اشراقة مصطفى حامد -------من ذاكرة القطار:
ذاكرتى احتفظت بقطارين, قطر نيالا القادم من غرب البلاد وقطار (الباخرة) الذى تبدأ عجلاته هادرة بأحلام عمال السكة حديد مثلما ظلت بيوت السكة حديد مفتوحة على مصراعي الكرم، مستورة الحال وقانعة ، بيوت وسعت الراحلين والقادمين برحابة النفس ورائحة الطعام الشهية حين تنهز المصارين من الجوع، الزلابية بشاي اللبن، الفول ... والجود بالموجود.. لكم هم كرماء..
وجه تلك المرأة يستولي عليّ الآن، احتضنتني ودمعة حارة انسابت على أخدود خدها وأنا أمدّ لها يدي الصغيرة مودعة، كأنها تعرفني منذ الميلاد، كأني ولدت في حجرها.. كم كان حضنها دافئاً
تهدأ الشجارات، تخفت الأصوات العالية، تبدأ الحكايات
عجوزان طفقا يحكيان عن عنبر جودة فتسربت في حكايات جدي الذي كان يعمل شرطياً انطفأت حينها عينه اليمنى لتبقى شاهدة تحكي عن تاريخ مازال يحزنني ويبكيني، فالقصة التى وقعت فى مدينة جودة التى تقع بالقرب من كوستى وهى عباره عن ارض زراعية. كنت اسمع الحكاية من جدى وتدمع عينيه حتى تلك المنطفئة قبل ان اقرأ لاحقا عن الفضيحة التاريخية التى راحت ضحيتها ارواحا بالاختناق كل جريرتهم انهم تجمعوا للمطالبة بحقوقهم العادلة وكان ذلك فى ظل اول حكومة (وطنية) بعد الاستقلال فى فبراير 1956 اذ تصدت لهم السلطات وحبستهم فى عنبر للمبيدات مساحته 7*20 متر ليس فيه لا ماء ولا منفذ للهواء ولا دورات للمياه فمات 198 اختناقا. هكذا اذن كانت بداية (التحرير والتعمير)؟!
حين تكور وعى السياسى قبل انفجاره لاعرف حجم المأساة كنت اردد قصيدة الشاعر السودانى صلاح احمد إبراهيم (عشرون دستة من البشر).
(لو أنهم حزمةُ جرجير يُعدُّ كى يُباع
.......
....
كانت هناك عشرون دستة من البشر
تموت بالارهاق
تموت بالاختناق)
يبدو لى ان نواة وعى تفتقت فى تلك القاطرة ومازال الشيخان يسردان باسى بالغ طفح فى تجاعيد السنين على وجيههما عن (عنبر جودة).
قبالتي تجلس امرأتان، تحمل إحداهن طفلها الوليد وتحكيان همساً ويتقلص وجه هذى ويتفرح وجه تلك ووجهي الصغير يتقلص وينفرج مع درامية خصوبة الحكي. اشارت احداهن الى الجهة العكسية فى القاطرة حيث تفوح رائحة عطرة, كانت من جهة العروسة الصغيرة رائحة الصندل ويلمع وجهها المدهون، يبان عليها التعب والتوجس، الحناء تلمع في يدى عريسها وهو يقسم بالطلاق ثلاثاً أن تقبل المرأة العجوز قبالتهما بفخذ دجاجة أعدت خصيصاً للعروسين.
ما كان يشغلني حينها أن يتركنا الكبار نلعب كما نشتهي إذ أن النوم كان مستحيلاً حتى وإن هدأت عجلات القطار لأن البعوض الشهير لا يترك عاداته في الطنين..
يزحف قطار الغرب عابِراً جبل أموية، جبل دود، سنار التقاطع، سنار المدينة، و(يحتل) في ود الحداد فالحاج عبد الله بها مشكلة ما
يغادر البعض في سنار ، وداع ودموع ، سماح وغفران
- أعفي لي النبي الموت والحياة ما معروفة
ومن ثنايا الدمع يكتبون عناوينهم ويتبادلونها، لكني ظللت أتابع أكثر تلك الفتاة التي اختلست طرفة حُلمٍ لذي العشرين ربيعاً وتورد قلبها وأندلق الدم حاراً وهى تواري دمعتها وقدميها تتعثران وهى تغادر باب القطار.. آه لو كان فارس الحلم، شخصت ببصرها وهو يدس ورقة صغيرة في يدها يبثها لهباً من وميض عينيها، تعويذة العشق الأول، الآن أعرف سر فرهدة خديها..
