قراءة في خطاب «مودي»
في لقائه مع الجالية الهندية، الذي جرى في استاد دبي للكريكت بمدينة دبي الرياضية، مختتماً زيارته لدولة الإمارات، قال رئيس الوزراء الهندي «ناريندرا مودي» موجهاً حديثه للآلاف الذين احتشدوا في أرض الاستاد الذي يستوعب 30 ألف شخص: «تأتي إلى الإمارات أسبوعياً أكثر من 700 رحلة جوية، وليس هناك مثيل لهذا الاتفاق الملاحي بين أي دولتين أخريين في العالم، ورغم ذلك تأخرت زيارة رئيس الوزراء الهندي للإمارات 34 عاماً».
هذه العبارة تلخص الكثير من الكلام حول زيارة رئيس الوزراء الهندي لدولة الإمارات؛ هذه الزيارة التي ألقت الكثير من الأسئلة حول توقيتها، والهدف منها، والنتائج التي تمخضت عنها.
لكنها أسئلة تصب إجاباتها جميعاً في صالح دولة الإمارات، وتعبر عن المنحى السليم الذي تنتهجه قيادة الدولة في دبلوماسيتها المتوازنة والذكية، التي تعرف متى تتحرك، وكيف تتحرك، وإلى أي مسار توجه دفة علاقاتها مع الدول الأخرى، واضعة نصب عينيها مصلحة دولة الإمارات أولاً، ثم مصلحة الإقليم الذي تقع في نطاقه، ومصلحة الأمة العربية التي تنتمي إليها، تتأثر بكل ما يحدث في شتى أنحائها وتؤثر فيها، ولكن بشكل إيجابي يراعي مصالح شعوبها ولا ينتهك سيادتها، مهما حاول الآخرون تشويه الدور الذي يلعبه إسهام دولة الإمارات في قضايا شعوب هذه الأمة لحفظ وصيانة أوطانها من تدخلات الآخرين الذين يسعون لأهداف غير نبيلة، يعرفها الجميع ولا تخفى على أحد.
في كلمته التي يجب أن نقرأها بشكل جيد، قال رئيس الوزراء الهندي أيضاً: «أفكر أحياناً أن الجيل الماضي ترك لي الكثير من الأعمال الجليلة كي أقوم بها، لذلك تشرفت بالقيام بالكثير من الأعمال الجليلة التي تركوها لي، ومن هذه الأعمال زيارتي لأبوظبي ودبي».
وأضاف: «هذا أول لقاء لي مع حكام الإمارات، وأول زيارة لي لأرض الإمارات، وبعد 34 عاماً يأتي رئيس وزراء هندي إلى الإمارات؟! لحكام الإمارات الحق في أن يعتبوا علينا، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل قابلوا تأخيرنا بكل الحب والود، وغمرونا بحبهم وتقديرهم، ولن أنسى ذلك ما حييت».
هذا الشعور بالحب والاحترام والتقدير لحكام الإمارات لم يأت من فراغ، وليس وليد الزيارة التي التقى فيها رئيس الوزراء الهندي بقادة الإمارات فقط، وإنما هو نتيجة السياسة الممتدة التي انتهجتها دولة الإمارات منذ قيامها وحتى اليوم، بدءاً من المؤسسين الأوائل بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وحتى هذا الجيل الذي يقوده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله. وهو جيل يقدم كل يوم الدليل والبرهان على أنه يسير على نهج الآباء المؤسسين، لم يحد عنه قيد أنملة، بل مضى يبني عليه ويعلي الصرح، حتى أصبحت دولة الإمارات نموذجاً مشرفاً، تحتذي به الدول المتطلعة للنجاح في كل مجال، وعلى رأسها السياسة الحكيمة والمتوازنة التي تنتهجها قيادتها، واضعة مصلحة البلد والأمة فوق كل اعتبار، ضاربة المثل والقدوة في وضوح الرؤية، وثبات الموقف، ونبل الهدف.
يتضح هذا جيداً في قول رئيس الوزراء الهندي أثناء لقائه بالجالية الهندية: «هناك من يجلس إلى طاولة الحوار ثم يرتكب أعمالاً إرهابية، ويقتل الأبرياء.
وهنا ولي عهد أبوظبي يعدنا بتقديم أرض لنبني عليها معبداً هندوسياً ... والآن أخبروني، ألا تستحق هذه الهبة منا كل الثناء والتقدير؟ لذلك أدعوكم جميعاً أن تصفقوا تعبيراً عن شكركم لولي عهد أبوظبي. صفقوا جميعاً لولي عهد أبوظبي، وقدموا له كل الاحترام والتقدير».
هذه الخطوة الواثقة من قيادة دولة الإمارات، رغم كل ما أثارته من ردود أفعال إيجابية كثيرة، استغلها المغرضون الذين يصطادون في المياه العكرة لشن هجوم على دولة الإمارات وقيادتها، والتنفيس عن حقدهم الدفين، متجاهلين أنها تعبر عن الفكر المستنير الذي تنبع منه سياسة دولة الإمارات الحكيمة والمتوازنة، وعن الإيمان الراسخ بحق الجميع في ممارسة عباداتهم وطقوسهم بحرية تامة، ما دامت هذه الممارسة لا تنتهك حقوق الآخرين ولا تضرّ بها.
والجالية الهندية في دولة الإمارات تُعدّ أكبر الجاليات المقيمة في الدولة عدداً وتأثيراً في اقتصاد الدولة، حيث يبلغ أفرادها مليونين ونصف مليون، يدين جزء كبير منهم بالديانة الهندوسية، والإمارات دولة تؤمن بالتسامح والتعايش بين البشر، لذلك سنت قانوناً يكافح التمييز والكراهية، ولهذا جاء تعبير رئيس الوزراء الهندي في خطابه عن هذه الخطوة، وعن زيارته لدولة الإمارات بشكل عام، ملخصاً لهذه الفكرة، حيث قال: «إن الثقة المتبادلة أهم من اللغة والثقافة والعادات والتقاليد. وخلال زيارتي التي امتدت يومين أستطيع القول بثقة إن دولة الإمارات وضعت أساساً راسخاً سيبقى حاضراً لأجيال كثيرة قادمة».
هذه قراءة سريعة لما جاء في الخطاب، وهناك تفاصيل كثيرة تضمنها البيان الختامي، أهمها أن الزيارة تدل على «انطلاقة نحو شراكة استراتيجية جديدة وشاملة بين الهند والإمارات، في عالم يشهد تحولات عدة، وفرصاً وتحديات متغيرة».
ربما رأى البعض في الزيارة رسائل موجهة إلى بعض الحلفاء والأصدقاء الذين خيبوا ظننا في بعض المواقف التي كانت تتطلب منهم قرارات إيجابية صريحة لصالحنا، لكنهم لم يفعلوا. فلتكن كذلك، وما الذي يمنع أن ننحاز إلى مصالحنا مثلما يفعل الآخرون عندما ينحازون إلى مصالحهم، أليست السياسة هي فن الممكن؟ وفن الممكن هنا هو دراسة وتغيير الواقع السياسي، وليس الخضوع له وعدم تغييره كما يعتقد البعض خطأ.
Comments
Post a Comment