تأملات في صورة.. الصادق المهدي واتفاق باريس
اتفاق مهمّ، أعلن عنه، قبل أيام، في
باريس، بين الجبهة الثورية وحزب الأمة المعارض في السودان: "إعلان باريس
لتوحيد قوى التغيير ووقف الحرب وبناء دولة المواطنة". لقاءٌ هو الأول من
نوعه بين رئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، وقادة الجبهة الثورية المعارضة.
ومَن يتأمل فقط صورة الجمع عند التوقيع على الاتفاق، أو تلك في أثناء
الجلسات، يجدها تولّد معها جملة من التساؤلات عن مغزى هذا الاتفاق، وأي
مستقبل ينتظره، وهل سيحرك شيئاً في عجلة الحوار الوطني التي وضعت الحكومة
عصا غليظة، يستعصي معها كل حديث عن الحوار؟
تأمل في الصورة: الصادق المهدي يوقع الاتفاق، ومن خلفه ابنته مريم، التي هي نائب رئيس الحزب، وعلى يمينه نظيره في الاتفاق، مالك عقار، وعلى يساره عبد الواحد النور. عقار كان قد صدر، قبل أيام من وصول المهدي إلى باريس، تأييد للحكم عليه بالإعدام، صدر من إحدى محاكم النيل الأزرق في الجنوب الشرقي للسودان. ويشمل القرار القائد في الجبهة الثورية ومسؤول العلاقات الخارجية، ياسر عرمان. وكان المهدي نفسه قد تعرّض للاعتقال، ما أثار شكوكاً كثيفة على جديّة الحكومة السودانية في الحوار. اعتقال جاء على عكس المسار الطبيعي للحراك السياسي في السودان، ورأى فيه مراقبون مكافأة مجحفة للغاية من حكومة الرئيس عمر البشير في حق المهدي، بوصفه كان أكثر المتحمسين للحوار. صورة تضم قياداتٍ جعلتها صريحةً أن هذا النظام القائم في الخرطوم لا يعرف سوى لغة واحدة، هي لغة السلاح، وينبغي أن يتم تغييره بالسلاح وحده. فيما يعمل المهدي سنوات جاهداً، ويبذل المبادرة تلو الأخرى بلا كلل، زعماً منه أنها السبيل لتجنيب السودان ويلات الحرب الأهلية الشاملة.
أحد مؤشرات اللقاء المهمة أن الصادق، الذي كان دوماً رافضاً للحرب وداعياً للسلام، يجلس، اليوم، مع حَمَلة السلاح في المعارضة السودانية، والتي تخوض حرباً تمتد رقعتها من إقليم دارفور غرباً، مروراً بكردفان في الغرب الأوسط، وانتهاء بأقصى الجنوب الشرقي للسودان. وهذا حزام عريض هو، في الواقع، منبع مهم للخصب والثروة في السودان. وإلى ذلك، فإن اصطحاب المهدي ابنته مريم للّقاء، يؤشر إلى أنه يقدمها، رسمياً وللمرة الأولى، على أنها الزعيم المقبل للحزب، في مهمتها الرسمية برفقته شخصياً. والمفارقة أن مريم تقترب كثيراً في رؤيتها السياسية من الجبهة الثورية، على عكس رؤية والدها.