قطار الغرب يشد الرحال بصبر ووفاء، لا يكل ولا يمل، وهب تلك الصبية دفء ذو مزامير.
يأتي عم الكمساري بشكل صارم القسمات ويقسم أن لم تدفع فارق التذكرة أن تغادر القطار المحطة القادمة:
- لا علي اليمين أنزلك في جبل دود وأن ما عجبك في النص ..
الرجل الخمسيني يحاجج، يشرح الظروف القاسية الوجه الصلب للكمساري تنفرج أساريره ، يسأله من أهله فينبري يحكى له عن نيالا، فيقاطعه:
- يا سلام، نيالا فيها أهلاً عزاز بالحيل، ناس عبد الرسول، بتعرفهم هم أصلهم من الجنينه سكنوا رمضان الفات في (نيالا).
ويسترسل عم الكمساري...
كم تدهشني الآن هذه الأريحية، الكمساري الذي يتجهم وجهه حين يغادر قطار الغرب كل الركاب وتتنحنح دمعة تقاوم بكاء الرجال الغلابة..
بشر ذوي سحنات مختلفة،... يتصافحون، يتخاصمون لسويعات ثم سرعان ما يقتسمون الخبز والحكاية، منهم ومنهن تعلمت دندنات الوداع الحنينة، حين تنجرف دمعة حارة تختصر المسافة من مدينة الأبيض لمدينة سنار التقاطع في رحابة الناس الطيبين.
وجه تلك المرأة يستولي عليّ الآن، احتضنتني ودمعة حارة انسابت على أخدود خدها وأنا أمدّ لها يدي الصغيرة مودعة، كأنها تعرفني منذ الميلاد، كأني ولدت في حجرها.. كم كان حضنها دافئاً
تهدأ الشجارات، تخفت الأصوات العالية، تبدأ الحكايات
عجوزان طفقا يحكيان عن عنبر جودة فتسربت في حكايات جدي الذي كان يعمل شرطياً انطفأت حينها عينه اليمنى لتبقى شاهدة تحكي عن تاريخ مازال يحزنني ويبكيني، فالقصة التى وقعت فى مدينة جودة التى تقع بالقرب من كوستى وهى عباره عن ارض زراعية. كنت اسمع الحكاية من جدى وتدمع عينيه حتى تلك المنطفئة قبل ان اقرأ لاحقا عن الفضيحة التاريخية التى راحت ضحيتها ارواحا بالاختناق كل جريرتهم انهم تجمعوا للمطالبة بحقوقهم العادلة وكان ذلك فى ظل اول حكومة (وطنية) بعد الاستقلال فى فبراير 1956 اذ تصدت لهم السلطات وحبستهم فى عنبر للمبيدات مساحته 7*20 متر ليس فيه لا ماء ولا منفذ للهواء ولا دورات للمياه فمات 198 اختناقا. هكذا اذن كانت بداية (التحرير والتعمير)؟!
حين تكور وعى السياسى قبل انفجاره لاعرف حجم المأساة كنت اردد قصيدة الشاعر السودانى صلاح احمد إبراهيم (عشرون دستة من البشر).
(لو أنهم حزمةُ جرجير يُعدُّ كى يُباع
.......
....
كانت هناك عشرون دستة من البشر
تموت بالارهاق
تموت بالاختناق)
يبدو لى ان نواة وعى تفتقت فى تلك القاطرة ومازال الشيخان يسردان باسى بالغ طفح فى تجاعيد السنين على وجيههما عن (عنبر جودة).
قبالتي تجلس امرأتان، تحمل إحداهن طفلها الوليد وتحكيان همساً ويتقلص وجه هذى ويتفرح وجه تلك ووجهي الصغير يتقلص وينفرج مع درامية خصوبة الحكي. اشارت احداهن الى الجهة العكسية فى القاطرة حيث تفوح رائحة عطرة, كانت من جهة العروسة الصغيرة رائحة الصندل ويلمع وجهها المدهون، يبان عليها التعب والتوجس، الحناء تلمع في يدى عريسها وهو يقسم بالطلاق ثلاثاً أن تقبل المرأة العجوز قبالتهما بفخذ دجاجة أعدت خصيصاً للعروسين.
