الاحتجاجات الشعبية ونهج القمع
د. النور حمد
طالب الحزب الشيوعي، وفقا للموجهات التي وضعتها السلطات، بالسماح له بتسيير تظاهرة جماهيرية، احتجاجية، سلمية، يوم الثلاثاء 16 يناير الجاري. أكد الحزب الشيوعي سلمية المسيرة، وحدد غرضها، وخط سيرها، ووجهتها. اعترضت سلطات الأمن، على مبدأ قيام المسيرة، بلا مبرر، مناقضةً القواعد التي وضعتها، بنفسها، للتظاهرات. أصر الحزب الشيوعي على تسيير المسيرة، وجاءت قوى الأمن صباح الثلاثاء، واحتلت المنطقة المحددة لانطلاق المسيرة، واعتقلت بعضًا ممن حضروا مبكرا. وبعد أن قامت المسيرة، رغم المنع، واتخذت مسارًا آخر، هو شارع الجمهورية؛ من نقطة تقاطعه مع شارع القصر، ثم غربًا في اتجاه مبنى حكومة الولاية، واصلت السلطات الاعتقال. وانتهى هذا التعنت بالحكومة إلى فشلين: فلا هي سمحت بالمسيرة، فظهرت بمظهر من يزعم أنه جاء بانتخابات حرة، ولا يعترض على الاحتجاجات السلمية، ولا هي استطاعت أن تمنعها عمليا.
يقول هذا النظام، رغم أنه جاء عن طريق انقلاب عسكري، إنه تحول، "بقدرة قادر"، إلى نظام ديمقراطي! وكلنا يعلم أن القوى الغربية سلمت لهذا النظام بالوجود، وبقيت تجيز ما يقوم به من انتخابات مزورة. وللغربيين في ذلك تسبيباتهم، كما لهم أجندتهم التي تخصهم. وقد كانت موافقة الحكومة على الاستفتاء حول انفصال الجنوب، أحد أهم أسباب قبول الغربيين بنتائج انتخابات 2010. اشترى النظام الأحبولة الغربية، وظن أنه، فعلا نظام ديمقراطي. ولذلك، قال النظام إنه، يسمح بالتظاهرات، ولكن بعد أخذ إذن السلطات، من أجل تحديد المسار، وضبط حركة المرور، وما إلى ذلك من الترتيبات التنظيمية الروتينية.
أمسك الحزب الشيوعي، بذكاء شديد، النظام من لسانه، وقدم طلبًا لتظاهرة محلية؛ أي مظاهرة "خرطومية بحتة"، قصيرة المسار، تسير إلى مكتب الوالي لتسلم مذكرة احتجاجية لوالي الخرطوم، حول الميزانية والغلاء، وليس إلى رئاسة الجمهورية. غير أن السلطات رفضت، وكما ذكرنا فقد قامت التظاهرة، فجرى ضربها بالغاز المسيل للدموع، وجرى ضرب المشاركين فيها بالخراطيش، كما جرى اعتقال الكثيرين. أكثر من ذلك، منعت السلطات الصحف من الكتابة عن التظاهرة، وأمعنت في مصادرة الصحف منذ اندلاع التظاهرات.
فوّت النظام، كعادته دائمًا، فرصة ذهبية لكي يرسِّخَ للسلوك الاحتجاجي المتحضر، ولكي يظهر بمظهر من يحترم حق الاحتجاج السلمي. وقد قدم الحزب الشيوعي له فرصة ذهبية على طبق من الكريستال، ولكنه أهدرها. فهو نظام لم يعد يرى، منذ أن جاء إلى الحكم، سوى مخاوفه. قامت التظاهرة وجرى بثها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ووصلت إلى قنوات التلفزة العالمية والإقليمية، وإلى كبريات الصحف العالمية، ولم يستطع النظام أن يفعل شيئا تجاه كل ذلك، رغم اعتقاله مراسلي القنوات الفضائية الأجنبية والعنف بهم. فالهاتف الذكي أصبح بديلا ممتازًا للكاميرا التلفزيونية الاحترافية.
