عماد البليك------------نص حواري مع صحيفة الخرطوم عدد اليوم الثلاثاء.. اجراه محمد اسماعيل مسؤول الملف الثقافي بالصحيفة
نص حواري مع صحيفة الخرطوم عدد اليوم الثلاثاء.. اجراه محمد اسماعيل مسؤول الملف الثقافي بالصحيفة
بمناسبة صدور روايته الجديدة "شاورما"
الروائي عماد الدين البليك: الكتابة عندي تعلق بالعالم والحياة بحد ذاتها
الروائي عماد الدين البليك: الكتابة عندي تعلق بالعالم والحياة بحد ذاتها
- سؤال كلاسيكي.. كيف أصبحت كاتبا؟
-نشأت علاقتي مع الكتابة منذ صغري، حيث وجدت أنني أكتب الشعر في سن مبكرة، ومن ثم تطورت هذه العلاقة لأشكال أخرى من الكتابة واستقرت على السرد والكتابة الفكرية والمقال الأدبي والنقدي. ورغم أنني درست هندسة العمارة بجامعة الخرطوم وكنت أرسم إلا أن عالم المدونات استهواني أكثر، وبمرور الوقت وأنا أعمل بالصحافة التي اتخذتها مهنة لي منذ مدرجات الجامعة، باتت الكتابة عالمي الأول والمفضل، أجد فيها سلواي ونزهتي وأهرب من جمود العالم وحراكه المقلق أحيانا. وإذا كان صعب على الإنسان تتبع أي تجربة أو مكتسب في خط زمني فيمكنني القول باختصار أن الكتابة بالنسبة لي صارت تشكل مسألة تعلق بالعالم والحياة في حد ذاتها، بدأت منذ تلك الأيام الغابرة وامتدت لحاضري دون أن أكون قادرا على الفرز كيف نما هذا الخيط وتكثف مع الزمن.
- شاورما هي الخامسة في رصيدك الروائي.. ما الجديد في هذه الرواية؟
- إن تحديد الجديد في أي عمل إبداعي يخضع للمتلقى أكثر من ارتباطه بالكاتب نفسه، يمكن لي أن أطرح أفكارا معينة أو أتكلم عن طريقة تقنية جديدة أو أي تنظير من نوع ما، لكن المحك الأساسي هو القارئ والناقد. هل هما يحسان بشيء معين؟ هل ثمة جديد يقال؟. غير أنه بتبسيط السؤال فيمكنني القول بأن "شاورما" هي تجربة إنسانية خالصة حاولت فيها أن أنفذ إلى أزمتنا، أو قصة وطن جريح يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، هي قصتي أنا وأنت.. وهي حكاية حقب متتالية من الألم والأوجاع والحروب والقسوة التي باتت بديلا للألفة في الأمس القريب. لقد تغير المجتمع السوداني كثيرا، بفعل عوامل وظروف سياسية واقتصادية هذه السياقات المتداخلة والمربكة حاولت أن أقول عنها شيئا ما، في "شاورما".. من خلال قصة كفاح إنساني يقوده صبي يهرب من عائلته التي قد تكون ضحية هذه التغيرات الكبيرة في كيمياء المجتمع وتحولاته.. ويستطيع هذا الفتى أن يصنع مجده ويبني حياته بعيدا عن الأنظمة الروتينية والتقليد ليصبح ما يريد، مجتازا لكل أصناف العذابات والتحديات وهي رحلة طويلة يصعب اختصارها هنا. تنتهي ربما بالفوز وكسب الرهان.. لست أدري.. هذا يخضع لتقدير القارئ.
