مهارة أوباما الخطابية: الإنجاز الوحيد في السياسة الخارجية
أوباما يحضر لحفل تخريج دفعة جديدة في أكاديمية "ويست
بوينت" العسكرية في نيويورك، ويلقي كلمة بالخريجين، والكلمة تتناول السياسة
الخارجية الأميركية وكذلك الوضع الداخلي حيث وجه سهامه إلى خصومه
السياسيين بمن فيهم أعضاء الكونغرس، ويشدد على أن بلاده ستحافظ على موق
حضر الرئيس أوباما للتفيؤ تحت قباب الأكاديمية العسكرية العريقة في
مدينة "ويست بوينت" بولاية نيويورك على ضفاف نهر هدسون، والقى كلمة
بالخريجين الجدد اتساقاً مع إرث أرسته الكلية باستضافة رئيس الولايات المتحدة في
هذه المناسبة، وهي المرة الرابعة عشر منذ تأسيسها في آذار عام 1802.منذئذ، حظي خطاب الرئيس بأهمية بالغة واعتبار مضمونه رسالة سياسية
واستراتيجية تسير السياسة المقبلة على هديها. فضلاً عن ذلك، روجت إدارة الرئيس أوباما
والوسائل الإعلامية والتعبوية المختلفة للخطاب المرتقب، عله يضع حداً لتدني حالة
الإحباط الشعبية من سلسلة إخفاقات سياسية، داخلية وخارجية، وتنامي موجة الاتهامات
للرئيس بالضعف وعدم القدرة على الحسم. وُضع الجميع في حالة ترقب لخطاب يحدد معالم السياسة الخارجية وآفاق
انطلاقها، بيد أن الناتج لم يخرج عن سياق رئيس مضطرب في حال دفاع عن سياسته الراهنة،
والتي حصدت انتقادات من كافة أطياف التيارات السياسية. وأجمل أوباما دفاعه عن تخبط سياسته الخارجية بالقول "من يعتقد
أن اميركا تهبط أو أن القيادة العالمية تنزلق من يدها، فإما أنه لم يقرأ التاريخ
جيدًا أو أنه منخرط في دهاليز السياسة الحزبية". لعل أهم قضايا السياسة الخارجية التي غابت عن خطاب أوباما هي "الصراع
العربي- الإسرائيلي"، والتزامه بالقوافي المعهودة. سورية تصدرت قائمة
التوقعات، وخصص لها الرئيس أوباما حيزاً لم يشفِ غليل خصومه ومؤيديه على السواء،
مؤكداً أنه سيعزز مستويات تعاونه وتنسيقه مع أعضاء الكونغرس، فيما يخص صرف مقومات
الدعم لقوى المعارضة السورية المسلحة، أو بعضها – الأمر الذي لم ينطلِ على
العاملين بالشأن السياسي نظراً لأن هذا بالضبط ما تقوم به الإدارة بكافة أركانها
راهناً. ولم يوضح الرئيس أوباما دوافعه لطلب ود الكونغرس بعد طول رفض وإصرار
لابقائه خارج دائرة الاستشارة لبلورة وتطبيق السياسات الخارجية.
استقبلت "ويست بوينت" ضيفها الرئيس ببرود ملحوظ. إذ لم يصطف
وقوفاً للترحيب به سوى نفر لا يتعدى 25% من مجموع الخريجين، فضلاً عن فتور حماسة
التصفيق. يدرك هؤلاء بدقة الأوضاع الداخلية المتردية في عموم القوات المسلحة،
واضطرار عدد لا بأس به من الضباط ذوي الخبرة المهنية المكتسبة إلى السعي عن مصدر
رزق خارج المؤسسة، فضلاً عن القلق المضطرد من عدم وفاء المؤسسة العسكرية لهم بتوفير
العلاج والرعاية الطبية المطلوبة عند تعرضهم لحادث ما، كما بينت التقارير الإعلامية
مؤخراً والتي سلطت الضوء على تدني كرامة الفرد واحالته للتسول.
