Skip to main content

في ذكرى شهداء سبتمبر 2013: الاقتصاد السياسي للاستشهاد - البروف /عبد الله علي إبراهيم

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٩‏ أشخاص‏، و‏‏نص‏‏‏
البوستر أدناه من عمل الأستاذة زينب كمال الدين يوسف جميل
في ذكرى شهداء سبتمبر 2013: الاقتصاد السياسي للاستشهاد
 البروف /عبد الله علي إبراهيم
طوال ما كنت أكتب عن وجوب التحقيق في مذبحة بيت الضيافة ومحاكم الشجرة منذ تسعينات القرن الماضي كنت أبكي على الحي قبل الميت. ويقول أهل السودان حين يفجعهم الموت في والد أو والدة إنهم إنما يبكون على الحي. وأزعجني من بخسوا هذه الكتابات واتهموها بأنها تنبش شأناً قديما منذ 1971 الأفضل أن يبقى حيث طواه التاريخ. ومنهم من ظن السوء بي وحمل كتاباتي عن شهداء بيت الضيافة ومعسكر الشجرة تهرباً دون الكتابة عن شهداء الحاضر في ظل نظام الإنقاذ.
كان أول بكائي على الحي حين بدأت أنمى، من خلال تجربتي السياسية والأكاديمية، مفهوم سميته "الاقتصاد السياسي للاستشهاد". وعرضته أول مرة في ورقة علمية على الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية في1997 عنوانها "انتقوني الخرطوم: أن تصدأ جثماناً في العراء." وسنعود لمزيد شرح عن هذه السيدة.
قلت عن مفهوم الاقتصاد السياسي للاستشهاد إنه عن تطاول استرخاص الحياة من أجل القضايا السياسية والعقدية عندنا منذ عقود. وأرخت له بثورة أكتوبر 1964 التي عصفت بنظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) إثر تشييع شهيد اغتاله النظام بجامعة الخرطوم. فأصبحت النظم العسكرية المتعاقبة تحرص على التكتم على جثث قتلاها ودفنهم في البراري القصية خشية العاقبة. ومن الجهة الأخرى أصبح معارضو هذه الأنظمة يتربصون بها الدوائر، ويتحينون سقوط شهيد برصاص النظام يؤذن بذهابه كما حدث في أكتوبر حذو النعل بالنعل. والاستشهاد ضريبة معروفة في الفداء بالطبع. ولكن ما ابتذله عندنا رهان الحكومة والمعارضة معاً على شهيد "يشنقل الريكة" على بينة دبرية في ثورة أكتوبر. فلم يعد الاستشهاد إرادة طرية غراء بل ارتهان لماض. فالمعارضة جعلت من الجسد سنارة لصيد
"الحرية" الثمين. بينما ارتعبت منه الحكومة القاتلة ورأت فيه "عملاً" من فكي المعارضة فأبطلت مفعوله بدفنه في البراري الموحشة.
ولفتة هنا إلى أنتقوني المقصودة. فهي بطلة مسرحية بنفس الاسم (441 قبل الميلاد) لسوفكليس الإغريقي. وفيها تستفظع أنتقوني أمر أخيها الملك ألا يدفن أخاه القتيل الذي خرج عليه. وقاومت أنتقوني أخاها الملك جهراً تطلب حق المثوى الأخير لأخيها القتيل. وقالت:
لو أذنت نفسي
أن يصدأ ابن أمي جثة بلا مأوى
ستكون تلك الفاجعة
السياسة فداء. ولكن حين لا تكون إلا بالدم تخرج عن المعنى لأنها قامت في الأصل لحقن الدماء. وسمعت شعراء الكبابيش يطرون مشائخهم ل "حدار الدم" أي تلافي الاقتتال وحقن الدم ألا ينحدر، ألا يسيل. وقال بهذا الفهم الفيلسوف السياسي الإنجليزي توماس هوبز الذي عاش في القرن التاسع عشر. فهو يقول إن سيادة السلطة السياسية لا تقع متى لم يخش الناس الموت. ولم تكن خشية الموت فاشية على عهد هوبز. فأهل عصره كانوا ممن يغامرون بحياتهم فداء لعقائدهم مغامرة أدت إلى حروب أوربا المعروفة بحرب "الثلاثين عاماً" وغيرها. وكانت مهمة هوبز الفكرية أن يجادل قومه ليغرس فيهم خشية الموت طلباً لحكم تراض وطني. وكانت المسيحية هي أكبر عقبة وقفت في وجهه لأنها