الصادق المهدي في باريس يصطحب ابنته التي عُرف عنها مصادمتها الشُجاعة لحكم عمر البشير، وهذا أعلى منبر، يمكن أن يقدم من خلاله ابنته خليفته المستقبلية على قيادة الحزب الأكبر في السودان، وهي التي يعتبرها بعضهم المعبّر الأقرب عن مزاج شباب حزب الأمة الرافض للتقارب الذي يسعى إليه الصادق مع حزب المؤتمر الوطني (الحاكم)، باعتباره قرباً ضاراً بمسيرة حزب الأمة الذي يرون أن من الطبيعي أن يكون في الطليعة المُصادِمة للنظام، وترفض الحوار، حتى بعدما ارتضاه زعيم الحزب، الصادق المهدي. لكن صورة المهدي في لقاء باريس غاب عنها ابن عمه وأحد قادة الجبهة الثورية، نصر الدين الهادي المهدي، والذي كان يشغل منصبه نائباً لرئيس حزب الأمة، عندما أعلن الصادق فصله من الحزب، لا لشيء، إلا لأنه جاء ممثلاً لحزب الأمة في التنسيق مع الجبهة، وظل بها قائداً من قادتها، ورافضاً التقارب الذي أراده وسعى إليه الصادق مع المؤتمر الوطني. والسؤال الذي يلح هو عن المقصد الحقيقي للصادق المهدي من هذه الخطوة. هل يريد أن يرسل للبشير وحكومته رسالة واضحة أن الكيل قد فاض، وأنه لم يعد يؤمن بالحوار السلمي، وأن التغيير الذي ظل ينشده سلمياً بات من الماضي؟ أم أنه على النقيض من هذا، أنه جاء يحمل ورقة السلام التي يفضّلها، ومن ثم جر الجبهة الثورية إليها؟ وفي الواقع، إن رحلة الصادق إلى باريس، بالنسبة لكثيرين، هي نذير بؤس على الجبهة الثورية. فالرجل هذه طبائعه، شاء أم لم يشأ، فالتجربة دللت على أنه أقرب فكراً، وأشد حدباً على استمرار نظام عمر البشير، مع تغييرٍ يصيب المظهر، لا الجوهر.
وبكلمةٍ أخرى، إنه يريد، في باريس، أن يبني نظاماً جديداً على الموجود، ووفق رؤيته لدولة إسلامية، وهو ما يتّفق عليه المهدي شخصياً مع "الإخوان المسلمين"، أي "المؤتمر الوطني" (الحاكم)، بوجهه الجديد، ومنذ ولوجه الحقل السياسي، أول مرة، عقب الثورة الشعبية التي أطاحت نظام الفريق إبراهيم عبود. من باريس، يبدو الاتفاق بالنسبة للصادق المهدي "التغيير الديمقراطي وبناء السلام ووقف الحرب"، بمعنى أنه يسير على درب الحوار الحكومي. وبمعنى آخر، هي خطوة يمكن النظر إليها على أنها وساطة بين الحكومة والجبهة الثورية، ولكن من دون أن يحصل على مقابل من الحكومة التي تصر على مسار خاطئ تماماً. وأبرز دليل أنها تعلن، عشية سفره إلى باريس، تأييد الإعدام على مَن يمثلون أهم قوة معارضة للحكم. في المقابل، توضح الجبهة موقفها، كما قال رئيسها عقار "لن يكون هناك أي حوار جاد وحل حقيقي، من دون العمل على إنهاء النزاعات في السودان، عبر سلام حقيقي وشامل وعادل". وهو أمر تبتعد الخرطوم كثيراً عنه عملياً. ويبدو عرمان أكثر وضوحاً عندما قال: "لا صلة للاتفاق بين المهدي والجبهة الثورية، ولا علاقة له من قريب أو بعيد، بالعمل المسلح".