- تمارس العمل الصحفي.. ماذا أضافت لك الصحافة كروائي؟
- كثير جدا ما أضافته لي الصحافة في كتابة الرواية، رغم أن هناك من يرى أن الصحافة عدو الكتابة الإبداعية ساعة يتعلق الأمر بسرقتها الوقت وكونها تحول الكتابة إلى عمل روتيني وممل أحيانا، بالإضافة إلى أن الصحفي يصبح تقريريا وممنهجا أكثر من باحث مكدّ في جذور اللغة والهويات المتشظية من حوله. لكنني أنظر إلى المسألة بطريقتي الخاصة، وأؤمن بأن التجارب الإنسانية متباينة، كل يرى الأمور بناصيته. المهم أن الصحافة قدمت لي التزاما أخلاقيا باتجاه أن أصبح كاتبا محترفا، بأن تكون عملية الكتابة جزءا من واجبي اليومي وشكل علاقتي الحميمة مع الوجود، وأن أكتب بناء على برنامج زمني معين لأنه ثمة فرق بين أن تهوى الشيء وأن تحترفه بأن تفهم الأصول والمناهج وتفكر بطريقة عملية ومدروسة. كذلك فإن عالم الصحافة من خلال العمل الميداني والالتصاق اليومي بالأخبار التي تأتيك كثيفة ومعمقة بالاقتراب من المصادر، كل ذلك يفتح الذهن باتجاه رؤية مساحات أكثر قربا من الوقائع وحراك الناس في الحياة. فالصحافة هي محصلة لما يحدث في المجتمعات وفي السياسة وفي الاقتصاد، هي سرديات يومية تقدم كبسولات للثابت والمتغير في العالم عموما. كل ذلك أفادني في تشكيل الرؤى الروائية والعوالم المختلفة وأحيانا في بعض أساليب السرد الذي هو عملية معقدة، فبناء بعض الأعمال الروائية قد يعتمد على الفضاء الصحفي أو التقريري البحت، وقد فعلت ذلك في روايتي "دنيا عدي" التي هي أشبه بوثيقة صحفية تتضمن الوثائق بجوار الوقائع والتخييل.
- يرى البعض أن الكتابة متنفس والبديل للعالم، قل لي لماذا الكتابة.. بل لماذا تكتب؟
- أحيانا يصعب على المرء أن يجد الإجابات الدقيقة على بعض الأسئلة على شاكلة سؤال الكتابة، بل أن كثيرا من الأفعال المرتبطة بعملية الفن والإبداع غير ذات تفسير واضح من حيث المنطلقات والأهداف الملموسة. لكن بالنسبة لي يمكن أن أفهم الكتابة على أنها محاولة لإعادة إنتاج العالم بطريقتي الخاصة، ففي الحياة من حولنا كثير من الأمور المعقدة التي نحاول أن نفهمها وكثير من الأحلام التي نسعى لأن نحققها، وحكايات غامضة وأخرى مكشوفة تماما.. إن الكتابة هي محاولة أن نصوغ جوهرا للأشكال الفارغة وأن نفرغ المعاني أيضا والاستحقاقات.. ليس في الكتابة قداسة، بل هي ظنون دائمة. إنها شك مستمر في إمكانية كل شيء وفي حدوده، في ألفته وفي جدارته.. وهي نوع من الحاسة الإنسانية التي تفكر خارج حدود الممكن لإيجاده وتخليقه بحيث يسعى حيا وممكنا. ومع ذلك قد يحدث ما اسميته التنفيس أو البديل.. أو أن تتحقق المتعة أو لذة الكتابة أو غيرها من المعاني، التي تحرر الإنسان من القلق والآن وصيرورة الزمن وانغلاقه.