اعتقدت في خلود الروح. فقد كان استعداد المسيحيين للموت طاغياً وهو ما ينذر بالفتنة المدنية. فليس تقوم للنظام المدني قائمة إذا كانت إراقة الدماء على قفا من يشيل. فلو كان للسياسة من معنى فعليها أن تهمش غرائزنا للموت أو تبطل من مفعولها ما استطاعت. فلابد لنا من توقير الحياة إذا أردنا للمجتمع المدني أن ينشأ ويستتب. ولذا جعل هوبز للدولة وحدها سلطة الحياة والموت على الناس. ومن رموز ذلك أنه لا يُعدم أحد في الدولة في زمننا بعد حكم القضاء عليه إلا بعد تصديق من الوالي أياً كان. وصار من دارج الحديث قولنا إن عمل السياسة يكف متى ارتكبنا العنف. فالقتل من أجل السياسة هو قتل للسياسة نفسها في نهاية المطاف.
وحملت شاغلي عن اقتصاد الاستشهاد إلى لقاء تفاكري لصفوة الرأي في الدوحة في 2012. وعرضت عليهم مشروعات قرارات ثلاث ليتبناها اللقاء ويسهر على تنفيذها ليفكك اقتصاد الاستشهاد القبيح في خاتمة الأمر. وهي مشروعات سفحتُ عليها أرقي على فقد رفاقي في 1971 وتشرد جثامينهم غير مطلولة بتقاليد الرحيل المسلمة، يعركها الصدأ في الفلوات. وكان القرار الأول عن "طي سجل عنف الدولة والعنف المضاد"، والثاني عن "حق المثوى الأخير للشهداء" والثالث عن "عنف الدولة وحق الاحتجاج". ولم تر صفوة اللقاء نفعاً منها واهملتها. وكان القرار الثالث بالذات في معنى البكاء على الحي. قلت فيه:
(باتت جمرة كبيرة من المواطنين غبينة من ضروب عنف الدولة الذي تعرضت له خلال احتجاجاتها السلمية على مطلب مشروع من مطالبها مثل تربص الدولة بديارهم بإخلائها لمشروعات حكومية مرتجلة، أو بدورهم بكسرها، أو حماية ميدان عام من تغول دود الأرض المستثمرين، أو وقاية بيئتهم من التلوث. وسقط في هذه المواجهات، التي بلا داع، قتلى وجرحى. حدث ذلك في الضعين، وسوبا، والباقير، وبري، وغابة متو بالقضارف، والقضارف نفسها، والجبلين، وكجبار، والمناصير، وبورتسودان وغيرها كثير. وكانت الرسالة واضحة لأهل المسائل الموجبة للاحتجاج أن الدولة لا تسمع ولا ترى، وأن حقوق الناس في التعبير عن ظلامتهم يرقي إلى حرابة الحكومة. إن هذه الحادثات تؤرق الناس ما تزال وستظل ما لم يفتح ملفها من جديد بتحقيق منصف يضع نقاط المواجهات ومسؤولية الدولة وما اقترفه منسوبوها ويعوض المتضررين حتى يطوى الملف. إن الاحتجاج جزء كبير من حرية التعبير. ونريد من هذا التمرين للدولة في مراجعة سجلها في الاعتداء على المواطنين أن تربى مؤسساتها الشرطية والعدلية والأمنية على توقير المواطن وكفالة حقوقه. فلابد لهذه المؤسسات أن تتخلص بوعي وعزيمة من هذا التاريخ الفاسد لنثق في أنها أهل لسودان متصالح جديد).
لم تقع مذبحة سبتمبر يومها. ووقعت بعد عام من خروجي صريخاً في زملائي بالدوحة ألا ننفض من الدوحة إلا وقد تعاقدنا على ألا يضرج السياسة دم، وأن تصهل اقلامهم ووسائط إبداعهم بهذا المبدأ الذي كان فينا منذ الأزل. صدعت به أنتقوني غير هيابة ولا وجلة:
لو أذنت نفسي
أن يصدأ ابن أمي جثة بلا مأوى
ستكون تلك الفاجعة
ونعود إلى كلمة عن شهداء سبتمبر 2013 في كلمة أخرى. رحمهم الله، وتقبل منهم إحسانهم لوطنهم، وأنزلهم منازله الحسان.
البوستر أدناه من عمل الأستاذة زينب كمال الدين يوسف جميل

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil...

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن...

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m ...