران (الساردة – الشخصية) في شخصية واحدة هي لينا، حيث تتمظهر الحياة الداخلية لـ«لينا» عبر ما تسميه الناقدة دوريت كوهن، في كتابها «الشفافية الداخلية.. صيغ تشخيص الحياة النفسية في الرواية» (1981) بالمحكي الذاتي. يصوغ نص ليلى بعلبكي الحكاية انطلاقا من ذاتية الشخصية التي تقدم عالما حميميا لذات مأزومة، قررت تفجير أفكارها وأحاسيسها وأحلامها، والوقوف عند أسئلتها الخاصة. وهو منظور تحضر فيه الذات وفق شكلين من الحضور السردي. في حالة يحدث التنافر بين «أنا الساردة» و»أنا الفعل» في مستوى صياغة الحياة الداخلية، حيث تخضع «أنا الفعل» لتوجهات «أنا الساردة»، وهو ما سمته دوريت كوهن بـ»التنافر داخل المحكي الذاتي»، وفي حالة ثانية يحدث التوافق داخل المحكي الذاتي، وفي هذا المستوى لا تهيمن «أنا الساردة» بتأويلها ولغتها ومنظورها، وإنما تكون الهيمنة في تشخيص الحياة الداخلية، وما يحيط بها من عوالم وأشياء لـ« أنا الفعل». يهيمن التبئير على ضمير أنا الساردة وأنا الفعل، ويتجلى عبر التكرار: «أنا أجتاز الرصيف»، «فأنا أحس برغبة جامحة: لسماع دمار، لمشاهدة أشلاء، للتحديث بأصابع قاسية جبارة، لا ترحم» (ص9)، «أنا أنتظر، أنتظر، والوقت يزحف ويزحف» (ص10). أما المظهر الثاني فيتمثل في نوعية الزمن السردي الذي تبنَته «أنا أحيا»، الذي يوجه أفق الحكاية نحو المستقبل. نستحضر في هذا الصدد طبيعة الزمن الذي كان مهيمنا في السرد الروائي زمن كتابة «أنا أحيا»، وهو زمن الماضي المنسجم مع ضمير الغائب المتحكم في سرد الحكاية، لكن «أنا أحيا» تستعمل زمن المستقبل، في علاقة بنيوية مع المحكي الذاتي، الذي ينتمي إلى المتكلمة المرأة، لينتج رؤية تشتغل على الأفق بشكل عملي، أكثر منه نظريا. يحضر الحاضر باعتباره مجموعة من الأفعال التي تعبر عنها لينا، وهي تسترسل في محكيها الذاتي، غير أن الحاضر سرعان ما يتم اختراقه بزمن المستقبل، إذ، تُشخص مجموعة من العلامات لغويا حالة الاهتمام بزمن المستقبل، وبداية التفكير في ما سيحدث، والعمل على حكيه. تتمثل بعض مظاهر هذا الزمن في هيمنة أدوات الاستباق، أو الرؤية المستقبلية.
إذا كانت الرواية العربية، والمتزامنة مع زمن تأليف «أنا أحيا» تؤسس حكايتها بالاعتماد على مبدأ الاسترجاع الحدثي، كشكل من أشكال تأسيس الخطاب الروائي، الذي ينتج رؤية معينة، فإن «أنا أحيا» تعتمد منذ بداية السرد على الزمن الاستباقي، الذي يؤشر إلى أفعال ستحدث لاحقا. فقد هيمنت أدوات الاستباق التي جاءت مقترنة بالأفعال (سأبني، سأستقل، سأجلس، سأدفع، سأنعطف…) حيث تحكي «أنا الساردة» عن المستقبل الذي قررت «أنا الفعل» التحكم في زمنه. أخذ الزمن الاستباقي في تمظهره الأول المدى القريب، المتعلق بإنجاز أفعال ذات علاقة باليومي (البيت، الشارع): «سأستقل هذا الترام، مع أن سيارتنا الحمراء الجديدة تربض على مدخل بنايتنا. سأنزل في ساحة المدينة الهائجة، سأسير تائهة..) (ص 10)، شكلت هذه الاستباقات التمهيدية، تراكما أنتج صور المدى البعيد للمستقبل. انعكست هذه الاستباقات على طبيعة الجملة السردية في «أنا أحيا»، وجاءت الجملة متسارعة الإيقاع، تعطي الانطباع باللهاث والجري، وتُشعرنا كأن لينا انتبهت فجأة إلى ذاتها المُغيَبة في الحاضر بمقتضى ذاتها المفعول بها، فأدرك وعيها ضرورة التعجيل بنشدان أفعال قريبة التحقق، يدعم هذا التخريج هيمنة أدوات العطف.
تعتبر البنية السردية في «أنا أحيا»، زمن كتابتها جد متقدمة على شكل البنية السردية التي كانت تشكل وضعية الرواية العربية، باعتماد ضمير الغائب، الذي يحضر عليما بالأحداث، وعارفا بالشخصيات، وساردا وحيدا ، يُلقي الحكاية في إطار زمن الماضي. ولعل «أنا أحيا» قد دشنت تجازوها لأسلوب الكتابة الروائية المألوفة بالتصريح بضمير المتكلم المفرد بالعنوان «أنا أحيا».
إن إعادة قراءة رواية ليلى بعلبكي، تجعلنا نعيد إنتاج بعض التصورات، التي يمكن اختزالها في اثنين: اختلاف شكل الكتابة الروائية في مرحلة معينة، يعود إلى كون السرد حالة ثقافية، سياقية. فالروائية ليلى البعلبكي، عندما وضعت سردا روائيا يختلف في بنيته السردية عن المألوف زمن كتابة روايتها، فذلك لكونها تأتي من سياق ثقافي، يخص وضعها الاجتماعي، باعتبارها امرأة تحضر إشكالية تاريخية، وتحضر ذاتها موضوعا منظورا إليه، ولهذا، عندما تكتب، فإنها تكتب انطلاقا من جغرافية وتاريخ الذات. ولهذا، فلم تكن مأخوذة بتوثيق تاريخ الذات – الإشكالية، وإنما بتشخيص الذات الحاضرة/ المستقبلية والمرتبطة بالفعل، التي تحولت إلى ضمير قائم بذاته.
ومن جهة ثانية، فقد ساهم فعل المرأة الكاتبة في التصرف في السرد بناء على موقعها ومنظورها، في تحرير الكتابة العربية من أحادية المنظور، وجعلها تنفتح على الاختلاف والتعدد. وإذا كانت رواية «أنا أحيا» قد اعتمدت على المحكي الذاتي، باعتباره إمكانية سردية تتماشى ووضعية ذات المرأة، وسمحت هذه التقنية للكتابة الروائية بأن تُسائل الذات، عوض اعتبارها مرجعا، وتنتقد موقعها عوض الانتصار لها، فإن الكتابة السردية العربية اليوم في كثير من التجارب، نراها تنفتح على هذا الشكل من حضور الذات باعتبارها موضوعا للتفكير، عبر مكون المحكي الذاتي.
كاتبة مغربية
زهور كرام

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe