علاء الدين محمود ---- "هاك يا زميل"..!
أثار الحدث "الوئامي" اصطرعات بين يساريين، بعضهم يرى أن التضامن مع ما أثارته وئام من قضايا هو تضامن مع الليبرالية "الأباها ماركس"، والتي تمثل النقيض الرئيسي لليسار الماركسي، حيث يرونه خروجا عن "القيم" الماركسية أي الأقول والمنتج الفكري لماركس بما في ذلك السنة التقريرية "ما رأه وسكت عنه"، وهذا بالضبط يحيلنا إلى أزمة كبيرة مازالت تلقي بظلالها على رؤوس كثير من الشيوعيين والشيوعييات فتشكل عتمة تحجب عنهم "الشوف" الصحيح للأشياء، وذلك مرجعه لأزمة المنهج نفسها فغياب ذلك المنهج يعطي المقولات مشروعية عابرة للأزمان صامدة صمود الجبال لا تفسر ولا يتم تأويلها وفق ما يثيره العصر وما يرمي به من جديدـ، ومن هنا يتسلل الجمود، ومن المناسب تماما أن نقول أن النقد الذي وجهه كارل ماركس للدين، باعتباره يمثل حالة تفريج تفرغ المضمون الثوري من محتواه، عندما وصفه بالأفيون، ينطبق تماما وبجدارة على موقف تمسك بعض الشيوعيين بمقولاته وسننه، لذلك لا تأخذنا الدهشة كثيرا عندما نجد أن الموقف الشيوعي بشكل عام متخلف جدا عن الهموم والقضايا الجديدة، والمفاهيم التي تشكلت وفقا لها، ومن هنا لابد من رد الاعتبار للماركسية كفلسفة، استعادة تلك الفلسفة والمنهج التحليلي بدلا من الدوران في حلقة انجلس المفرغة التي تجعل من "الماركسية علم"، وذلك غير صحيح.
لكن من "بركات" الحدث، أنه قد أعاد مرة أخرى سؤال الليبرالية في مقابل الماركسية، الليبرالية بالمطلق، والماركسية معرفة بالألف واللام.
والحقيقة أنه لا يوجد أصل فلسفي مشترك يجمع بين الفكرين، والمفارقة هنا أننا نحن من يقول بذلك، نحن الذين كفرنا بالنسخة الماركسية التي صدقها النموذج السوفييتي اللينيني الستاليني، وأقرتها الأحزاب الشيوعيية الموجودة الآن، إلا من رحم ربي حيث أن منتوج هذه النسخة تشكل من خلال الإزاحات والمقاربات التي تمت من خلال تنظير أنجلس ولينين وغيرهم، من الذين ظنوا بوجود ذلك المشترك من كون أن كلاً من الفكرين هما نتاج فلسفة الأنوار الأوروبية التي قطعت مع أي سلطة على الفكر غير سلطة العقل. وذلك ليس بصحيح تماما، المحاولات التي قام بها أنجلس وفيما بعد وبوخارين ولينين، هي التي أدت إلى وجود "المادية الديالكتيكية" التي لم يقل بها ماركس، كما لم يقل بـ"المادية التاريخية" بل وتتناقض مع انفتاح التجربة الماركسية وأدواتها النقدية، وهذا المفهوم الذي حلق في ذهن أنجلس واشتغل عليه لينين جاء من ما عرف بـ"المادية الفرنسية"، التي و،للمفارقة، كان قد أشبعها ماركس نقدا ووصفها بـ"الشكل الأيديلوجي للثورة البرجوازية". والشاهد ان ماركس بذلك قطع مع عرف بفلسفة الأنوار والتي استقيت منها مصطلحات الماديتين التاريخية والديالكتيكية، ولقد شكلت هذه المسألة التقاء قسري بين المادية في مفهوم ماركس، والمادية بفهم التنوير.
