مائة عام على الحرب الكونية الأولى: البؤر الساخنة تنذر باندلاع حروب جديدة
مكتب الميادين في واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات
الأميركية والعربية يستعرض الأسباب الكامنة وراء اندلاع الحرب العالمية
الأولى بعيداً من الروايات الرسمية، ويحاول إثبات أن بذور قيام حرب أخرى لا
تقل ضراوة وعنفاً وتمزيقاً موجودة في الوطن العربي والشرق الأوسط.
يصادف اليوم الأول من رمضان 1435 ه، السبت 28 حزيران
2014، الذكرى المئوية لحادثة أدت لاندلاع الحرب العالمية الأولى، وفق الروايات
الرسمية لمراكز النظام الرأسمالي، التي تحددها بعملية اغتيال فرانز فرديناند،
الدوق الأكبر والوريث لعرش الامبراطوية الهنغارية النمساوية، تتلطى وراءها لتحجب
الصراع المرير بين مراكز رأس المال للسيطرة وبسط الهيمنة والنفوذ. إذ أثبتت حادثة
اغتيال فردية على قدرتها في استدراج عدد من القوى الكبرى إلى حرب طاحنة أدت لهلاك
ملايين البشر وتدمير مجتمعات بأكملها أسست تداعياتها لحالات عدم الاستقرار الراهنة
والسيطرة والنفوذ الأجنبي على مقدرات وخيرات الشعوب الأخرى. كما أدى حادث الاغتيال
إلى سقوط القيصرية في روسيا واندلاع الثورة الاشتراكية التي أرست عناصر الحرب
الباردة بعد عدة عقود من الزمن؛ وبروز الفاشية بقيادة هتلر في المانيا وسعيه
للسيطرة على الشعوب الأخرى مما أدى إلى اندلاع حرب كونية ثانية أشد قسوة وإيلاماً
ودماراً من سابقتها.
إتسمت الفترة الزمنية التي اغتيل فيها فرديناند
بعصر ساد فيه السلم بين الدول والقوى العالمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن
الدولتين الجارتين فرنسا والمانيا لم تشتبكا في حرب منذ عام 1870؛ كما شهد تقارب
بين القوى الأوروبية الأخرى: بريطانيا والمانيا وروسيا القيصرية نظراً لتشابك
العلاقات بين العائلات التي حكمتها آنذاك.
وفي الرواية الرسمية، شكل اغتيال فرديناند نقطة
فاصلة غيرت سمات العصر: إشتعلت منطقة البلقان وتنافست الدول الإستعمارية الأوروبية
على بسط نفوذها وسيطرتها على موارد الشعوب الأخرى، ممثلة بالمناطق الواقعة تحت
سيطرة الامبراطورية الهنغارية النمساوية والامبراطورية العثمانية والامبراطورية
الروسية. فالأولى إستغلت الحادثة لبسط سيطرتها ونفوذها على مناطق أخرى في البلقان،
وطالبت سراييفو عاصمة الدولة الصربية، مكان حادثة الاغتيال، بتقديم تنازلات مذلة
والتي أدى رفضها الخضوع لجارتها إلى اعلان الحرب عليها، وكرت السبحة بعد ذلك
بإعلان الحرب على دول أقل شأناً ونفوذاً مهدت الأرضية لاندلاع الحرب الكبرى.
أما الامبراطورية الروسية، حليفة صربيا، فأعلنت من
جانبها الحرب على الامبراطورية الهنغارية النمساوية؛ تلتها المانيا بإعلان الحرب
على روسيا؛ وفرنسا أعلنت الحرب على جارتيها لدعم حليفتها الروسية؛ وأعلنت بريطانيا
الحرب على المانيا بعد غزو الأخيرة لبلجيكا في طريقها لاحتلال فرنسا.
