عيسى الحلو: مرحلة ما بعد الحداثة هي مرحلة فوضى الكتابة (الجزيرة)
الجزيرة نت التقت بالروائي السوداني وحاورته عن تجربته الأدبية ورؤيته للمشهد الأدبي في السودان والعالم العربي:
ماذا تقول عن تجربة 50 عاما من الكتابة، هل أوصلك النص إلى شاطئ الحكمة؟
- الكتابة هي الحياة، أنت لا تصل مهما بلغت من العمر إلى الحكمة
المطلوبة، ولا إلى النموذج المكتمل. هنالك شيء ناقص، هل هو نحن أم هو
الواقع؟! ربما تأتي الإجابة بعد الموت علّنا نعرف ونحن هناك ما هي هذه
الحياة، ما هو هذا الثوب الذي كنا نلبسه وكانت أرواحنا تضج داخله، تريد أن
تمزقه وأن تخرج منه لكي تطير في السموات البعيدة، ولعلنا لهذا السبب (سبب
الطيران في الفضاءات البعيدة) نحن نضيع الوقت في كتابة النص دون أن نصل إلى
شيء.. أنا أندهش لنرجسية الفنان وأعتبرها طفولة، وأعتبرها سوء طبع.
ماذا يمكن أن نقول عن "البعد التجريدي" الذي لازم كتاباتك منذ مجموعتك القصصية الأولى "ريش الببغاء" ووصولا إلى روايتك الأخيرة "الورد وكوابيس الليل"؟
- في بداياتي كنت أجرّد الواقع، ربما لأن استعدادي الذهني كان أكبر من استعدادي العاطفي، ولهذا جاءت القصة عندي تجريدية -وهذا ما كتبه النقاد- ثم حاولت أن أعالج ما كنت أظنه في ذاك الوقت نقصا، فاتجهت لقراءة الواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية عند يوسف إدريس وتشيكوف، ورغم إعجابي بهما فإن مزاجي التجريدي ما زال ملازما لي.. فأنا دائما أقف عند الأسئلة الكبرى، تلك التي تحد من حرية الإنسان، كالموت والجوع والجنس والمرض.
وفي مراحل متأخرة اكتشفت أن الرواية الحديثة التي جاءت في أوائل القرن
عند موزيل وكافكا وبروخ وحتى التشيكي ميلان كونديرا والإيطالي ألبرتو
مورافيا هي عبارة عن أسئلة وجودية عميقة حول مقولات فلسفية، ولعل هذا يظهر
بوضوح في روايتي الأخيرة "الورد وكوابيس الليل"، وكل الكتاب الناضجين هم
كتاب أصحاب عوالم، وليم فوكنر الأميركي عالمه المسيسيبي الأدنى، أرنست
همنغواي عالمه تحمل الأذى والألم، عالم كافكا هو غرابة هذا العالم وغربة
الإنسان المعاصر وعزلته، أما ماركيز فهو الذي يبحث بشكل دائم عن الروح التي
تختفي وراء الأشياء.
هل هناك وصفة محددة لكتابة الرواية؟
- ليست هنالك وصفة لكتابة الرواية، نجيب محفوظ يقول هنا إن لديه "حوشا كبيرا" من قطع الإسبيرات وإنه يأخذ من هذه الإسبيرات ويؤلفها لتلائم سيارته.. وهو يقصد أنه ملم بنظرية الرواية العالمية في كل أطوارها التاريخية وأنه يكتب رواية في وسط ثقافي عربي ويأخذ من نظرية الرواية العالمية ما يلائم رواياته.
من هنا يبدو أن كاتب الرواية يلزمه الإلمام التقني والمهني بنظرية الرواية وتلزمه تجربة حياتية وجودية عميقة، وكل هذا -ما يعرفه الكاتب نظريا وما يعرفه تجريبيا- يطرح على بياض الورق في حوار أو جدل بين اللحظتين، لحظة ما قبل الكتابة ولحظة ما بعد الكتابة، فالنص الروائي ما بعد الحداثوي يكتشف نفسه أثناء الكتابة، ولهذا ليست هناك وصفة جاهزة، وعصرنا هذا عصر بلا مرجعية، فبعد أن جاءت التفكيكية أصبح النص عائما يؤسس لمرجعيته ومركزيته وفق نظر الروائي.