سياسة خارجية: هل يمكن الدفاع عنها
إعتادت الولايات المتحدة بسياسييها وأدواتها النافذة، التغني بمزايا أمجادها
والانجازات التي حققتها منذ نحو 75 عاماً، نظراً لنهج سياسي يدعو للانخراط بقوة على
الصعيد العالمي، ومن أبرز ممثليه الرؤساء فرانكلين روزفلت وهاري ترومان وجون
كنيدي. هذا ما تتبناه التيارات المتشددة واليمينية وتحالف المجمع الصناعي – الحربي
– المصرفي. ويمضي هؤلاء بأن الانحدار وانحسار القوة بدأ مع العدوان الأميركي على
فييتنام وتداعيات الهزيمة التي منيت بها ما أدى إلى "فوز الإتحاد السوفياتي
بالحرب الباردة" لفترة زمنية هامة. واستمر الحال على هذا المنوال لحين اعتلاء
الرئيس الأسبق رونالد ريغان منصب الرئاسة، كما يرددون، كممثل وفيّ للمصالح
الاقتصادية والاستثمارات الكبرى، والتحولات الاجتماعية الجذرية في بعض المحطات على
الصعيد الداخلي. بالنتيجة، كما يعتقدون، فإن ريغان استطاع إعادة الإعتبار لهيبة
الولايات المتحدة، محلياً وعالمياً، وكسب الحرب الباردة.
بعد التمدد والانتشار
والعدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، وما تبعه من تحولات هامة على الصعيد الدولي
بشكل خاص، استُحدِثت أجواء الحرب الباردة كمسار وسياسة، وربما ساهمت الخسارة الأميركية
المزدوجة بضيق ذرع الرئيس أوباما لاستعراض القوة العسكرية الأميركية في ظل أوضاع إقتصادية
متردية شارفت على الانهيار. ويتوق ذلك الطرف إلى استحضار رئيس بمواصفات ريغان – مطواع،
خالي الفكر، يعشق الإنفاق العسكري وتركيز الثروة بأيدي فئة أقل وأصغر من سابقتها.
على ضوء هذه الخلفية نستحضر خطاب الرئيس أوباما في الأكاديمية العسكرية
وامتعاضه من "عجرفة القوة الأميركية"، كما وصفها السيناتور الأسبق وليم
فولبرايت إبان حقبة العدوان على فييتنام. بل برز بعض التباين وربما التناقض في
الخطاب الرئاسي في تأكيده بأنه "ينبغي على الولايات المتحدة تصدر الموقع
القيادي على الساحة العالمية، ثم يتعين علينا العمل مع الآخرين سيما وأن العمل
الجماعي في مثل تلك الظروف تتوفر له فرص النجاح على الأرجح، والاستدامة، ومن
المستبعد أن يؤدي إلى أخطاء كارثية".
وفي مكان آخر حذر من الاخطاء الأميركية "منذ الحرب العالمية
الثانية، فإن بعض أخطائنا المكلفة للغاية، سببها جهوزيتنا للوقوع في مغامرات
عسكرية قبل التفكير والتمعن بما سيترتب عليها من تداعيات".
وفي هذا الصدد إستذكر الرئيس أوباما سلفه الرئيس ايزنهاور لتماثله مع
توجهاته في تخفيض الانفاقات العسكرية، مما أدى إلى استقالة ثلاثة من قادة أركان
الجيش على التوالي، إبان عهد ايزنهاور. بيد أن الذاكرة النضرة للتاريخ القريب لا
تسعف مقاربة أوباما. فبالرغم من معارضة ايزنهاور في البداية لمذكرة مجلس الأمن
القومي الموجهة للرئيس ترومان، 7 نيسان 1950، بتسليط الضوء على "المد
الشيوعي" واحتواء الاتحاد السوفياتي، شهد عهد ايزنهاور تطبيق ما عارضه بحماس
منقطع النظير، وعرف لاحقاً "بمبدأ ايزنهاور". المذكرة المذكورة عرضت
جملة خيارات استراتيجية وحثت على قيام الولايات المتحدة "بترميم عاجل للقوة
السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم الحر، ودعم المساعي الضخمة لتطوير وبناء اسلحة
تقليدية ونووية على السواء"، وهي عناصر مبدأ ايزنهاور.
"مبدأ اوباما" يستند إلى إعادة الهيبة للسياسة الأميركية
عبر "إنهاء الحروب المكلفة وغير القابلة للفوز وإعادة تأهيل البنية الاقتصادية"،
مؤكداً للخريجين أن الحروب تمثل "أكبر حماقة وغباء مأساوي للبشرية".
وذكّر أوباما جمهور الأكاديمية العسكرية بأن سياسته تلتزم الطريق الوسط
الواقع بين فريق "الواقعيين"، الذين يعارضون الانخراط العسكري الخارجي،
وبين دعاة "التدخل من الطرفين في اليمين واليسار،" ولم يوفر فريق
"المتشككين الذين عادة ما يخففون فعالية العمل المشترك متعدد الاطراف واعتقد
انهم على خطأ". وأنّب اوباما خصومه الذين يطرحون "خيارات خاطئة"
تترجم في السياسة الخارجية إلى ثنائيات مقيتة: التدخل مقابل الإنعزال، الحرب مقابل
الديبلوماسية؛ منوهاً إلى أنه فاز بالانتخابات الرئاسية لإنهاء الحروب، وليس إشعالها.
