تعددية أشكال الكتابة السردية، يثري الكاتب، ويجعله قريباً من ذاته
( أوان وردة الأبنوس).. كانت أحلام وتجليات لما أفكر فيه
عمر الصايم كاتب قصة قصيرة ومنها تحول الى الرواية حيث لفت الانظار بروايته مارخدر التى تحدث عنها النقاد بايجابية لما حوته من عمق فى السيرة السودانية وناقشت المسكوت عنه وبذلك كانت اضافة حقيقية لمسيرة الرواية في السودان وكان لنا معه هذا اللقاء:
سيرة أدبية عن عمر الصايم؟
من عمق كوستي المدينة المتدامجة مع النيل ومقتنياته الطبيعية. قدمت الأسرة من بربر حيث نيل ممتزج بالطمي وجزر تخضر بالثوم والفاصولياء. ظل النيل يرفدني بجلاله وشغب كائناته المحلقة، الزاحفة والعائمة. درست أساسيات التعليم بكوستي وأيضا مهارات التعلم، ثم التحقت بجامعة الخرطوم كلية الآداب، وهي الأخرى تجاور الأزرق الدفاق وتستقي أشجارها منه. كتبت القصة في وقت مبكر وأنا في ( الطاشرات) في بداية المرحلة المتوسطة، ثم زادني حراك المدينة شغفا بالقراءة وجسارة على مغامرة الكتابة، اتصور أنني حينما ولجت الجامعة كنت أكثر اقتحاما للمغامرة من أندادي، هذا لأنني تقدمت وأنا طالب بالمرحلة الثانوية بمجموعة قصصية لدار جامعة الخرطوم للنشر، قبعت لأشهر وتم رفضها كما هو حري بها! ساعتها لم اتفهم دواعي الرفض، كيف اتفهم وأنا الشاب الممتلئ حماسة انه يتعين علي ان اصبر واثابر، وأزيد من معارفي الحياتية. ذهبت للمرحوم د. على المك طيب الله ثراه، فخفف عني غوائل الشباب، وقادني للخروج من أزمتي العاصفة آنذاك، عرفت ان علي ان اكتب وليس علي إدراك النشر دوما.. وهكذا مضيت في دربي لأكتب ما يعن لعقلي وقلبي بعيد عن هواجس من يكتبون من أن ذواتهم لا تتحقق إلا بالنشر ومتلازمته من شهرة او مال. صدرت لي ثلاثة مجاميع قصصية هي: (العجكو مرة اخرى) (الإيقاع الأخير لسيدنا الزعرات) و ( أوان وردة الأبنوس) وصدرت لي رواية واحدة هي (مارخدر) والآن قمت بإعداد بعض الكتب للدفع بها إلى النشر. هي سيرة أدبية صغيرة لكنها مجهدة للغاية، فما اصعب أن تكتب في واقع شديد التعقيد كواقعنا الراهن.
التعددية شرط لاستمرار الحياة ؟
- وأيضا تعددية أشكال الكتابة السردية، يثري الكاتب، ويجعله قريبا من ذاته؛ بما يفتح امامه طاقات جديدة للرؤية واكتشاف اعماقه السحيقة، تتبدى ظاهرة التعدد في مظاهر الحياة الحقة، وفي الحياة الفنية الحقة.يملأني إيمان عميق بالتعدد ودوره في إثراء الحياة. لا يستطيع العوالم المستنسخة من بعضها ان تقدم لنا متعة أو معارف أو ثمرات جيدة، الإلغاء او رفض الآخر هو حرب على الحياة في مظهر آخر من مظاهرها التي قد لا تمثلنا، ولكنها جزء من لوحة الحياة التي تكتمل بها..
آخر أعمالك، نبذة عنها؟
بجئ كتابي الأخير ( أوان وردة الأبنوس) مختلفا عن سابقيه لأنه مجموعة أقاصيص( ققج) وهي تجربة بدات تتطور في المكتبة السودانية منذ أن ابتدرتها الرائدة/ فاطمة السنوسي ومن أتى من بعدها ساهم بشكل مؤثر في نشر هذا الضرب من الفنون السردية، حتى صار له قراء ومتدارسون، شديدو الاهتمام به. كتابتي فيه هي امتداد لتجربتي السردية بمضمونيها الجمالي والمعرفي، هكذا أرى! وقد يبصر غير ما لم ابصره.. كل ما استطيع قوله عن آخر أعمالي ( اوان وردة الأبنوس). أنها كانت أحلام وتجليات لما افكر فيه.