من شأن الباحثين والمؤرخين النظر بأوجه الشبه بين
ظروف الأمس واليوم، وما باستطاعتنا مقارنته بما يحدث في الوطن العربي من حروب
وتمزيق وتفتيت مبرمج للمجتمعات وتفكيك الدول الوطنية. آنذاك، عرف عن منفذ الاغتيال
صربي الأصل، غافريلو برينسيب، انتماءه السياسي المتطرف؛ اليوم، تعج المنطقة
بالتشدد السياسي والديني وتكفير الآخر وقلب للأولويات مما قد يؤدي إلى إشعال فتيل
الانفجار الشبيه بحادث سراييفو. البلقان آنئذ كانت على برميل بارود قابل للانفجار؛
الوطن العربي برمته يجلس على برميل بارود يشتعل بنزاعات وصدامات تتزايد وطأتها
وحدتها بوتيرة متسارعة، وكذلك لموقعه الجيوسياسي المميز وتضارب مصالح الدول الكبرى
والصغرى في السيطرة الحصرية على موارده ومستقبله.
عند توجهنا لإلقاء نظرة على جملة من السيناريوهات
التي من شأنها أن تشكل فتيل انفجار واسع في الاقليم نجد ما يلي:
مضيق هرمز
تعاظمت أهمية وحيوية مضيق هرمز بالنسبة للتجارة
العالمية وتدفق النفط الخام وتعبره 20-30 ناقلة نفط يومياً، بمعدل ناقلة كل 6
دقائق في ساعات الذروة، محملة بنحو 40% من صادرات النفط المنقول بحراً على مستوى
العالم. وسبق أن هددت إيران مراراً بإغلاق المضيق في حال تعرضت أراضيها لعدوان
غربي- اسرائيلي وسارعت الأوساط السياسية والتجارية الدولية إلى نفخ نذير الحرب أن
تفاقمت الأوضاع.
جملة عناصر وأحداث من شأنها إشعال فتيل الانفجار
وإغلاق المضيق، أبرزها تحرك أميركي –اسرائيلي - اوروبي مشترك يتعرض لجهود إيران
النووية، على رأسها شن اسرائيل هجوم على المنشآت النووية الايرانية – والذي سيقتضي
ضوءاً اخضراً اميركياً بالضرورة. بالمقابل سترد إيران بإطلاق وابل من الصواريخ
والقذائف الباليستية ضد مصدر العدوان ترافقه باغلاق المضيق أمام الملاحة التجارية
وحركة الأسطول الأميركي في مياه بحر العرب والخليج العربي، وتعزيز مواقعها العسكرية
الراهنة في جزر الطنب وأبو موسى.
سيرد حلف الناتو بالاشتراك مع أميركا بنشر قوات
عسكرية مهمتها إعادة فتح المضيق أمام حركة الملاحة، والتي بمجموعها تستطيع الحاق أضراراً
مادية جسيمة في الجانب الإيراني الذي سيلجأ لتوسيع رقعة الاشتباك باستهداف مواقع
ومصالح غربية أخرى في الإقليم: القواعد العسكرية الاميركية وآبار النفط في دول
الخليج إضافة إلى إسرائيل التي سترد بدورها بقوة ولا يستبعد لجوئها لاستخدام رؤوس
نووية ضد إيران.
ويتوقع الخبراء الاستراتيجيون بقاء كل من روسيا
والصين خارج ساحة الصدام في بداية الأمر، ومن المرجح انخراط سوريا وحزب الله،
حلفاء ايران، في القتال بشن هجمات صاروخية وربما عمليات توغل في منطقة الجليل المحتل
من فلسطين. حينئذ لا تملك إاسرائيل خياراً سوى الرد وتوسيع رقعة الاشتباك من سواحل
البحر المتوسط إلى مياه الخليج العربي.
تجمع كافة الأطراف أن تداعيات مثل ذلك الاشتباك
ستكون هائلة بكل المستويات، وقد تشهد نتائج شبيهة بتلك التي سادت إبان الحرب
الكونية الأولى من سقوط نظم وعائلات حاكمة تستبدل بنظم اشد جذرية وتوجهاً. في
مستوى الخسائر البشرية يتوقع أن ترتفع لأعداد ضخمة نتيجة دخول أسلحة دمار شامل
متعددة وانتشار ردود الفعل إلى خارج حدود الإقليم.
