حجي جابر .. من أين يأتي كرم الله بحكاياته؟
31 August 2014 0 123
منذ أعوام قرأتُ مجموعة قصصية صدرت العام 2005 لكنها لم تفارقني من حينها، ولفرط إلحاحها عليّ، هأنذا أحاول الكتابة عنها، وطعمها في فمي، كأني انتهيت منها للتو.
أتحدث هنا عن القاص السوداني عبدالغني كرم الله ومجموعته القصصية البديعة «آلام ظهر حادة» التي أعارني إياها أستاذنا صديق محيسي على وعد مني أن أفرغ منها وأعيدها إليه سريعاً.
لكني وبمجرد الشروع في القراءة ندمتُ على وعدي المتعجّل ذاك، فقد شعرتُ أني أمام عمل لا ينبغي أن يبارح مكتبتي أبداً إلا ليُقرأ من جديد قبل أن يعود إليها.
القصة الرئيسية التي حملت اسم المجموعة تحكي قصة حذاء رجالي أنيق مقاس 42 ممتلئ الوجنات وليّن البطن والظهر، يحلم بألا يطول مقامه في معرض الأحذية دون أن يُباع،لكنه في الوقت عينه لا يرغب في رفقة متعبة، وأقدام خشنة، بل يتمنى أن يكون من نصيب أقدام رحيمة مرفّهة لا تجرّه إلى الطرق الوعرة الجارحة.
تمرّ الأيام وتبتاعه سيدة لتهديه إلى حبيبها الذي يعتني به كثيرا ولا يرتديه إلا لموعده الغرامي، ويحتفظ به في غرفة النوم، فيحقق الحذاء بذلك حلمه ويعيش عيشة رغدة، ويتقلّب في نعيم صاحبه، قبل أن تحدث الفاجعة ويتعرض المنزل للسطو ويكون الحذاء المنعّم من ضمن غنائم اللص، وهنا تنقلب حياة الحذاء رأساً على عقب، فبعد حياة الترف والاستخدام المحدود، والإقامة في غرفة النوم في حي راقٍ، هاهو ينتقل إلى رهق العيش وقد انتعله اللص وأخذ يطوف به الأحياء المقفرة، بشوارعها الطينية المتسخة.
لكن ذلك كله يهون أمام ما كان ينتظر الحذاء، فهو يُسرق مرة جديدة وهذه المرة من حدّاد يقود دراجة هوائية، فأصبح الحذاء يصطلي تارة بما تقذفه آلة الحدادة من لهب، وتارة تنغرس في ظهره دواسّة الدراجة العارية حتى أصابته بآلام ظهر حادة.
رحلة الحذاء هذه يظهر عبرها السودان بكل فئاته وطبقاته، وهي حيلة بديعة لتشريح المجتمع السوداني ونقل تناقضاته التي لفرط حضورها يتعايش معها السودانيون بشكل طبيعي.
إلى جوار هذه القصة تحضر قصص أخرى لا تقلّ جمالا وجميع أبطالها «أشياء»: كلبة فاطمة- حمار، الواعظ- رائحة الطمي، وغيرها، حكايات يأتي على هامشها الإنسان ظاهرياً، لكنه في الحقيقة يسكن صلب فكرتها، ويتغذى عليه مغزاها العميق.
ولا يحتاج القارئ لكثير جهد قبل أن يهتدي إلى أن أعمال عبدالغني كرم الله يقف خلفها تأمل طويل، ونفَس فلسفي، لكن فرادة كرم الله تأتي من قدرته على تسخير أفكاره «الكبيرة» بطريقة سهلة ممتعة، كما هو الحال في قصة الحذاء التي تستبطن كثيرا من نظريات علم الاجتماع، أو « كلبة فاطمة» التي تعرض للحظة هزيمة الديكتاتور الذي يسكننا بحيث نصبح أصغر من أصغر شخص كنا نضطهده، إلى بقية قصص المجموعة الآخذة من علم النفس والفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع.
ثم هناك لغة عبدالغني كرم الله المغتسلة بالتصوف وأجوائه الروحانية، وهنا أزعم أن ما يقدمه كرم الله في هذا الصدد أصيل وليس مبتذلا. فهو بكتاباته كالخارج لتوّه من إحدى «الحضرات» بعمامة ملوّنة، بينما البخور الكثيف في تموّجه يُظهر ملامح وجهه تارة ويحجبها تارة أخرى. الآن ربما وبعد هذه الأعوام، يجدر بي أن أسأل عبدالغني كرم الله: من أين تأتي بحكاياتك يا رجل؟
Comments
Post a Comment