موقف العولمة من الأدب كيف تنظر إليه؟
- هذه الكلمة بمدلولاتها ونواتجها وما يمكن أن تحدثه من تغيرات كاسحة على الفرد، والمجتمعات الإنسانية باتت كبعبع يرتعد من الإنسان، وأيضا كجنة يتطلع لها البعض، رغم ذلك كثير من التوقعات حول ما يمكن أن تحدثه العولمة قد خابت، وأحيانا برزت نتائج غير متوقعة، لم تنحسر وظيفة الدولة، إنما تضاعف الإحساس القومي لدى المجموعات التي كانت تعتبر أقليات في بلدانها حتى انفصلت عن بعضها. ازدادت قبضة الرأسمالية وشركاتها على حياة الإنسان، وصارت تتحكم في أوقاته بعد أن كان تتحكم في أقواته. بينما يجأر إنسان ما بعد الحداثة بالشكوى من التشيؤ، ويشرع في نقد الدولة، الخطاب السلطة.. إلخ لم يزل إنسان عوالم ما قبل الحداثة (الغربية) يتلمس طريقه الشائك والوعر يبحث عن الدولة وجميع ما يتم نقده وتمحيصه عند الآخر، يقبل منجزات الحداثة وما بعدها ويرفض قيمها وعقلها، هذا التناقض قد يؤشر إلى حالة تيه او بحث عن ما يخصه ويعبر عنه ضمن سياقه الثقافي.
في ظني أن العولمة بما تنطوي عليه ( كقفزة كبيرة) ستمكن الأدب من الانتشار والمقروئية، ولكنها في ذات الوقت ستخصم منه الكثير عبر الفواتير الباهظة التي سيدفعها الإنسان من جوهر وجوده، الآداب والفنون ستكون في وسط هذا الديالكتيك لتلعب دورها الجمالي والمعرفي، فما الإنسان لو بلغت به الحياة أن يفقد فنه وآدابه، حينئذ ستتقاصر كلمة (الآلة) عن وصفه.
هل اختفت الأنسنة من حياتنا؟
- سؤال موجع! هل سيجئ حين على الإنسان يفقد فيه جمال تفاصيل يومه، متعة اللذات الصغيرة، مذاق الطعام، وعبق الأرض؟ حدثت زلازل عنيفة من اشتراكية إلى رأسمالية إلى نكوص وتطرف ديني والعالم ما زال يمضي كحفنة تراب في قبضة مسافر متردد بين السفر والمكوث. فلنأمل أن تظل الأنسنة موجودة تغذيها المعرفة والفلسفات الإنسانية، لنأمل دوما ونغذي أملنا من صيرورة الإنسان وتاريخه الحافل في عبور المطبات الحياتية حتى نجا بنفسه وكتب هذه { هل لم يزل في الوقت بقية من حلم؟
- قيل قديما ( ما أضيق العيش؛ لولا فسحة الأمل!) ستولد الأحلام، ويتسع الزمن. يتغير النهر، يتبدل العابرون، ولكن الأحلام ولدت لتلد أحلاما أخرى، تمضي سلالات الأحلام المجيدة وتزهو في أحلك الوقت. بالنسبة لي أثق في أحلامي وإن قلت، أحبها وإن صغرت، أجازف لأقتطع لها وقتا من بين فك الأيام.. سأظل أحلم حتى آخر فسيلة، لايهمنى الوقت الذي تتحقق فيه الأحلام المهم أن أبذر وأسقي، لا تكمن متعة الأحلام في الثمار، سر أسرارها في التتبع والإخلاص لها. العظيمة.