آفاق حدوث إنقلاب محلي في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي
العائلات الحاكمة في مجمل دول الخيلج العربي
تتداول الحكم بالوراثة ويزداد الشرخ اتساعاً بين امتيازاتها شبه المطلقة وأوضاع
مواطنيها المتردية، ويذكرنا التاريخ الحديث بعدة محاولات إنقلاب قامت ضدها وفشلت،
بيد أن ذلك لا يعني أن المحاولات قضي عليها أو تم وأدها.
العائلات الحاكمة في السعودية والبحرين هي
الأكثر عرضة للانقلابات التي سيرحب بها حين وقوعها وستنال اعترافاً رسميا من
إيران، على الأقل، التي قد تحرك بعض وحداتها العسكرية لدعم وتعزيز السلطات
الجديدة. الخطوة الايرانية المفترضة قد تدفع دول الخليج الأخرى إلى إدخال قواتها
ايضاً "استجابة لنداء الأخوة في العائلة الحاكمة" للسيطرة على منابع
النفط، وقد تتحرك القوات العسكرية للدول الغربية تحت ستار "المحافظة على تدفق
منابع النفط" للأسواق الأوروبية، مما سينجم عنه اندلاع حرب تقليدية واسعة
تشمل كافة منطقة الخليج.
تعدد الأطراف المنخرطة ومصالحها المختلفة في
القتال يعزز الشكوك بأن طبيعة الحرب قد تخرج عن سيطرة القتال بالوسائل التقليدية،
وتتجه نحو مزيد من التصعيد فيما لو نجحت إيران بإغلاق مضيق هرمز ليس أمام حركة
الملاحة فحسب، بل لإعاقة أي تعزيزات لقوات حلف الناتو لصالح القوى التقليدية في
الخليج. الإبقاء على هذا الشكل من الصراع يستبعد انخراط اسرائيل وتراجع احتمالات
تطور الصراع إلى إدخال السلاح النووي أرض المعركة.
العراق، سوريا و"داعش"
ما يشهده العراق من اندلاع واسع للقتال يحمل بين
ثناياه إمكانية تطوره إلى قتال وأزمة كبيرة، تنخرط فيه أطراف متعددة، لا سيما
الأكراد وداعش وإيران، وحكومتي سوريا والعراق، فضلاً عن القوى المتشددة وداعميها
الاقليميين والدوليين التي تتطلع للسيطرة على أهم مرتكزات الهلال الخصيب جغرافياً
وسياسياً.
محصلة الواقع الميداني تشير إلى عدم قدرة طرف
بمفرده على حسم نتيجة المعركة: فحلف ايران وسوريا والعراق يسيطر على العواصم
والمدن الكبرى، أما المناطق الريفية الأوسع فهي خارجة عن سلطة الدولة المركزية.
تنظيم "داعش" استطاع السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي في العراق
وسوريا، بيد أن فكره الاقصائي المتشدد لم يسعفه في إحراز قاعدة دعم كان يرجوها بين
السكان، مما يعد في العلم العسكري هزيمة صافية. بعض القوى المتشددة والتكفيرية الأخرى
تجد ملاذاً ودعماً لها في أنظمة ودول الخليج العربي ولم تستطع ترجمة نفوذها المادي
إلى انتصارات ميدانية تنسبها لنفسها. المستفيد الأكبر في المرحلة الراهنة هو الأكراد
ممثلين بحكومة الإقليم الكردي في العراق يستغلون الفرصة لتعزيز مدى نفوذهم وقبضتهم
على باقي مناحي كردستان العراق طمعاً في إنشاء دولة مستقلة على أنقاض العراق بعد
تفكيكه.