ما كان يشغلني حينها أن يتركنا الكبار نلعب كما نشتهي إذ أن النوم كان مستحيلاً حتى وإن هدأت عجلات القطار لأن البعوض الشهير لا يترك عاداته في الطنين..
يزحف قطار الغرب عابِراً جبل أموية، جبل دود، سنار التقاطع، سنار المدينة، و(يحتل) في ود الحداد فالحاج عبد الله بها مشكلة ما
يغادر البعض في سنار ، وداع ودموع ، سماح وغفران
- أعفي لي النبي الموت والحياة ما معروفة
ومن ثنايا الدمع يكتبون عناوينهم ويتبادلونها، لكني ظللت أتابع أكثر تلك الفتاة التي اختلست طرفة حُلمٍ لذي العشرين ربيعاً وتورد قلبها وأندلق الدم حاراً وهى تواري دمعتها وقدميها تتعثران وهى تغادر باب القطار.. آه لو كان فارس الحلم، شخصت ببصرها وهو يدس ورقة صغيرة في يدها يبثها لهباً من وميض عينيها، تعويذة العشق الأول، الآن أعرف سر فرهدة خديها..
قطار الغرب يشد الرحال بصبر ووفاء، لا يكل ولا يمل، وهب تلك الصبية دفء ذو مزامير.
يأتي عم الكمساري بشكل صارم القسمات ويقسم أن لم تدفع فارق التذكرة أن تغادر القطار المحطة القادمة:
- لا علي اليمين أنزلك في جبل دود وأن ما عجبك في النص ..
الرجل الخمسيني يحاجج، يشرح الظروف القاسية الوجه الصلب للكمساري تنفرج أساريره ، يسأله من أهله فينبري يحكى له عن نيالا، فيقاطعه:
- يا سلام، نيالا فيها أهلاً عزاز بالحيل، ناس عبد الرسول، بتعرفهم هم أصلهم من الجنينه سكنوا رمضان الفات في (نيالا).
ويسترسل عم الكمساري...
كم تدهشني الآن هذه الأريحية، الكمساري الذي يتجهم وجهه حين يغادر قطار الغرب كل الركاب وتتنحنح دمعة تقاوم بكاء الرجال الغلابة..
بشر ذوي سحنات مختلفة،... يتصافحون، يتخاصمون لسويعات ثم سرعان ما يقتسمون الخبز والحكاية، منهم ومنهن تعلمت دندنات الوداع الحنينة، حين تنجرف دمعة حارة تختصر المسافة من مدينة الأبيض لمدينة سنار التقاطع في رحابة الناس الطيبين.
فى الاسفار حكم ودروس, حكايات آسرة واخرى بلورت وعى ضد الحروب.
كنت عائدة من اجازة مع جدتى وكان عمرى ثمانية سنوات. أذكر أنه كان يوم جمعه عصراً وتم إيقاف القطار في منتصف الكبرى الذي يربط بين مدينة ربك وكوستي. كان ضرب الصواريخ يصك الآذن فدفنت جدتي رأسي في حضنها وهي تدعو الله تعالى أن يحمينا من موت النار وتعني الحرب سمعتهم يقولون ان هناك حرب فى مدينة الجزيرة ابا التى يفصل بينها وبين كوستى النيل الابيض. كانت المرة الأولى التى اسمع فيها صوت المدافع وسد الدخان المنافذ, تم اطفاء الانوار فى القطار و بين ظلمة الليل واليم تفجر لغم السؤال الذى رافقنى حتى الآن: لماذا الحرب؟ كنت اسمع أبى يحادث جارنا عن الحرب فى جنوب السودان, ارعبتنى الفكرة , مجرد الفكرة ارعبتنى ولم اتصور ان الحرب بهذا القبح الذى لامثيل له وكيف يكون الانسان قادرا على ان يقتل؟
لساعات طويلة كان الرصاص يتفرقع فى المكان, كنت اسمع الشهادة تتكرر ولم اكن اعرف ان الاصوات التى تداخلت وهى تصطك: (أشهدُ ان لا اله الا الله واشهدُ ان محمدا رسول الله.) تعنى ان الكل مستعد للموت. كان قعقعة المدافع تتوقف مرات لدقائق لتواصل رعبها. فى مرة استمرت طويلا, سمعت جدتى تتلو الشهادة وتدعونى ان اكرر معها. اختلطت الاصوات بنديهة بكل اسماء الله الحسنى وكل اسماء اولياء الله الصالحين ان ينجينا من موت النار والغرق.