- كتبت الشعر والرواية.. ولك أعمال أخرى.. أين أنت من كل هذا؟
- صعب عليّ أن أقيس المسافة التي أقف فيها.. فشكل علاقة النص بالكاتب أو الفن بالفنان.. أمر جدلي ومتغير يخضع لظرفيات شتى، منها نفسية الفنان نفسه كذلك عوامل متعلقة بالمعيار التاريخي والنفساني للذات الجمعية أو المجتمع.. ولكن من ناحية عملية وواقعية فالشعر بالنسبة لي أصبح جزءا من الماضي إلا في حدود الذاكرة التي تشكل الحاضر، بمعنى آخر هو موجود بطريقة أخرى ومن خلال بعث من نوع آخر، ليس هو الشعر الذي كنت أعرفه في الصبا ولا الآن. كذلك فإن الرواية هي في حد ذاتها متغيرة من خلال فنون الاكتساب والخبرات والقراءة وشكل الوعي المتنامي للإنسان مع العالم، فحقيقة الكائن اليوم هي ليست حقيقته بالأمس. بالتالي فإن البحث عن "أين أنت؟" ستظل ملتبسة وغامضة وهي سردية غيبية بقدر وضوحها في بعض المرات النادرة.
- يقول الروائي الأمريكي هنري ميللر.."إنني أعد السياسة تماما عالما خبيثا".. لماذا برائيك وأيهما أصح ثقافة السياسة أم سياسة الثقافة؟
- لا أتفق تماما مع هذه المقولة.. السياسة يمكن أن تكون عملا صالحا ينفع الناس إذا ما فهمت كيف تراعي مصالحهم وتنظر إلى مستقبلهم بشكل أفضل، ولكن هي صحيحة في حدود تجليات الواقع والممارسات التي نراها في كثير من المجتمعات من نفعية السياسي وحرصه على المصالح الذاتية والآنية، دون رد اعتبار للجانب المضيء أو المشرق والمفترض أن يتحقق أصلا من خلال الأداء السياسي.. أما بخصوص علاقة الثقافة بالسياسة، فهي مسألة جدلية.. ولكي نصل لمعطى صحيح فإن الحديث يكون عن علاقة تكاملية وليس رفد طرف لآخر بوصفه الدائرة الأكثر اتساعا. ولكي نكون منصفين فالمثقف له إشكالاته كما السياسي.. لا أحد بريء.. إن الأزمة كلية وشاملة ولا تقف عند طرف دون آخر، بالتالي فالحديث عن قيادة طرف لثانٍ لن يكون مجديا أو لن يعطى النتائج الإيجابية. لهذا يجب أن نبحث عن مشتقات إبداعية جديدة في تشكيل علاقات الأنساق المختلفة داخل المجتمعات: السياسيون، المثقفون، النخب بشكل عام، علماء الدين، الفلاسفة، المهنيون، إلخ.. هذه العلاقة المبتكرة يجب أن تقوم بناء على وعي متجدد وقراءة للراهن تسندها أنماط غير تقليدية في وعي الحياة والمجتمع والعالم عموما.
- كيف تنظر إلى حركة السرد الروائي في السودان؟
- إلى مطلع هذا القرن الجديد.. ربما كانت حركة السرد السودانية ضعيفة بل محدودة جدا، لا نكاد نذكر إلا اسماء بعينها، وكان الشعر إلى نهاية القرن العشرين هو المهيمن بشكل تقريبي على المشهد الإبداعي السوداني، انعكس ذلك في اسماء بارزة من الشعراء الذين رسخوا تجارب ثرة وباقية، من مختلف المدارس ومن القصيدة العمودية إلى النثر الحديث. لكن ومنذ نهاية التسعينات برز جيل جديد سيطر عنده هاجس السرد، بل إن هناك شعراء اتجهوا إلى كتابة الرواية بالتحديد.. لأن القصة القصيرة ضعف وجودها أيضا. ربما لأن الرواية لها قدرة على استنطاق الواقع وكتابة مدونة الحياة الأكثر تعقيدا وقدرتها على الإفصاح.. وأسباب أخرى تحتاج لمساحات واسعة تفصيلا، يلخصها أمر واحد في تقديري أن السرد يلبي حاجة عصرية ربما لغموضه الذي يشبه غموض الحياة المعاصرة. وبالنسبة لهذا الثراء السردي، فقد ساعدت حركة النشر لاسيما في الخارج، في كثافته، يضاف لذلك وسائط الاتصال الأكثر حداثة كالإنترنت، وهو سرد متنوع وجديد ويشتغل على أبعاد مختلفة