الاقتراب من المسكوت عنه أصبح صفة ملازمة للكتّاب الشباب، كيف تنظر إلى هذا التوجه؟
- الذين يكتبون الرواية الآن يعتقدون أنها بلا ضابط نقدي وفني، هم يريدون أن يكونوا مشهورين فقط، لم يتجهوا للشعر لأن القصور في الشعر يكون ظاهرا جدا، أما في هذه المعمعة (الرواية والسرد) فكل شيء يمكن، فرواية هابطة قد تصبح ذات شأن، ورواية ذات شأن قد تصبح هابطة لأن هنالك اضطرابا في المعايير وفي الذائقة وذلك لغياب النقد الأكاديمي الصارم ولأننا في مرحلة ما بعد الحداثة..مرحلة فوضى الكتابة.
وكيف ترى مستقبل المشهد السردي في عالمنا العربي؟
- هنالك حدث مهم في الحياة العربية المعاصرة هو الربيع العربي، كيف اشتعل وكيف يتشكل الآن، وما هي النهضة التي ينتظرها العرب بعد المشاريع السياسية العالمية الغربية على رسم خريطة للشرق الأوسط، خريطة جديدة يعاد فيها توزيع القوى والتوازنات التي تحقق المصالح الدولية، والتي بدأت تظهر الآن كحرب باردة جديدة ما بين القوتين العظيمتين، والتي تحاول أن تستقطب دولا تابعة لهذه أو تلك.
فكل الملامح السردية تظهر ههنا على هذا الأفق، فلم يعد ممكنا تقليد كبار الكتاب العرب أو الغرب، لم يعد ممكنا تقليد نجيب محفوظ أو الطيب صالح أو ماركيز أو كافكا مثلا، المطلوب هو رواية جديدة تشبه هذه اللحظة التاريخية الجديدة المتشابكة الأزمنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها.
فشروط الرواية العظيمة الآن أصبحت هي التكيف مع لحظة زمنية كبرى، ليست هي وصف ظاهري للحياة ولكنها نظر فلسفي عميق لهذا الجدل بين الراهن والقادم.
حاوره بالخرطوم/ محمد نجيب محمد علي
بدأ الروائي السوداني عيسى الحلو رحلته مع الكتابة مبكرا، ففي عامه
الرابع والسبعين يحتفل الكاتب المخضرم بمرور خمسين عاما قضاها في عالم
السرد، وكانت مجموعته القصصية "ريش الببغاء" باكورة أعماله عام 1963، آنذاك
اعتبرها النقاد تجربة مغايرة في المشهد السردي السائد وبشرت بميلاد كاتب
برؤية مختلفة.
ومثلت المجموعة انتقالا من كتابة القصة الواقعية إلى كتابة القصة
بأبعادها الذهنية والفلسفية، وجاءت إبداعات الحلو بعد ذلك تباعا حيث أنجز
أربع مجموعات وسبع روايات آخرها "الورد وكوابيس الليل" (2013) التي لا تزال
تثير الكثير من اللغط في أوساط النقاد، ويعمل الآن على كتابة رواية جديدة
بعنوان "المصوراتي" إلى جانب كتاب عن "فن الرواية".الجزيرة نت التقت بالروائي السوداني وحاورته عن تجربته الأدبية ورؤيته للمشهد الأدبي في السودان والعالم العربي:
ماذا تقول عن تجربة 50 عاما من الكتابة، هل أوصلك النص إلى شاطئ الحكمة؟
"كاتب الرواية يلزمه الإلمام التقني والمهني بنظرية الرواية وتلزمه تجربة حياتية وجودية عميقة"
ماذا يمكن أن نقول عن "البعد التجريدي" الذي لازم كتاباتك منذ مجموعتك القصصية الأولى "ريش الببغاء" ووصولا إلى روايتك الأخيرة "الورد وكوابيس الليل"؟
- في بداياتي كنت أجرّد الواقع، ربما لأن استعدادي الذهني كان أكبر من استعدادي العاطفي، ولهذا جاءت القصة عندي تجريدية -وهذا ما كتبه النقاد- ثم حاولت أن أعالج ما كنت أظنه في ذاك الوقت نقصا، فاتجهت لقراءة الواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية عند يوسف إدريس وتشيكوف، ورغم إعجابي بهما فإن مزاجي التجريدي ما زال ملازما لي.. فأنا دائما أقف عند الأسئلة الكبرى، تلك التي تحد من حرية الإنسان، كالموت والجوع والجنس والمرض.
