أهداف مستمرّة للتجربة الناصرية
صبحي غندور*
48 سنة مضت على غياب جمال عبد الناصر. 48 سنة هي تقريباً ثلاثة أضعاف عدد سنين التجربة الناصرية التي امتدّت من 23 تموز/يوليو 1952 حينما حدثت الثورة المصرية بقيادة ناصر، إلى 28 أيلول/سبتمر 1970 حينما وافته المنيّة.
18 سنة من تجربة ناصرية غيّرت مجرى الأحداث والتاريخ في مصر والأمَّة العربية وفي العديد من دول أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. تجربة ناصرية أحدثت تغييراتٍ جذريةً في المجتمع المصري ونظامه السياسي والاقتصادي والعلاقات الاجتماعية بين أبنائه، وكانت أيضاً ثورة استقلالٍ وطني ضدّ احتلالٍ أجنبيٍّ مهيمن لعقودٍ طويلة (الاحتلال البريطاني لمصر)، ثمّ كانت أيضاً قاعدة دعمٍ لحركات تحرّرٍ وطني في عموم الدول النامية، كما كانت كذلك مركز الدعوة والعمل لتحرّر وتوحّد البلاد العربية، ولبناء سياسة عدم الإنحياز ورفض الأحلاف الدولية في زمن صراعات الدول الكبرى وقمّة الحرب الباردة بين الشرق والغرب..
لكن إنجازات التجربة الناصرية كانت أكبر بكثير من حجم أداة التغيير العسكرية التي بدأت بها التجربة، وهي مجموعة "الضبّاط الأحرار" في الجيش المصري. كذلك، فإنّ الأهداف التي عملت من أجلها طوال عقدين من الزمن تقريباً، أي إلى حين وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، كانت أيضاً أوسع وأشمل بكثير من "المبادئ الستّة" التي أعلنها "الضبّاط الأحرار" عام 1952. فتلك "المبادئ" جميعها كانت "مصرية"، وتتعامل مع القضاء على الاستعمار البريطاني لمصر وتحكّم الإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم في مصر، وتدعو إلى إقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش مصري قوي وحياةٍ ديمقراطيةٍ سليمة، ولم يكن في هذه "المبادئ" ما هو خارج الدائرة المصرية من دورٍ مهمّ قامت به الثورة لاحقاً على الصعيدين العربي والعالمي.
وإذا كان واضحاً في "المبادئ الستة" كيفية تحقيق المرفوض (أي الاحتلال وتحكّم الإقطاع والاحتكار)، فإنّ تحقيق المطلوب (أي إرساء العدالة الاجتماعية والديمقراطية السليمة) لم يكن واضحاً بحكم غياب "النظرية السياسية الشاملة" التي تحدّث عنها ناصر في "الميثاق الوطني" عام 1962. أيضا، لم تكن هناك رؤية فكرية مشتركة لهذه المسائل بين أعضاء "حركة الضبّاط الأحرار"، حتّى في الحدِّ الأدنى من المفاهيم وتعريف المصطلحات، فكيف بالأمور التي لم تكن واردة في "المبادئ الستة"، أي بما يتعلّق بدور مصر العربي وتأثيرات الثورة عربياً ودولياً، وكيفية التعامل مع صراعات القوى الكبرى ومع التحدّي الصهيوني الذي فرض نفسه على الأرض العربية في وقتٍ متزامنٍ مع انطلاقة ثورة يوليو، حيث شكّل هذا التحدّي الصهيوني المتمثّل بوجود دولة إسرائيل، والمدعوم والمستخدَم من قبل الغرب، أبرز ما واجهته ثورة يوليو من قوّة إعاقةٍ عرقلت دورها الخارجي وإنجازاتها الداخلية.
أهمّية هذه المسألة المتمثّلة في ضيق أفق أداة التجربة الناصرية (الضبّاط الأحرار) ومحدودية (المبادئ الستّة) مقابل سعة تأثير القيادة الناصرية وشمولية حركتها وأهدافها لعموم المنطقة العربية ودول العالم الثالث، أنّها تفسّر حجم الانتكاسات التي حدثت رغم عظمة الإنجازات، وأنّها تبيّن كيف أنّ الثورة كانت تيّاراً شعبياً خلف قائدٍ ثوريٍّ مخلص لكن من دون أدواتٍ سليمة تربط ما بين القائد وجماهيره، وبين الأهداف الكبرى والتطبيق العملي أحياناً.