في ظل هذه الميزانية الغريبة، التي هي "ميزانية إبادة جماعية"، بامتياز، وفي ظل التعويم غير المعلن للجنيه السوداني، ينتظر للغلاء والتضخم أن يصلا حدا غير مسبوق. ويُنتظر، من ثم، لهذه التظاهرات الاحتجاجية، وغيرها من صور التعبير عن الغضب الشعبي، أن تستمر، وتنتشر. وحين يبلغ الأمر حدًا مزعجًا، ربما فكرت السلطات الأمنية في سيناريو سبتمبر 2013، وهو افتعال التخريب، وإطلاق الذخيرة الحية، بقصد القتل. ولو أعاد النظام هذا الأسلوب مرة أخرى، فأكبر الاحتمالات ألا تسلم الجرة. لقد بقي هذا النظام يناور، على مدى عقود، لكي يتجنب الحلول الحقيقية. وظن أهله أنهم أذكياء متقنون لفنون السياسية، التي ظلوا يفهمونها على أنها الفهلوة، والمراوغة، وإتقان أساليب شراء الوقت. غير أن لهذا النهج نهاية مغلقة، لا بد أن يصل إليها. وقد اقتربت تلك النهاية.
ليس في وسع هذا النظام أن يأتي بحلول تخرج البلاد من أزمتها الاقتصادية. فالمواطنون مواجهون، تدريجيا، بالموت جوعًا، أو الموت البطيء بسبب سوء التغذية، أو بسبب تعذر شراء الأدوية المنقذة للحياة، أو كل ذلك، وغير ذلك من متلازمات أوقات الأزمات الكارثية الطاحنة. كما أن النظام يتفكك من داخله، في وقت تحيط فيه بالبلاد أخطار خارجية، مؤكدة، وسيناريوهات مختلفة موضوعة على الطاولات الإقليمية. فسياسة المحاور التي انتهجها النظام، وانتقالاته الجنونية المفاجئة، من محور لآخر، بلا مقدمات، كشفت للاعبين الإقليميين جميع عوراته، وجعلته بطة عرجاء. يعيش النظام الآن، حالة مزرية من الضعة والهوان، وتشتت الرؤية، جعلت البلاد مطمعًا، لكل أصناف الطامعين.
على النظام أن يفكر بجدية في تفكيك نفسه. وقد يبدو هذا مطلبًا مثاليًا، ولكن لابد من قوله، لأن المخرج الآمن المريح، ربما يكون يكمن فيما ترفض التفكير فيه. وما يرفض النظام التفكير فيه هو الرحيل، بهدوء، رغم أنه الحل الآمن والمريح. فالنظام ملئ بالشقوق وبالاحتقانات وبالتناحر الكتيم. ولم يعد هناك ما يسمى "النظام"، إلا مجازا. هناك جزر معزولة متناحرة لا تملك حقا، سلطة القرار. هناك فقط مؤسسة الرئاسة، وجهاز الأمن، ومليشياته. وبطبيعة الحال، هناك مجموعة الإسلاميين، الذين أُنزلوا قسرًا من قطار الانقاذ، ولا يزالون يحلمون، عبر مغازلة النظام، بدعم من محاور إخوانية، خارجية، بإعادة إنتاج انقاذ أخرى، في ثوب جديد. ولا يزال مجمل طيف الإسلاميين، مع استثناءات قليلة، يقدم رجلا ويؤخر الأخرى. فلا هم مع الشعب من كل قلبهم، ولا هم مع النظام من كل قلبهم. واحدة من صور لا مبدئية الإسلاميين، وبرغماتيتهم، التي عهدناهم بها منذ أن عرفناهم. لكنهم الآن أمام امتحان تاريخي مفصلي، لم يسبق أن مروا به، والتاريخ يرصد.