وجدير بالذكر أن تنظيم "داعش" يشن حربه
على جبهتين متزامنتين في العراق وسوريا معاً، وتعثرت مسيرته عن التقدم في أرض
السواد، مما حفز الاستراتيجيين من القادة العسكريين القول إن من مصلحة تنظيم "داعش"
تحويل قواه وموارده العسكرية إلى الساحة السورية بغية إلحاق الهزيمة بالميلشيات
السورية الأخرى والحكومة السورية على السواء، والتحول ثانية إلى العراق بقوة
إضافية بعد تحقيقه أهدافه في سوريا.
ممارسات تنظيم "داعش" في كل من العراق
وسوريا لا تدل على توفر نية لديه توخي نصائح القادة العسكريين، بل وسع دائرة توغله
وتفجيراته غرباً للساحة اللبنانية، مزهواً بالكم العالي من الأسلحة والعربات
والمعدات التي غنمها من الجيش العراقي عند بدء غزوته. تطور فريد على الجبهة
الاعلامية دفع مشغلي وممولي "داعش" إلى التحذير من أخطار تمدده في الإقليم،
بالتساوق مع طرفي مواجهته الرئيسيين سوريا والعراق، الأمر الذي سيعزز طرفي الصراع
من دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا والاردن، من جانب، وروسيا وايران من جانب آخر
الى ضخ المزيد من وسائل الدعم والقتال لابقاء الصراع مشتعلا في سوريا وحصد مزيد من
الارواح والدمار – الانجاز الوحيد الذي حققه معسكر خصوم سوريا.
تحذير الدول الداعمة لتنظيم "داعش" من
خطر تمدده وتهديده لعواصمهم ينذر باتساع رقعة الحرب التقليدية في الاقليم، خاصة في
ظل مؤشرات تدل على وضع "داعش" نصب عينيه منطقة الحدود العراقية مع
الجزيرة العربية بالتزامن ايضاً مع دعوات قوى وتيارات مناهضة للحكومة العراقية
بضرورة توفير الدعم والحماية لداعش مما اثار هلع الاجهزة الأمنية السعودية وبقية
دول الخليج لإدراكها مسبقاً أنها لن تستطيع الدخول في اشتباك داخل حدودها نظراً
للتعقيدات الاجتماعية والولاءات العشائرية التي رسختها منذ زمن بدل الولاء للوطن.
وعليه سارع الاردن إلى التحرك العاجل و"تحصين" حدوده مع العراق تحسباً
لأي طارىء.
تصاعد أوجه الصراع يرجح تدخل الكيان الصهيوني إلى
مستويات أبعد مما ثبت حتى الآن بتوفير دعم واسناد لوجستي لقوى المعارضة السورية
تستغل فرصة انشغال الجيش العربي السوري في محاربة الارهاب وتدفعه خارج جبهة
الجولان توطئة لانشاء منطقة عازلة هناك تحمي الكيان الصهيوني. في هذا الصدد،
واستنادا الى ان اولويات الكيان الصهيوني ودول "مجلس التعاون" بالاضافة
الى تركيا والاردن هي في تقويض اسس الدولة والكيان السوري، فليس من المستبعد ان
تقدم مجتمعة على محاربة تنظيم داعش مجددا في العراق ودعمه لحصر نطاق عملياته في
سورية، وربما في لبنان لخلط الاوراق مجددا هناك وابقاء جذوة الصراع ملتهبة.
كردستان العراق
أطماع تركيا في العراق وخيراته ليست وليدة اللحظة،
بل لا زالت المناهج التربوية التركية تحت ظل حكومة "حزب الحرية
والعدالة" تشير إلى محافظة الموصل كمقاطعة تركية ينبغي عودتها لحضن الدولة.
الأمر الذي أسهم في توقيت دعمها الراهن لحكومة إقليم كردستان العراق لإنشاء كيانه
المستقل مقارنة مع موقف تركيا الثابت سابقاً بالتهديد بغزو المنطقة في حال اقدم
الاكراد على مثل تلك الخطوة درءا لمطالبة اكراد تركيا بالمثل.