لقد بقينا قرابة منتصف الليل حتى سمح للقطار أن يصل إلى المدينة ولازالت آثار الدخان والتي استمرت أياماً تلوح في سماء كوستي من البعيد. كان صوت الرصاص قاسياً أثار الرعب في أهل المدينة.
وبدأت الكوابيس تطال طفولتى, البعبع الأكبر الذي ظل يلاحقني في منامي هي صورة قبيحة لبيوت تهدمت وأجساد تفحمت وأرواح تحلق حول القمر تسأل عن سر الحرب؟ القمر وحده لم تستطع الحرب ودخان حرائقها وخرائب المكان أن تمحوا نوره وتعكر صفوه, ظل يؤكد لي أن السلام سوف ينتصر. لم أنسى هذه التجربة وظلت يقظة مع بدايات تفتح وعيي السياسي لمعرفة أس الأزمة السياسية في السودان , ومن قبل رسخت لموقفى المبدئى من الحروب اينما كانت.
كنت عائدة من اجازة مع جدتى وكان عمرى ثمانية سنوات. أذكر أنه كان يوم جمعه عصراً وتم إيقاف القطار في منتصف الكبرى الذي يربط بين مدينة ربك وكوستي. كان ضرب الصواريخ يصك الآذن فدفنت جدتي رأسي في حضنها وهي تدعو الله تعالى أن يحمينا من موت النار وتعني الحرب سمعتهم يقولون ان هناك حرب فى مدينة الجزيرة ابا التى يفصل بينها وبين كوستى النيل الابيض. كانت المرة الأولى التى اسمع فيها صوت المدافع وسد الدخان المنافذ, تم اطفاء الانوار فى القطار و بين ظلمة الليل واليم تفجر لغم السؤال الذى رافقنى حتى الآن: لماذا الحرب؟ كنت اسمع أبى يحادث جارنا عن الحرب فى جنوب السودان, ارعبتنى الفكرة , مجرد الفكرة ارعبتنى ولم اتصور ان الحرب بهذا القبح الذى لامثيل له وكيف يكون الانسان قادرا على ان يقتل؟
لساعات طويلة كان الرصاص يتفرقع فى المكان, كنت اسمع الشهادة تتكرر ولم اكن اعرف ان الاصوات التى تداخلت وهى تصطك: (أشهدُ ان لا اله الا الله واشهدُ ان محمدا رسول الله.) تعنى ان الكل مستعد للموت. كان قعقعة المدافع تتوقف مرات لدقائق لتواصل رعبها. فى مرة استمرت طويلا, سمعت جدتى تتلو الشهادة وتدعونى ان اكرر معها. اختلطت الاصوات بنديهة بكل اسماء الله الحسنى وكل اسماء اولياء الله الصالحين ان ينجينا من موت النار والغرق.
لقد بقينا قرابة منتصف الليل حتى سمح للقطار أن يصل إلى المدينة ولازالت آثار الدخان والتي استمرت أياماً تلوح في سماء كوستي من البعيد. كان صوت الرصاص قاسياً أثار الرعب في أهل المدينة.
وبدأت الكوابيس تطال طفولتى, البعبع الأكبر الذي ظل يلاحقني في منامي هي صورة قبيحة لبيوت تهدمت وأجساد تفحمت وأرواح تحلق حول القمر تسأل عن سر الحرب؟ القمر وحده لم تستطع الحرب ودخان حرائقها وخرائب المكان أن تمحوا نوره وتعكر صفوه, ظل يؤكد لي أن السلام سوف ينتصر. لم أنسى هذه التجربة وظلت يقظة مع بدايات تفتح وعيي السياسي لمعرفة أس الأزمة السياسية في السودان , ومن قبل رسخت لموقفى المبدئى من الحروب اينما كانت.
------------------
مقطع من سيرتى: أنثى الانهار.
مقطع من سيرتى: أنثى الانهار.
- Get link
- Other Apps
Comments
Post a Comment