إن الحرية كانت معركة ماركس الأساسية، لذلك فإن الانتقال نحو الشيوعية هو ليس فقط مصطلح اقتصادي محض، بل يعني التخلص من الأثقال التي تصفد الإنسان والتي يطلق عليه "مملكة الضرورة" بحيث يستعيد انسانيته ويتخلص من غربته في "مملكة الحرية" برفض أن تكون الحرية هي حرية طبقة محددة يكفلها "القانون"، والذي دائما ما يفصل على مقاس الطبقة السائدة المهيمنة، هي تحرر الإنسان الحقيقي من قيود الاستعباد القديمة والحديثة، ولعل أبرزها الأن سيادة النظام العالمي وقيمه الاستهلاكية التي تستعبد الناس وتسهم في غربتهم وتبتلعهم وتنتجهم أصفاراً، فالماركسية بذلك ليست بعيدة عن معركة الحرية بل في قلبها ولكن ليس من خلال أثر فلسفة التنوير. لقد قاد ذلك الخلط الكبير إلى تشويه ما ذهب إليه ماركس في فهم الضرورة، وتم تفسيره بالحتمية والحتميات، والواقع أن أن ماركس أراد التخلص من هذه الحتميات وليس خلقها، لأن الحتميات على عكس ما أراد ماركس تقيد الإنسان وتغل من تفكيره في مواجهة الواقع والمشاكل الجديدة، لذلك تجد الإنسان الشيوعي بحسب المفاهيم اللينينة إنسان حتمي وانتصار الاشتراكية هي مسالة حتمية، أي قدرية، وذلك بعكس ماركس الرافض للحتميات لأنه ينطلق من موقف نقدي حيث ترك كل ذلك للتفكير الخلاق فهو لم يضع تصورا معينا، أو خارطة طريق تقود بالضرورة إلى الاشتراكية والشيوعية.
ولعل ذلك الخلط الكبير الذي أسس له أنجلس ثم لينين قاد إلى بروز برامج الأحزاب الشيوعية في عوالمنا والتي تتضمن أفقا ليبراليا فيما يعرف بمرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية، وكذلك من خلال المحفوظات المدرسية الستالينية التي قضت على المنهج والأفق النقدي الماركسي واستعانت بدلا عنه بالمحفوظات والمقولات التي تطبق على كل زمان ومكان وعلى كل حدث يقذف به الواقع، بالتالي نجد حالة الإلتباس مع الفكر الليبرالي متوفرة وموجودة في الشيوعية التقليدية.
ومن هنا فإن ما يأخذه علينا الشيوعيين التقليديين المتأثرين بالنفحات الأنجلسية اللينينية البوخارينية الستالينية في تأويلها لماركس، هي مردودة عليهم تماما هنا، فهم الذين تأثروا بهذا الخلط، والذي بدأ واضحا في المناقشات العامة التي حاولت أن تجد بديلا عن الاسم الشيوعي فذهبت إلى الإشتراكي الديموقراطي، أو الديموقراطي الإشتركي، وغيرها من الأسما التي تستدعي اللحظة الليبرالية، بالتالي وحتى يكتمل البرنامج الحزبي الثلاثي الأبعاد، كان عليهم الوقوف إلى جانب ما أسموه طرحا ليبراليا في الموقف من قضايا المرأة وخلافها من قضايا فجرتها الحلقة الخطيرة.
وطالما الأمر كذلك فلماذا إذن ننحاز نحن لقضية وئام، أو بعض ما طرحته؟ "نحن" الذين نرفض ذلك التلاقي القسري بين الماركسية والليبرالية؟ الشاهد هو الانطلاق من اللحظة الماركسية نفسها التي تنحاز إلى التفكير الخلاق، وقلب عادات التفكير، فملاحقة التطور تقتضي الانفتاح الفكري نحو الجديد والمفاهيم التي تطرحها الإنسانية في تطورها، واتخاذ موقف خلاق منها، فالماركسية التي تعني بضرورة محاربة التمايز تقف هنا مستجيبة مع قضايا النوع والتفريق بين ذكر وأنثى، حيث أن قهر المراة مرتبط تماما بالملكية، وبسيادة التفكير التملكي والنمط الذي يتصور العالم كسوق واستهلاك، ورفض استغلال المراة، فهذه القيم لا يمكن النظر أيها كأحداث متعمدة ينتجها التفكير البرجوازي من أجل خلق صراع بديل للصراع الطبقي، فذلك غير سليم، إذ أن رفض قهر النساء يسير في ذات أفق العدالة والمساوة.
ونواصل
Comments
Post a Comment