المتغيرات الاقليمية والتطورات الدولية ستقف حاجزا
مانعا امام اعلان دولة كردية مستقلة بشكل رسمي، بيد ان عدد من الاطراف ابرزها
تركيا والكيان الصهيوني ستواصل دعمها لتوطيد استقلال كردستان العراق غير عابئة
بالمناخ الدولي لاعتقادها ان ذلك يقوض وحدة وتماسك العراق. وجود تنظيم داعش
وتداخله مع المناطق الكردية قد يدفع بحكومة اقليم كردستان الى التفاهم معه بشأن
وقف اطلاق النار وحفزه لتسخير قواته الى جبهات اخرى بمواجهة تركيا وايران،
وبالتالي مواصلة تهديده لكل من بغداد ودمشق.
سوريا: إنهيار أو إنقلاب أو إغتيال الرئيس الأسد
خصوم سوريا الاقليميون والدوليون اعربوا بصريح
العبارة عن سعيهم للاطاحة بالرئيس الاسد اغتيالا، منذ بدء الازمة، وفشلوا في ذلك؛ استنادا
الى ادراك القوى الكبرى المحركة لقوى الارهاب لأهمية
ومحورية سوريا بقيادة الرئيس الأسد والتزامها الصارم بوحدة الأمة ودعمها اللامحدود
لقوى المقاومة لا سيما المحيطة بفلسطين المحتلة – اقليم سورية الجنوبي. اما جدلا
فان غياب الرئيس الاسد تحديدا دون غيره من القادة العرب عن الساحة سيوفر الفرصة
التي انتظرها خصوم سورية وقد يؤدي الى اشعال فتيل صراع اشمل في الاقليم، شبيه
بالظروف التي ادت الى غياب الدوق الاكبر فرانز فرديناند، نظرا لتعقيدات
الوضع الدولي وبروز قوى مؤثرة خارج السيطرة الاميركية والغربية، من جانب، وانكفاء
القوة الاميركية التقليدية من جانب آخر، فضلا عن هشاشة اوضاع حلفائها الاقليميين
في دول الخليج العربي وازمة الكيان الصهيوني، اليد الضاربة تقليديا.
المعارضة السورية المرتهنة للخارج وتشكيلاتها
المسلحة، لا سيما تنظيم داعش، لا تزال تأمل في غياب الرئيس الاسد، بصورة او باخرى،
بيد ان مشغليها الاقليميين والدوليين سيحتفظون بالقرار والتحكم، وربما سيكون
المستفيد الاكبر من بينها هو تنظيم داعش نظرا للامكانيات والموارد الواسعة التي
تقع تحت سيطرته، ليس اقلها آبار ومنابع النفط في سورية. وعليه، ستذهب خطط المشغلين
لتدريب وتسليح مزيد من قوى المعارضة ادراج الرياح امام قوات داعش التي لن تسمح
لأحد بمنافستها. هذا السيناريو يفترض ايضا قيام الكيان الصهيوني التحرك لقضم مزيد
من الاراضي السورية وانشاء منطقة عازلة مترامية الاطراف.
الأوضاع في مناطق أخرى من العالم
لا يجادل احدٌ في ترابط الاوضاع الدولية بعضها
ببعض، تشهد عليه صراعات القوى الكبرى ابان الحربين العالميتين. في الحرب الكونية
الاولى صعد نجم المانيا، لا سيما في افريقيا، عند توقيع اتفاقيات الهدنة بين القوى
المتصارعة، ونقلت سيطرتها على مستعمرات في المحيط الهاديء الى حليفتها اليابان،
بينما ركزت الدول الاوروبية الاخرى ومن ضمنها الولايات المتحدة جهودها الميدانية
على غزو صربيا وتفتيتها بغية تشتيت انظار القوى السوفياتية الصاعدة في الداخل
الروسي، الى جانب اهداف اخرى.
