درجت الحكومة السودانية على أن تبرر كل خطأ وقعت فيه, أو ارتكبته, وفي أي اتجاه كان, بإرجاعه إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من أمريكا, خاصة أزمتها الاقتصادية. وبعد أن رفعت أمريكا تلك العقوبات عنها, لم تعجز الحكومة عن إيجاد البدائل التي ستحل مكانها, وبذات أسلوبها القديم بان تخلع كل مشاكل أخطائها لتلقى بها على أكتاف البديل المفتعل.
الانهيار الاقتصادي الذي تئن تحت وطأته البلاد اليوم والذي تعدى الممكن والمستحيل, والذي لا زالت الحكومة ترفض الاعتراف به, رغم كل أدلته وبراهينه التي لا تخفى على احد, كان ذلك فيما أعلنت عنه ميزانيتها العاجزة حد الكساح, أو عملتها التي فقدت قيمتها تماما أمام كل العملات الأخرى, خاصة الدولار الذي صرعها نهائيا, أو كان ذلك في الوضع الذي أصبح فيه المواطن من عجز عن إدراك لأهم مقومات حياته, من مأكل ومشرب, مسكن وعلاج وتعليم,
الحكومة ترى أن كل ذلك الانهيار الاقتصادي, وفى مختلف اتجاهاته, هو بسبب السماسرة والمتضاربين من التجار الجشعين. وغيرهم, وتنسى في ذات الوقت أنها وفي سبيل تغطية عجز ميزانيتها العليلة, عملت على المزيد من الهبوط بقيمة الجنيه السوداني في مقابلة الدولار الجمركي الذي ارتفعت بقيمته من (6,9 إلى 18) جنيها دفعة واحدة أي بما يقارن ثلاثة إضعافها, وهى تعلم علم اليقين, أن كل تلك الزيادات لابد من أن تنعكس زيادة وربما بذات نسبها, وفي كل الأسعار لكل السلع وبمتخلف أنواعها, وتتوقع الحكومة من السماسرة والمتضاربين والتجار الجشعين أن يستمروا في البيع بذات الأسعار القديمة, التي لا تعني الخسارة فقط, بل القضاء على رؤوس أموالهم ذاتها..
إن كل هذه الفئات التي فصدتها الحكومة بان تتحمل عبء تلك الزيادات نيابة عنها, هم أيضا سودانيين, يعيشون ذات الأوضاع الفاشية التي يعيشها غيرهم, وطبعا باستثناء القلة التي تتكسب من مثل هذه الأوضاع والذين غالبا ما يجدون الحماية من ذات الحكومة التي تغض الطرف عنهم وتركزها على الآخرين. فالفئة الأولى هم أيضا يبحثون عن الطرق التي توفر لهم ضروريات حياتهم كغيرهم, وليس من واجبهم أن يعرضوا أنفسهم للخسارة من اجل أن تربح الحكومة لتستر عورتها الاقتصادية,
وينطبق ذات الأمر على الكثير من الصيادلة الذين تعجز الحكومة عن توفير ما يلزمهم من العملات الحرة التي تيسر لهم استيراد الدواء من الخارج كما يجب, وبعد أن تتركهم للحصول عليها, أي العملة, من أسواقها السوداء لمتعددة, وبأسعارها الخرافية, تود أن تلزمهم هم أيضا, بالبيع بما تريد وتطمع, الأمر الذي سيعرض حياة المواطن للكثير من المخاطر, بعد أن يعز الدواء على الشراء من قطاعات كثيرة جدا من المواطنين, أو بانعدامه تماما, وبما فيه تلك المنقذة للحياة, ويحدث ذلك بعد أن تكاثرت وتنوعت الإمراض بين المواطنين وتزايدت خطورتها..
فالمواطن الذي يكتوي بنيران الفشل الاقتصادي, لا شك يتوقع أن يسمع ما يخفف وجعه, ويؤكد له إدراك الحكومة لما آل إليه حاله, وتقديرها لصيره على ما ابتلته به من مصائب, فيسمع من القرارات ما يطمئنه على ذلك الإدراك, وما يبشره باقتراب زوال الأزمة أو تخفيف حدتها, فإذا به يستمع إلى الحكومة وهى تبرئ نفسها من كل خطأ أو تقصير, وتلجاأ إلى إفكها القديم الذي ما عاد ينطلي على احد من المواطنين كالإعلان عن اكتشافات جديدة للنفط, وكأنما المواطن قد استفاد من تلك القديمة التي ابتلعها الفساد بأكملها.
ولعل الجميع بعلم بأنه ما من أزمة اقتصادية تعرضت لها البلاد, إلا وكان من بين أهم التوصيات لعلاجها, العمل على خفض الإنفاق الحكومي, وفى مقدمته العمل على تقليص إعداد الجيوش الجرارة من الدستورين, تنفيذيين كانوا أو تشريعيين وغيرهم. وبالرغم من أن الجدوى والفائدة ليست في الكثرة التي يؤمن بها النظام حد اليقين, فان هذه الحشود من الدستورين لا جدوى للكثير منهم غير المزيد من أعباء الاقتصاد العاجز أصلا.
والمواطن الذي أصبح حساسا لاشيء قرارات بتعيينات لدستورية, وفى مثل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة, فوجئ بأول إعلان للحكومة عن الكيفية التي ستخرجهم, أي المواطنين, من تلك الأزمة, وكان القرار الجمهوري بتشكيل مجالس سيادية, تحت إشراف سيادة رئيس الجمهورية, ورغم إدراكنا بان تلك المجالس ربما لا تكلف زيادة في الإنفاق الحكومي, كما تعيين الدستوريين عادة, إلا أنها وبدلا من إن تصبح علاجا لازمة, أن تصبح سببا لأزمة جديدة.