من الواقع السوداني أو القضايا الإنسانية بشكل عام، لأن مسألة المحلي بنظري لم تعد هي المحك الأول كما كان الأمر في السابق، فالإنسان اليوم أو المبدع تحديدا هو جزء من إطار كوني شامل، ولهذا بتنا نقرأ روايات خرجت عن فضاء السودان أو البطل المنتمي للمكان، كذلك فإن الوجود في حيز المكان التقليدي نفسه خضع لإعادة تركيب وتعريف. لكن هذا الحصاد السردي المتسع لم يقرأ إلا الآن وفق قراءات معمقة ومتكاملة وليس مجرد مقالات أو دراسات مصغرة عابرة. ويعود ذلك لضعف الحركة النقدية المؤسسية في السودان، وهذا لا يتحمل تبعاته النقاد وحدهم، فهناك من هم جادون ويعملون بإخلاص في هذا المجال الحيوي، ولهم إسهامات جلية. لكن الإشكال يكمن في ضغوط الواقع السوداني بشكل عام، فالحياة باتت عسيرة في كافة النواحي والعامل الاقتصادي بات مهيمنا بوضوح. إن كثيرا من مسائلنا الحيوية ضعفت أو ماتت مع الوقت لأن سنوات الشظف والحروب والانقسامات خصمت منا كل شيء.. تقريبا. كما أن مغامرة النقد لا تزال بمنظور البعض الحلقة الأضعف في الإبداع، وهذا طبعا غير صحيح..
- كيف ترى رأى النقاد أن الطيب صالح أصبح سقفا يصعب تجاوزه؟
- الطيب صالح دون شك هو مؤسس حركة السرد الحديث في السودان، والأب الشرعي للرواية في بلادنا، ويرجع ذلك لأسباب تتعلق بمقومات نصوصه في حد ذاتها التي لا تقرأ بمعزل عن تجربته الحياتية عموما وخبراته الوجودية. كذلك لأسباب تتعلق بالعامل الزمني، فالرواد هم أناس يأتون في البدايات ليحملوا قصب السبق في التشكيل والابتكار والإضافة. لكني لا اتفق مع ما يقال عن مسألة السقوف هذه، لأن الإبداع والفنون ليست رسالات سماوية يتم ختمها، بل هي تجارب إنسانية تأخذ من المعطيات الزمنية المعينة وترفدها، فالمسألة تتعلق بدورة زمنية لابد منها، هذه هي طبيعة الحياة وسنتها، والشعر السوداني مر بمراحل كهذه من لدن التيجاني يوسف بشير إلى محمد عبد الحي وغيرهما.. غير أن هناك إشكال عام في الثقافة السودانية أو العقل الجمعي، يتعلق بالتقديس المطلق في بعض الأحيان، ففي السياسة على سبيل المثال نجد الوجوه نفسها تهيمن وهيمنت لعشرات السنين، ففي حين لا نتذكر من كان رئيس وزراء بريطانيا في الستينات أو السبعينات، سيكون سهلا التذكر للسودان لأن الأسماء نفسها يتم تدويرها، وهذا ينطبق على حقول كثيرة بل معظم الحقول الإنسانية والمجالات الحياتية، بما في ذلك الأدب. هذه نقطة تتعلق بالمجتمع وعوامل التغيير والقدرة على التكيف مع الجديد وغيرها من المسائل المعقدة التي ترتبط بفهمنا للذات الكلية للمجتمع، وماذا نريد بالضبط؟ نحن مجتمع لدينا إشكالات معقدة وصعبة وأبجديات لم تحل بعد في إدراك العقل السوداني وفي الهوية المتشظية وغيرها من المسائل. كل ذلك له بعده المنعكس بوضوح في مسألة السقوفات والإيمان بسلطة الأمس أو الماضي. كما في الغناء مثلا فإلى اليوم تظل أغاني فترة الحقيبة هي الصندوق المرجعي للإبداع وألف باء تاء ثاء، الطرب. ففي حين أن كثيرا من الشعوب قفزت باتجاه المستقبل ما زلنا في كثير من قضايانا الإبداعية كانت أم السياسية حتى الحلول الاقتصادية نفكر بلسان الماضي وعقله، في حين أن العالم ذهب بعيدا عن النقطة التي نتكلم عنها ونتجادل بشأنها، ففكرة المثقف كما السياسي كما الاقتصادي كما أشياء كثيرة عندنا ما زالت مقولبة بطابع تراثي وبراغماتي كلاسيكي لا يمت للعصر ولا الحداثة بصلة.