وفي نهاية المطاف، فإن اتفاق باريس، في عمومياته، لا يختلف عن أي اتفاق آخر وقعته القوى المعارضة من قبل. والمهم الكيفية التي سيترجم بها هذا الاتفاق من جانب المهدي، إذا ما اعتبرنا أنه جاء يحمل عرضاً مبطناً من الحكومة، ومن الحكومة نفسها، كيف ستنظر إليه، وهو يقدم لها فرصة ذهبية لحوار حقيقي. وثمة إشارة مهمة صدرت عن الغائب عن الحوار، نصر الدين المهدي، الذي بدا يائساً من الاتفاق مع الصادق المهدي، وطالبه بتحديد موقفه جلياً. كيف يعارض ويرفض حكماً يصفه بأبشع النعوت، وابنه عبد الرحمن مستشار للرئيس عمر البشير؟ هذا التناقض الصارخ في الواقع جزء من معضلةٍ تعيشها السياسة في السودان منذ عقود، وبطلها من دون منازع الصادق المهدي. هي صورة معقدة التركيب، تركها المهدي في باريس، فكيف سيكون حالها في الخرطوم؟
تأمل في الصورة: الصادق المهدي يوقع الاتفاق، ومن خلفه ابنته مريم، التي هي نائب رئيس الحزب، وعلى يمينه نظيره في الاتفاق، مالك عقار، وعلى يساره عبد الواحد النور. عقار كان قد صدر، قبل أيام من وصول المهدي إلى باريس، تأييد للحكم عليه بالإعدام، صدر من إحدى محاكم النيل الأزرق في الجنوب الشرقي للسودان. ويشمل القرار القائد في الجبهة الثورية ومسؤول العلاقات الخارجية، ياسر عرمان. وكان المهدي نفسه قد تعرّض للاعتقال، ما أثار شكوكاً كثيفة على جديّة الحكومة السودانية في الحوار. اعتقال جاء على عكس المسار الطبيعي للحراك السياسي في السودان، ورأى فيه مراقبون مكافأة مجحفة للغاية من حكومة الرئيس عمر البشير في حق المهدي، بوصفه كان أكثر المتحمسين للحوار. صورة تضم قياداتٍ جعلتها صريحةً أن هذا النظام القائم في الخرطوم لا يعرف سوى لغة واحدة، هي لغة السلاح، وينبغي أن يتم تغييره بالسلاح وحده. فيما يعمل المهدي سنوات جاهداً، ويبذل المبادرة تلو الأخرى بلا كلل، زعماً منه أنها السبيل لتجنيب السودان ويلات الحرب الأهلية الشاملة.
أحد مؤشرات اللقاء المهمة أن الصادق، الذي كان دوماً رافضاً للحرب وداعياً للسلام، يجلس، اليوم، مع حَمَلة السلاح في المعارضة السودانية، والتي تخوض حرباً تمتد رقعتها من إقليم دارفور غرباً، مروراً بكردفان في الغرب الأوسط، وانتهاء بأقصى الجنوب الشرقي للسودان. وهذا حزام عريض هو، في الواقع، منبع مهم للخصب والثروة في السودان. وإلى ذلك، فإن اصطحاب المهدي ابنته مريم للّقاء، يؤشر إلى أنه يقدمها، رسمياً وللمرة الأولى، على أنها الزعيم المقبل للحزب، في مهمتها الرسمية برفقته شخصياً. والمفارقة أن مريم تقترب كثيراً في رؤيتها السياسية من الجبهة الثورية، على عكس رؤية والدها.