ورغم هذه السلبية الهامّة التي رافقت التجربة الناصرية في مجاليْ الفكر والأداة، فإنّ ما حققته داخل مصر وخارجها كان أكبر من حجم السلبيات والانتكاسات.
كذلك، فإنّ الخلاصات الفكرية والسياسية لهذه التجربة، خاصّةً في العقد الثاني من عمرها، هي التي بحاجةٍ إلى التأكيد عليها الآن وفي كلّ المناسبات "الناصرية".
وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والإستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر التجربة الناصرية، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.
فاستناداً إلى مجموعة خطب عبد الناصر، وإلى نصوص "الميثاق الوطني" وتقريره، يمكن تلخيص الأبعاد الفكرية للتجربة الناصرية بما يلي:
· الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين:
- الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء.
- الوجه الاجتماعي: الذي يتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة.
· المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي من دونها ينهار المجتمع، ولا تتحقّق الحرّية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.
· اعتماد سياسة عدم الإنحياز ورفض التبعية لأي جهة خارجية تقيّد الوطن ولا تحميه، تنزع إرادته الوطنية المستقلّة ولا تحقّق أمنه الوطني.
· مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر - مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ تاريخي مشترك. والاستناد إلى العمق الديني لمصر وللأمّة العربية القائم على الإيمان بالله ورسله ورسالاته السماوية التي ظهرت جميعها على الأرض العربية.
· رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو للعمل الوحدوي والقومي، وبأنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتّحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة، بل كما قال ناصر: "إنّ الإجماع العربي في كلّ بلدٍ عربي على الوحدة هو الطريق إلى الوحدة" .. وقال ناصر أيضاً في "الميثاق الوطني": "طريق الوحدة هو الدعوة الجماهيرية .. ثمّ العمل السياسي من أجل تقريب يوم هذه الوحدة، ثمّ الإجماع على قبولها تتويجاً للدعوة وللعمل معاً". وقال أيضاً في الميثاق: "إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية".
***
أمّا على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، فقد وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحاً لهذه المواجهة، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على:
· بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية، ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية عن المعركة الرئيسة ضدّ العدوّ الصهيوني، ومن خلال إعدادٍ للوطن عسكرياً واقتصادياً بشكلٍ يتناسب ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدوّ.
· وضع أهدافٍ سياسيةٍ مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط بحقوق الوطن والأمَّة معاً، ورفض الحلول المنفردة أو غير العادلة أو غير الشاملة لكلّ الجبهات العربية مع إسرائيل.
· العمل وفْقَ مقولة "ما أُخِذ بالقوّة لا يُسترّدّ بغير القوّة" وأنّ العمل في الساحات الدبلوماسية الدولية لا يجب أن يعيق الاستعدادات الكاملة لحربٍ عسكريةٍ تحرّر الأرض وتعيد الحقَّ المغتصَب.
· وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصةٍ ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
***
هذه باختصار مجموعة خلاصات فكرية وسياسية أراها في التجربة الناصرية، خاصّةً في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967، وهي خلاصات لا يُسقط الزمن أهمّيتها بل نجد هناك حاجةً قصوى الآن لإعادة الاعتبار لها والعمل لتحقيقها في هذا الزمن العربي الرديء.
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة "المشروع الناصري" الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته. والكتابة عن ناصر هي ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنيناً لماضٍ يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هي دعوةٌ للمقارنة بين نهجٍ سائد الآن في التعامل مع الأزمات وبين نهج "ناصري" واجه أزماتٍ مشابهة لصراعاتٍ مستمرّة لقرنٍ من الزمن، وما زالت تنخر في جسد الأمَّة العربية.
إنّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن قضايا العدل السياسي والاجتماعي، وبناء مجتمع المواطنة السليمة، والتحرّر من الهيمنة الأجنبية، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والتمسّك بالهويّة العربية، هي أهدافٌ مستمرّة لشعب مصر ولكلّ شعوب الأمّة العربية مهما تغيّر الزمن والظروف والقيادات..
أيلول/سبتمبر 2018
Comments
Post a Comment