"الذين يكتبون الرواية الآن يعتقدون أنها بلا ضابط نقدي وفني، هم يريدون أن يكونوا مشهورين فقط، لم يتجهوا للشعر لأن القصور في الشعر يكون ظاهرا جدا "
هل هناك وصفة محددة لكتابة الرواية؟
- ليست هنالك وصفة لكتابة الرواية، نجيب محفوظ يقول هنا إن لديه "حوشا كبيرا" من قطع الإسبيرات وإنه يأخذ من هذه الإسبيرات ويؤلفها لتلائم سيارته.. وهو يقصد أنه ملم بنظرية الرواية العالمية في كل أطوارها التاريخية وأنه يكتب رواية في وسط ثقافي عربي ويأخذ من نظرية الرواية العالمية ما يلائم رواياته.
من هنا يبدو أن كاتب الرواية يلزمه الإلمام التقني والمهني بنظرية الرواية وتلزمه تجربة حياتية وجودية عميقة، وكل هذا -ما يعرفه الكاتب نظريا وما يعرفه تجريبيا- يطرح على بياض الورق في حوار أو جدل بين اللحظتين، لحظة ما قبل الكتابة ولحظة ما بعد الكتابة، فالنص الروائي ما بعد الحداثوي يكتشف نفسه أثناء الكتابة، ولهذا ليست هناك وصفة جاهزة، وعصرنا هذا عصر بلا مرجعية، فبعد أن جاءت التفكيكية أصبح النص عائما يؤسس لمرجعيته ومركزيته وفق نظر الروائي.
الاقتراب من المسكوت عنه أصبح صفة ملازمة للكتّاب الشباب، كيف تنظر إلى هذا التوجه؟
"المطلوب هو رواية جديدة تشبه هذه اللحظة التاريخية الجديدة المتشابكة الأزمنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها"
- الذين يكتبون الرواية الآن يعتقدون أنها بلا ضابط نقدي وفني، هم يريدون أن يكونوا مشهورين فقط، لم يتجهوا للشعر لأن القصور في الشعر يكون ظاهرا جدا، أما في هذه المعمعة (الرواية والسرد) فكل شيء يمكن، فرواية هابطة قد تصبح ذات شأن، ورواية ذات شأن قد تصبح هابطة لأن هنالك اضطرابا في المعايير وفي الذائقة وذلك لغياب النقد الأكاديمي الصارم ولأننا في مرحلة ما بعد الحداثة..مرحلة فوضى الكتابة.
وكيف ترى مستقبل المشهد السردي في عالمنا العربي؟
- هنالك حدث مهم في الحياة العربية المعاصرة هو الربيع العربي، كيف اشتعل وكيف يتشكل الآن، وما هي النهضة التي ينتظرها العرب بعد المشاريع السياسية العالمية الغربية على رسم خريطة للشرق الأوسط، خريطة جديدة يعاد فيها توزيع القوى والتوازنات التي تحقق المصالح الدولية، والتي بدأت تظهر الآن كحرب باردة جديدة ما بين القوتين العظيمتين، والتي تحاول أن تستقطب دولا تابعة لهذه أو تلك.
فكل الملامح السردية تظهر ههنا على هذا الأفق، فلم يعد ممكنا تقليد كبار الكتاب العرب أو الغرب، لم يعد ممكنا تقليد نجيب محفوظ أو الطيب صالح أو ماركيز أو كافكا مثلا، المطلوب هو رواية جديدة تشبه هذه اللحظة التاريخية الجديدة المتشابكة الأزمنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها.
فشروط الرواية العظيمة الآن أصبحت هي التكيف مع لحظة زمنية كبرى، ليست هي وصف ظاهري للحياة ولكنها نظر فلسفي عميق لهذا الجدل بين الراهن والقادم.
Comments
Post a Comment