هذه المجالس السيادية هي مجالس موازية لوزارات أو مؤسسات قائمة, مما يعنى تداخلا في الاختصاصات, الأمر الذي سيقود إلى التضارب المفضي إلى النزاعات وتعطيل وعرقلة العمل. ودونكم وزارة الخارجية التي تتم تجريدها من الكثير مما هو من صميم أعمالها, وما استقالة وزيرها المرتدة ببعيدة, ثم كيف لوزراء عجزوا عن تحقيق ما تهدف إليه تلك المجالس السيادية من انجازات أن يصبحوا هم ذاتهم أعضاء فيها, ثم ماذا بفي لرئيس الوزراء ومجموعة نوابه, بعد أن تصبح بعضا من وزاراته موازية لأي من المجالس السيادية هل تعمل تحت إمرته أم إمرة رئسها الذي هو نائبه في كل شيء إلا هذه المجالس لسيادية؟ فمن من مستشاري السيد الرئيس صاحب هذه الفكرة الألمعية وما وراءها؟
أما إن كانت تلك المجالس من اجل متابعة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني, التي بدأت مشوار تنفيذها بما هو أسوأ, إسراع المشاركين فيه للحصول على أنصبتهم من كيكة السلطة, التي خلقت ممن فقدوا نصيبهم فيها, قنابل موقوتة بدا بعضها في الانفجار فعلا, واقلها من تخلوا عن ولائهم للحزب الحاكم, فأصبحوا في صفوف معارضته.
ما الذي يدهش حقا أن الحكومة لا زالت تجهل أو تتجاهل المدى الذي أوصل إليه حال المواطنين, بل تجهل أو تتجاهل مدى الغضب والغبن الذي تملكهم, ولا زالت تستهين بكل ذلك. وتعتقد بان أدوات قمعها وقهرها, التي لا زالت تعمل على تحديثها للمزيد من سوئها وتزايد إجرامها, يمكن أن تخدم أهدافها وتحقق أحلامها في إخراس أي صوت يعلو للتعبير عن نتائج فشلها وقصورها الذى طال حتى مقومات حياته..
فالمواطن الذي صبر طيلة هذه السنوات العجاف, ما كان له أن يصبر بعد أن وصل به الحال إلى هذا الحد الذي جعله بين خيارين, إما أن يواصل صبره حتى يدخل قبره, جوعا وعطشا ومرضا, أو أن ينتفض للخروج من براثن كل ذلك, وكعادة الشعب السوداني الذي يمد حبال صبره إلى أن تصل مداها, فينهض لجذبها إليه والخلاص ممن اجبروه على فعل ذلك.
وما الذي يجبر المواطن على المزيد من الصبر على الفقر وضنك العيش وبؤسه, وهو يرى من يطالبونه بالصبر وهم يعيشون في رغد من العيش, ويتمرغون في نعيم دنياهم التي يطالبونه بتوفير كامل نفقاتها رغم فقره وقلة حيلته. وعندما نهض المواطن لتعبر عما وصل إليه حاله, خاصة بعد إجازة ما اسماها ميزانية الفقر الجوع, وقرر أن يفعل ذلك بالطرق القانونية السليمة عبر مظاهرة سلمية منضبطة ودون أدنى جنوح لتخريب.فماذا كانت ردة فعل الحكومة التي أعلنت عبر لسان احد منسوبيها بأنها لا تخشى المظاهرات التي يدعو لها الحزب الشيوعي خاصة وحينها (تنوم قفا) لثقتها في أنها, فاشلة فاشلة؟
ولأن المظاهرة نجحت بامتياز وقد دعا لها فعلا الحزب الشيوعي وتبنتها معه الأحزاب الأخرى, فهل يا ترى ناموا قفا؟ وقد كشفوا عن خوفهم, أولا بعدم التصديق للمظاهرة, رغم إعلانهم بأنهم لا يمانعون من خروج المظاهرات السلمية, ثم إن الذي لا يخشى أمرا أو يخافه, وينام قفا لثقته في فشله, لا يمكن أن يبذل كل ذلك الجهد لإفشالها قبل الشروع في تنفيذها, من اعتقال لبعض قيادات أحزابها وبعض الناشطين, ومن الإسراع لسد الطرقات المؤدية لموقع التجمع الذي حدد لها, ولا أن ينشر قوات أمنه وشرطته بأركان الخرطوم الأربعة. ورغم كل ذلك, كانت ناجحة ناجحة.
فهل ستستوعب الحكومة هذا الدرس وتعمل على تجنب كل أخطائها التي ارتكبت ولم تحقق حلمها بل زادت الموقف تأزما بل وشجعت من لم تسعفه ظروفه للمشاركة في المظاهرة السابقة أن يعد نفسه للتي ستليها والتي نأمل أن تقتنع السلطة بان الحال المائل الذي يكابد فيه المواطنون حياتهم لا يسمح بأي مزيد من مد حبال الصبر التي تقطعت, ومن ثم فمن حق المواطن أن يعلن عن ضيقه بذات الطريقة السلمية السابقة, وقبل أن تجبره تصرفات الحكومة الطائشة, التي لا زالت تعتقد بان الضرب والبطش والاعتقال, قد يمنع من وصل به الحال ربما للانتقال إلى مراحل السلب والنهب من اجل أن يعيش فقط. فالجوع فعلا كافر, فاليتقوا غضبة الحليم وثورة الجياع التي لاحت ملامحها في الأفق.
أخيرا, ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت, وكنت أظنها لا تفرج.
Comments
Post a Comment