احترقت، في السودان، بطاقة المشروع الإسلامي، في نسختيها؛ المحلية، والعابرة للأقطار، ولم يبق منها حتى رمادها. وما أقترحه، مهما كان مستوى مثاليته، هو محاولة التوافي إلى حلٍّ سلميٍّ، توافقي يرفع القبضة الأمنية على الحراك السياسي، وعلى حرية التعبير، ويفتح الباب تدريجيا لتحول ديمقراطيٍ حقيقي. ثم يجلس الجميع، على قدم المساواة، لرسم خطة انقاذ للبلاد، من مهلكة الانقاذ. ولا مناص، في نظري، البتة، من إعادة البلاد إلى منصة التأسيس، التي هجرنا أرضها وأجندتها، في عام 1956، لنضرب في هذا التيه المريع، لاثنتين وستين عاما.
احترقت، في السودان، بطاقة المشروع الإسلامي، في نسختيها؛ المحلية، والعابرة للأقطار، ولم يبق منها حتى رمادها. وما أقترحه، مهما كان مستوى مثاليته، هو محاولة التوافي إلى حلٍّ سلميٍّ، توافقي يرفع القبضة الأمنية على الحراك السياسي، وعلى حرية التعبير، ويفتح الباب تدريجيا لتحول ديمقراطيٍ حقيقي. ثم يجلس الجميع، على قدم المساواة، لرسم خطة انقاذ للبلاد، من مهلكة الانقاذ. ولا مناص، في نظري، البتة، من إعادة البلاد إلى منصة التأسيس، التي هجرنا أرضها وأجندتها، في عام 1956، لنضرب في هذا التيه المريع، لاثنتين وستين عاما.
الدولة الآن مثقلة بديون باهظة مكبلة، وتتعرض لأنشطة غامضة غير مسبوقة تستهدف نهب أصولها، وجعل مواطنيها ضيوفا فقراء، في بلادهم. وهي فوق هذا وذاك، مثقلة ماليًا بدستوريين صورين، لا يفعلون شيئا. كما أنها مؤوفة بجيوش جرارة من أفراد الأمن الذين يستنزفون خزانتها، لا لدرء الخطر الخارجي على الوطن، وإنما لمتابعة المواطنين، والتجسس عليهم، وإرهابهم، وكتم أنفاسهم. يضاف إلى ذلك هذه المليشيات شبه العسكرية، بالغة الكثرة، غالية الثمن. وفوق هذا وذاك، هناك الفساد المؤسسي منعدم الشبيه، الذي قضى على المؤسسية والشفافية، وبيعت عبره موارد البلاد للأجانب، وللمتنفذين، لتنتفخ الجيوب الخاصة، تحت ظل أوليغاركية، بشعة، لم يعرف لها تاريخ البلاد مثيلا.
هذا الوضع المترهل، لا يحتمل الإصلاح، ولا مناص من تفكيكه. ومن ظن أن استدامة وضع كهذا ممكنة، فهو واهم، إن لم نقل إنه مجنون. على أهل النظام، والدوائر المنتفعة، المتنافرة، المحيط به، أن يسلكوا سلوكًا متمدنًا، فيعترفوا بالأزمة المفصلية الطاحنة، ويتوافقوا مع كل القوى السياسية، على حل سلمي. أي، أن ينفتحوا على فكرة الشروع في إجراء تحول ديمقراطي ممرحل، ورسم ملامح لبرنامج وطني جديد للإصلاح. بغير ذلك، لا يمكن تجنب ثورة شعبية عارمة، غالبا ما تقف قوى الأمن في مواجهتها، بأفظع صور العنف، فتنفتح الأبواب جملة واحدة، على سيناريوهات كارثية، لا يمكن التكهن بمآلاتها. فهذا النظام على وشك أن ينهار تحت وطأة ثقله الذاتي. وسواء سقط تحت وطأة ثقله الذاتي، أو قوضته ثورة شعبية شاملة، أو انهار نتيجة لأي سيناريو آخر، ضمن عدة سيناريوهات محتملة، فإن المؤكد، جدًا، في نظري، أن ما يعقب سقوطه، لن يكون على الهيئة التي جرت بعد أكتوبر وأبريل. فإما حل سلمي توافقي الآن، يحفظ الدولة، وإما: لا دولة.
Comments
Post a Comment