- إلى أي حد يمكن للروائي أن يفيد من الوثائق التاريخية في الكتابة.. هل لك أن تحدثنا كيف تستمد شخصياتك وأبطال رواياتك؟
- نعم هناك أعمال روائية تعتمد على الوثائق التاريخية، لكن الوثيقة في الرواية لا تمثل "الحقيقة" ولا التاريخ، إنها تقرأ ضمن السياق الكلي للعمل، ولا علاقة لها بالتاريخ الخارجي.. فالرواية التاريخية ليست هي تاريخا بقدر ما تأخذ منه، كما أن الوثائق تخضع لإعادة الرؤية والتشكيل والقراءة.. وهي مسألة يحكمها مدى التخيل وقدرة الروائي وكذلك الفكرة التي يتحرك بشأنها في العمل الروائي. وبقدر ما تكون الوثيقة أحيانا مهمة وجيدة ومفيدة فهي أحيانا تضر الرواية إذا لم توظف بالشكل السديد، أما كيف يحدث ذلك؟!.. فلا يمكن الحكم ولا الإجابة إلا من خلال النص المعين الذي نقوم على دراسته وقراءته. أما بخصوص أبطال رواياتي، فأنا أعمل على محورين. لدي أعمال روائية أبطالها أناس حقيقيون وموجودون معنا في هذا العالم سواء رحلوا أم كانوا أحياء، كما في رواية "دنيا عدي" وبطلها هو عدي نجل الرئيس العراقي الاسبق صدام حسين، أو رواية "القط المقدس" التي فيها العديد من الشخصيات الواقعية مثل شارل ديغول وسارتر وسيمون دي بوفوار، فبطلها الأساسي هو الرسام الفرنسي المعروف بالتوس ذو الأصول البولندية وأحداثها تدور في فرنسا، وهناك رواية لم أنشرها بعد بعنوان "رسام الآلهة" بطلها الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، لكن هذا لا يعني أنني أكتب تاريخا أو أحاكي الشخصية الواقعية، إذ أنني ابتكر عالما موازيا لا يمكن فهمه إلا من خلال النص نفسه، فالقذافي داخل الرواية لا وجود له خارجها حتى لو اعتمد على الأصل في المسمى على الأقل. في روايات أخرى لدي أناس من اختراعي الشخصي قد يستند بعضهم على شخصيات عرفتها أم لا، ليس هذا ضروريا لأن الشخصيات النهائية هي ملكي الخاص في تفاصيلها ومكتسبها وحياتها داخل النص.