اللغة قد تقف حائلا دون توصيف المشاعر؟
ابتدع الإنسان لغته، لا كما يصنع صنم من عجوة، يعلم أنها ستساعدة في نقل مشاعره وأفكاره، ولأنه نزق مشاغب احتاط لحالة عجزها بأن صك المجاز، ونسج الأحابيل حولها لتكون أكثر قدرة على نقل إشاراته الشعورية. ثمة لحظات تنعدم فيها اللغة هذا صيحيح، ولكن لماذا نطلب من اللغة الشقشقة دائما؟ ربما هذه المواقف وجدت ليحفها الصمت ويسكنها الهدوء. اللغة مهما فعلت من تقصير لن تكون حائلا، إذ لا وسيلة غيرها لفنون الكتابة.
الجيل الراهن ما له وما عليه؟
- المجايلة حجاب، قد أبصر (عوجات) الجيل الراهن، وقد أبصرها متضخمة سلبا أو أيجابا، فإذا تحريت الدقة أنه جيل إثراء المشهد السردي كما ونوعا، غير منقطع عن أسلافه ولا عن واقعه. قدم كثيرا من الأعمال المضيئة. أما ما عليه فهو من سلبيات فهي ذاتها التي تنطبق على المثقف السوداني والحياة الثقافية، أعني التخندق في الكونتات المعزولة، التعالي بسبب وبدونه. واستسهال النجاح، واستعجال الشهرة وقطف ثمارها.
نحن لا نعرف كيف نقدم مبدعينا؟
- هذا لأننا لم ننشئ المؤسسات التي تضطلع بذلك، والتي أنشأناها أقعدناها عن دورها وتحولت إلى جزر معزولة عن بعضها، خرج منها النواطير وتعالبها بشمن، حتى كادت العناقيد أن تهلك. وانت استاذي صديق الحلو احد العارفين ببواطن المشهد، وربما تتفق معي أن مؤسسات إعلامية راسخة وقوية، واتحادات أدبية معبرة وحقة كانت ستقوم بتقديم أدبنا للآخر على نحو ممتاز. غياب هذا الدور مع غياب دور الجامعات، وانصراف الدولة وتعاميها عن الشأن الثقافي لأسباب تخص تكوينها، كل هذه العوامل تضافرت لتجعلنا في موقف( نحن لا نعرف كيف نقدم مبدعينا) هذه المقولة مظهر للأزمة، وليست لبابها، وهي التي دفعت بالكتاب إلى فجاج الأرض بحثا عمن يقدمهم، وجعلتهم ينحتون صخور المهاجر لتقديم الإبداع السوداني، وبالتالي صاروا يرون ان نجاحتهم في الخارج هي جهد فردي محض، ومن ثم رخصوا لأنفسهم سلطة معرفية جبارة على الواقع الثقافي. يكفي الندب! يتعين علينا وبجدية بناء دولتنا ومؤسساتنا التي تعبر عنا وتقدمنا للآخر، لا احد غيرنا سينجح في تقديمنا.
مارخدر رواية عميقة. ؟
ربما هذا ما على النقد أن يقوله، اويفنده. النقد موضوع مهم جدا لاستكمال دورة الكتابة الإبداعية وهو الذي سيكتشف مدى عمقها، ويعيد قراءتها، من خلاله تبينت بعض ما خفي من النص، وتعرفت على مسارته المختلفة، وبني لي أساسا يصلح أن استند عليه في كتاباتي الروائية. بالنسبة لي اوان كتابتها كنت مشتغلا بقراءة الواقع والتاريخ، ومصائر الانسان، مهتما بالتدين ذي النمط السوداني. اهتممت بالشكل الفني واهتم هو بأحدوثتي، كتبت اللغة كما احبها فطاوعت الشكل. عندما قرأت ما كتبته الأقلام عنها، خاصة التعمق الذي ذكرت شعرت بغبطة غامرة من أن الحجر الملقى صنع جدلا، وأثار أسئلة. الآن احلم بجمع ما كتب عن ( مارخدر) في دفتي كتاب ليبحر مع الرواية في خط مواز، ساعتذاك قد نبصر مدى عمقها وأثرها الجمالي والمعرفي.
كلمة لابد منها..
لابد من فعل الكتابة، والقراءة معا، هما مدخلنا لفهم الشخصية السودانية، وتبصر طريقها ضمن التحديث الذي يشبهها. كلمة شكر وامتنان الأستاذ/ صديق الحلو على هذه الحوارية العميقة والممتعة.
Comments
Post a Comment