الصادق المهدي في باريس يصطحب ابنته التي عُرف عنها مصادمتها الشُجاعة لحكم عمر البشير، وهذا أعلى منبر، يمكن أن يقدم من خلاله ابنته خليفته المستقبلية على قيادة الحزب الأكبر في السودان، وهي التي يعتبرها بعضهم المعبّر الأقرب عن مزاج شباب حزب الأمة الرافض للتقارب الذي يسعى إليه الصادق مع حزب المؤتمر الوطني (الحاكم)، باعتباره قرباً ضاراً بمسيرة حزب الأمة الذي يرون أن من الطبيعي أن يكون في الطليعة المُصادِمة للنظام، وترفض الحوار، حتى بعدما ارتضاه زعيم الحزب، الصادق المهدي. لكن صورة المهدي في لقاء باريس غاب عنها ابن عمه وأحد قادة الجبهة الثورية، نصر الدين الهادي المهدي، والذي كان يشغل منصبه نائباً لرئيس حزب الأمة، عندما أعلن الصادق فصله من الحزب، لا لشيء، إلا لأنه جاء ممثلاً لحزب الأمة في التنسيق مع الجبهة، وظل بها قائداً من قادتها، ورافضاً التقارب الذي أراده وسعى إليه الصادق مع المؤتمر الوطني. والسؤال الذي يلح هو عن المقصد الحقيقي للصادق المهدي من هذه الخطوة. هل يريد أن يرسل للبشير وحكومته رسالة واضحة أن الكيل قد فاض، وأنه لم يعد يؤمن بالحوار السلمي، وأن التغيير الذي ظل ينشده سلمياً بات من الماضي؟ أم أنه على النقيض من هذا، أنه جاء يحمل ورقة السلام التي يفضّلها، ومن ثم جر الجبهة الثورية إليها؟ وفي الواقع، إن رحلة الصادق إلى باريس، بالنسبة لكثيرين، هي نذير بؤس على الجبهة الثورية. فالرجل هذه طبائعه، شاء أم لم يشأ، فالتجربة دللت على أنه أقرب فكراً، وأشد حدباً على استمرار نظام عمر البشير، مع تغييرٍ يصيب المظهر، لا الجوهر.
وبكلمةٍ أخرى، إنه يريد، في باريس، أن يبني نظاماً جديداً على الموجود، ووفق رؤيته لدولة إسلامية، وهو ما يتّفق عليه المهدي شخصياً مع "الإخوان المسلمين"، أي "المؤتمر الوطني" (الحاكم)، بوجهه الجديد، ومنذ ولوجه الحقل السياسي، أول مرة، عقب الثورة الشعبية التي أطاحت نظام الفريق إبراهيم عبود. من باريس، يبدو الاتفاق بالنسبة للصادق المهدي "التغيير الديمقراطي وبناء السلام ووقف الحرب"، بمعنى أنه يسير على درب الحوار الحكومي. وبمعنى آخر، هي خطوة يمكن النظر إليها على أنها وساطة بين الحكومة والجبهة الثورية، ولكن من دون أن يحصل على مقابل من الحكومة التي تصر على مسار خاطئ تماماً. وأبرز دليل أنها تعلن، عشية سفره إلى باريس، تأييد الإعدام على مَن يمثلون أهم قوة معارضة للحكم. في المقابل، توضح الجبهة موقفها، كما قال رئيسها عقار "لن يكون هناك أي حوار جاد وحل حقيقي، من دون العمل على إنهاء النزاعات في السودان، عبر سلام حقيقي وشامل وعادل". وهو أمر تبتعد الخرطوم كثيراً عنه عملياً. ويبدو عرمان أكثر وضوحاً عندما قال: "لا صلة للاتفاق بين المهدي والجبهة الثورية، ولا علاقة له من قريب أو بعيد، بالعمل المسلح".
وفي نهاية المطاف، فإن اتفاق باريس، في عمومياته، لا يختلف عن أي اتفاق آخر وقعته القوى المعارضة من قبل. والمهم الكيفية التي سيترجم بها هذا الاتفاق من جانب المهدي، إذا ما اعتبرنا أنه جاء يحمل عرضاً مبطناً من الحكومة، ومن الحكومة نفسها، كيف ستنظر إليه، وهو يقدم لها فرصة ذهبية لحوار حقيقي. وثمة إشارة مهمة صدرت عن الغائب عن الحوار، نصر الدين المهدي، الذي بدا يائساً من الاتفاق مع الصادق المهدي، وطالبه بتحديد موقفه جلياً. كيف يعارض ويرفض حكماً يصفه بأبشع النعوت، وابنه عبد الرحمن مستشار للرئيس عمر البشير؟ هذا التناقض الصارخ في الواقع جزء من معضلةٍ تعيشها السياسة في السودان منذ عقود، وبطلها من دون منازع الصادق المهدي. هي صورة معقدة التركيب، تركها المهدي في باريس، فكيف سيكون حالها في الخرطوم؟
Comments
Post a Comment