-هل تعتقد أن الروائي يمكن أن يعتمد على المخيلة والذاكرة؟
- لا بالطبع.. هذه نظرية ضعيفة في الإبداع وفي الكتابة الروائية.. فالخيال وحده لا يكفي.. كما الذاكرة ليست هي الداعم المركزي للسرد. المسألة أعقد منذ بكثير في الرواية الحديثة، حيث أن النص الروائي هو محصلة قراءات وتحليل ودراسات غير مرئية يقوم بها الكاتب تنعكس نتائجها في النص النهائي. إن كتابة رواية اليوم ليست نزهة كما قال أحدهم. بل هي عملية تشبه تشييد مبنى عملاق، لابد من خبرات أولية وموهبة في البدء.. لكن لابد أيضا من كدّ وجلد وعمل مضن يقوم به الكاتب، وأحيانا الرجوع لتفاصيل لا تخطر على البال.. في بعض الأحيان كنت استخدم خرائط جوجل للوصول إلى معالم معينة ومراقبة مواقعها ورؤية نقاط محددة.. هذا لا يعني أن الرواية هي نقل حرفي للواقع.. يعني بدقة أن الرواية هي عمل بقدر ما هو أدبي وتخيلي وإبداعي هو موضوعي ومنطقي وعلمي داخل حيز النص بين دفتي كتاب.
- كيف ترى حضورك الإبداعي في ظل الحضور الخجول للرواية السودانية عربيا ودوليا؟ وإلى أي جيل روائي تنتمي؟
- لا أعلم بالضبط.. قد يكون لي قراء من أجيال مختلفة وبلدان عربية بحكم تنقلي وعيشي خارج السودان.. لكن أن أحدد حجم حضوري هذا ليس هاجسي ولا أعرف تماما.. في الإبداع المسألة ليست كمية بقدر ما هي نوعية أحيانا.. كما أن كثيرا من التجارب تحتاج إلى وقت كي تقرأ وتوضع في سياقاتها الصحيحة والممكنة. هذا ما نتعلمه من صيرورة التاريخ الأدبي. أما موقعي وسط الأجيال، فأنا كتبت الرواية في الألفية الثالثة رغم أن محاولات غير منشورة سبقت ذلك، لا اعرف كيف أصنف الأشياء بالمدى الزمني بدقة. لكن يمكن القول انني من جيل حاضر ومعاصر يحاول ان يضع بصمة في التاريخ الثقافي السوداني اليوم، من خلال السرد كأداة نحاول بها أن نفهم الحياة.
- كيف ترى نصك الروائي في ضوء تقنيات النص الحديث؟
- هذه مهمة النقاد والباحثين في هذا الإطار.. أنا أفكر أحيانا بشكل تجريبي في النصوص التي أكتبها، وأفكر من داخل موقعي في التاريخ وزماني الراهن.. وبالتالي داخل أطر ما بعد الحداثة إن جاز التعبير، لكن المحصلات ليست هي مسؤوليتي في تعريف موقع نصوصي. أحيانا تكتب لتكتشف أن الناقد يقول شيئا مختلفا أو أن القارئ يكتشف أشياء لم تخطر ببالك.. وفي التقنيات بالتحديد.. لا أحد يسمي نفسه مجددا من خلال التنظير. فالتجربة والنص هما الحكم الأول والأخير.
- ما هي الآراء التي وصلتك حول رواية شاورما؟
- بحمد الله وخلال أقل من شهر من صدورها وجدت شاورما صدى طيبا في الأوساط المحلية والعربية، فقد نشرت عنها العديد من القراءات النقدية، في حين أن التغطيات حولها تكاد تكون قد شملت أغلب الصحف والوسائط الإعلامية العربية وصعب علي عدها أو ملاحقتها، كما أن هناك عروض وردتني لترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية، وهو أمر ليس لدي تفسير له حاليا. لم يحدث ذلك مع أعمالي السابقة. أنا سعيد لكون هذا النص يجد حظه ليفتح الطريق لنصوص أخرى كتبتها سابقا لم تجد الاهتمام الكافي. ربما أن روح والدي هي السبب فقد أهديت له هذا النص، والذي كتبته بعد رحيله مباشرة في رمضان قبل الماضي.
- أخيرا ما الذي يشغلك؟
- أشياء كثيرة جدا.. أفكر في أكثر من نص.. وأحاول مع كل عمل جديد أن أكتشف نفسي بشكل مختلف. هل أنجح في ذلك.. لا أدري!..
Comments
Post a Comment