ما اشبه اليوم بالامس البعيد، اذ ساهم سعي الغرب
في زعزعة استقرار الشرق الاوسط الى تعزيز روسيا غربا واستعادة اراضيها من
اوكرانيا؛ فضلا عن ان توسع حلف الناتو في اوروبا الشرقية حفز روسيا على استعادة
مجدها ابان الحقبة السوفياتية. نشر حلف الناتو لقوات عسكرية في الشرق الاوسط سيؤدي
بروسيا اعادة النظر وتحريك اولوياتها نحو اوكرانيا ودول بحر البلطيق، عملا
بالمفهوم الاستراتيجي ان الفراغ الجيوسياسي غير مسموح به.
ايضا، استغلت الصين فرص انشغال الغرب والولايات
المتحدة لتعزيز نفوذها في مياه بحر الصين الجنوبي ولامست الاشتباك عسكريا مع كل من
اليابان والفيليبين وفييتنام، ادراكا منها ايضا ان تنامي حدة الصراع في الشرق
الاوسط سيتطلب من الولايات المتحدة تحريك عدد من حاملات طائراتها من المياه
الآسيوية الى منطقة الخليج العربي، مما سيزيح الخطر الاكبر من امام الصين لبسط سيطرتها
ونفوذها هناك.
الأمر عينه ينطبق على كوريا الشمالية التي ستنتهز
فرصة انشغال اميركا في الشرق الاوسط لتعزيز دائرة نفوذها في الاقليم.
الاحداث الداخلية الاميركية ايضا من شأنها التأثير
بمسيرة التطورات في الشرق الاوسط نظرا لتشابك المصالح وتعدد الاطراف، وتضعضع مكانة
وصدقية الرئيس اوباما داخليا، والاعتبارات المتعددة التي ينبغي ان يأخذها بالحسبان
قبل الاقدام على اي خطوة، سيما وانه لا يشذ عن سير اسلافه من الرؤساء الذين سعوا
لتعويض مآزقهم الداخلية بمغامرات خارجية – تصدير الازمة. في هذا السياق ينبغي
النظر الى تصريحات الرئيس اوباما الاخيرة بتخصيص نحو نصف مليار دولار لتدريب
وتسليح قوى المعارضة السورية المصطفاة، وهي التي تكبدت هزائم ميدانية لن تستطيع
تعويضها في المدى المنظور.
يدرك الرئيس اوباما بدقة مدى معارضة الشعب
الاميركي لمغامرات عسكرية جديدة تستند الى نشر قوات عسكرية خاصة في المنطقة
العربية التي اذاقتها طعم الهزيمة العلقم بعد هزيمتها في فييتنام. بيد ان صراع
القوى والمصالح الداخلية قد يدفعه لاتخاذ مواقف اشد خطورة تنذر بمزيد من
الاشتباكات الدائمة، تيمنا بنصائح الليبراليين الجدد من امثال وولفوويتز، وابقاء
جذوة الصراع مشتعلة لعقود مقبلة.
نزعة المغامرات تلك هي التي ادت لنشوب حربين كونيتين وسلسلة اعتداءات وغزو
للدول والكيانات الوطنية الاخرى: الامبراطورية الهنغارية النمساوية اخفقت في تقدير
رد فعل صربيا على انذارها؛ المانيا ايضا اخفقت في تقدير حليفتها بتوفيرها دعم غير
مشروط لمغامرات الامبراطورية؛ الامبراطورية الاميركية اخفقت مرارا وتكرارا في
تقدير وجهة حروبها التي اعتقدت، جازمة ربما، ان باستطاعتها حسمها خلال بضعة اشهر
على ابعد تقدير، ولا زالت تئن من سوء تقديراتها في فييتنام وافغانستان والعراق –
وسوريا لا تزال شاهدة على سوء التقدير والغطرسة الأميركية.
المصدر:
مكتب الميادين في واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية
Comments
Post a Comment