بالطبع، لم يشأ أوباما التعرض لقراره بزيادة التدخل الأميركي في أفغانستان وشن
عدوان على ليبيا وعمليات الاغتيال بطائرات الدرونز.
كما وجه أوباما سهامه إلى خصومه السياسيين الذين يرددون مثالب الوضع الاقتصادي
وانعكاساته، بمن فيهم أعضاء الكونغرس، مشدداً على أن الولايات المتحدة ستحافظ على
موقعها الريادي في العالم إذ إنها "نادراً ما تمتعت بقوة أكبر من الراهن مقارنة
مع بقية العالم؛ وعيّب على أعضاء الكونغرس لتخلفهم عن توفير "قيادة تتماثل
بالتجربة" في قضايا عدة منها التغير المناخي ومعاهدة قانون البحار التي تحدد
الحدود المائية للدول بمساحة تصل إلى 200 ميل، ويرفضونها؛ متهماً الأعضاء " بالتراجع
إلى الوراء والوهن"، وعدم دعمه كما يجب في التوترات الراهنة في بحر الصين
الجنوبي.
في تعداد انجازاته، ذكّر اوباما بوفائه بالعهد وان "أمريكا أنهت
الحرب بالعراق وتستعد لإنهائها في أفغانستان نهاية العام الجاري وقضت على قيادات
بتنظيم القاعدة، ولم يعد هناك أسامة بن لادن"، مستدركاً أن الولايات المتحدة
ستستخدم القوة العسكرية أحادية الجانب في حال تعرض مواطنوها أو مصالحها الأساسية
في العالم للتهديد"، متعمداً التمسك بالغموض وعدم تحديد الظروف التي تستدعي
التدخل لدرء "التهديد الأمني الذي يواجهه حلفاؤنا".
ملامح المستقبل
لا يحتاج المرء لعناء التدقيق والتفكير للتوصل إلى ماهية المرحلة المقبلة،
سيما وأن الخطاب لم يأتِ بجديد في رؤيته، ربما باستثناء إنشاء صندوق لمكافحة الإرهاب
تسهم فيه عدد من الأطراف، يصل تمويله الى 5 مليارات دولار، وإعادة التذكير بالحرب
على سورية. ما عدا ذلك لم يخرج عن مصاف إعادة إنتاج السياسات السابقة والراهنة،
وتأكيده للخريجين أنهم سيكونوا جزءاً من قادة المستقبل وادارة دفة القيادة
العسكرية.
وسار أوباما على درب سلفه جورج بوش الابن باعتبار المجموعات
الارهابية مصدر تهديد مباشر للولايات المتحدة، مناشداً الخريجين بأنه "يتعين
علينا تطوير استراتيجيتنا في مكافحة الارهاب – والاستفادة من انتصارات واخفاقات
تجربتنا في العراق وافغانستان".
سورياً، قال اوباما كلمته ومشى "لا حلول عسكرية للأزمة"، وأرفقها
بسياق الصندوق المشترك المقترح لمكافحة الارهاب؛ وتوفير مزيد من الدعم الأميركي لــــــ
"الأردن ولبنان وتركيا والعراق وقوى المعارضــة السورية". وتناول السياسة
الأميركية في مصر من زاوية "التزامها بالاتفاقيات المبرمة مع اسرائيل"،
كما كان متوقعاً، وهو محور الاستراتيجية الاميركية في المنطقة. إيران والمفاوضات
النووية الجارية معها ايضاً وردت في سياق "ضمان أمن اسرائيل".
ساحات التوتر الدولية الأخرى نسب لإدارته إنجاز "نزع فتيل"
الانفجار في أوكرانيا بإتاحة الفرصة لشعبها "تقرير مستقبله"، وتبنى
الانجاز السياسي في ميانمار بورما العائد لنهج "الديبلوماسية الأميركية".
اميركا استثناء عن العالم اجمعه
تشبع الاميركيون بالنظر الى نظامهم السياسي والاجتماعي بأنه مميز
و"استثنائي" وافضل مما لدى كافة شعوب الكرة الارضية، طيلة ما يناهز 200
عام من عمر الدولة الفتية. وشكلت "الاستثنائية" نقطة ارتكاز لتعبئة
الجمهور وتعزيز شعوره بالتميز والتفوق العنصري، وتأييد المغامرات العسكرية
الخارجية للقوى المسيطرة "بدءا بالمكسيك .. وانتهاء بالعراق؛" الضحية
الراهنة لمزاعم اركان السلطة "بنشر الديموقراطية والقيم الاميركية" بقوة
السلاح.
اوباما الابن الوفي للمؤسسة الحاكمة ببشرة سوداء لم يشذ عن تلك
القاعدة مؤكدا "اؤمن بالاستثنائية الاميركية في كل عرق من دمائي. لكن ما
يرفعنا الى مصاف الاستثناء لا يكمن في قدرتنا على السخرية من الاعراف الدولية
وسيادة القانون، بل في عزمنا على صون تلك القيم عبر افعالنا. ولهذا سأمضي قدما في
الدعوة لاغلاق معتقل (غوانتانامو) - فالقيم الاميركية والارث القضائي لا تخولنا
احتجاز أناس خارج حدودنا الى أجل غير مسمى."
بعبارة اخرى، رمى اوباما الى نزع الوجه القبيح عن السياسة الاميركية
"واعادة تعريف النزعة الاستثنائية" لتواكب المرحلة الراهنة من التطور
البشري، فضلا عن ربطها بسياق العمل الخيري واضفاء طابع ايجابي عليها رغم ادراكه
التام انها ذاتها في الجوهر لم تتغير.
بلاغة في الخطاب ام تحول حقيقي
اصدر الرئيس اوباما عددا من التصريحات خلال فترتيه الرئاسيتين مفعمة
بالأمل والوعود بمعالجة عدد من القضايا الكبيرة؛ واخفق بامتياز في تحقيق اي انجاز
ملموس، بل رضخ لابتزاز خصومه السياسيين. فهل سينسحب ذلك على وعوده الراهنة بانتهاج
نمط جديد للسياسة الخارجية؟
نظريا، ربما. بيد ان الحقيقة الماثلة امام اعين جميع القوى والتيارات
السياسية ان عام 2014 سيشهد جولة انتخابات تنبيء بتغيير موازين القوى لصالح خصومه
وامكانية خسارة الاغلبية البسيطة في مجلس الشيوخ لحزبه، وما سيترتب على نتائجها من
عقبات ومعوقات اضافية تعرقل قدرته على الوفاء بأي من التزاماته التي قد تصطدم مع
رؤى مغايرة، خاصة عند الاخذ بعين الاعتبار ان هم الناخب هو الوضع الداخلي وليس
السياسة الخارجية كعامل حاسم. وان تحققت تلك التوقعات، فان الرئيس اوباما سيمضي جل
وقته وجهده في استرضاء الكونغرس والتركيز لتنفيذ اجندته السياسية الداخلية. ويبدو
ان احجامه عن اطلاق مبادرات حلول جادة على الصعيد الخارجي في ملفات ساخنة هو خشيته
من الا تخدم معركة الحزب الديموقراطي في انتخابات نوفمبر القادم. ولحينه وحتى
تتكشف حصيلتها سيبقى اسيرا للمراوحة في ادارة الازمات لا السعي لحلها ويترقب
امكانية المراهنة على التوصل الى اتفاق في مفاوضات الملف النووي الايراني.
الاكاديمية في "ويست بوينت" وفرت منبرا سياسيا للرئيس
اوباما بصبغة عسكرية، يصعد من خلاله لتعزيز سمعته والتصدي لخصومة ومنتقديه،
وممارسة الدور المنوط به كزعيم قوي لدولة هي الاقوى بين الاقوياء الآخرين.
الخطابات الرئاسية الرنانة لها مفعول قصير المدى ايجابياً او سلبياً يمتد لزمن
طويل يلاحق الارث الرئاسي، كما يحصل حاليا مع جورج بوش وصعوده لحاملة الطائرات
وخلفه لوحة اعلانية بانتهاء المهمة التي لم تنتهي للآن؛ او ان يسهم فعلها بتعديل سمعة
الرئيس واضفاء مصداقية على خطابه سرعان ما يلقى ادراج النسيان.
يبدو اوباما عاجزا ومكابرا معا لا يجرؤ على الاعتراف بانه حان الوقت
لكي يدير تنظيم الانكفاء الاميركي وتحمل تبعات ذلك ولا يبدو ان المؤسسة الحاكمة في
اميركا قادرة او راغبة في ان تفرز قيادة تتخلى عن اوهام اساطير التفرد والاستثناء.
المصدر:
مكتب الميادين في واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية
Comments
Post a Comment