المسيرية حقها في رجليها (العقل الرعوي 10)
د.عبد الله علي إبراهيم
كنت أخشى دائماً من عاقبة تبخسينا ل"العقل البدوي أو الرعوي" كما رأينا في مسلسل الدكتور النور حمد. وعاقبته ظلم للرعاة وظلمات. فتجد التعديات على حقوق الرحل ومواطنتهم تبريرها في هذا التهوين منهم بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وتجلت هذه الحزازة على سبل كسب عيش رعاة البادية كأوضح ما تكون في أزمة أبيي التي نازع شعب المسيرية لملكيتها كأرض تاريخية لمراعاهم . ولكن قضى تحكيم محكمة الدولية في 2009 بالحق في أبيي لخصمهم لدينكا نقوك. فما ما عقّد قضية المسيرية في أبيي إلا ظن قسم من صفوتنا أنهم شعب سيًّار "محل ما تمسى ترسى". فلا يتواشج المسيري في اعتقادهم مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو "هائم" ( roaming ) بأرض الله الواسعة.
فمن صفوة الرأي من جنح إلى تجريد المسيرية من أبيي بزعم أنهم رحالة "حقهم في كرعيهم". وقصروا حقهم في المنطقة على الرعي ثم يتطلبون الله. وجدت الدكتور عمر القراي شديد الاعتقاد أن ليس للرحل دعوى لتملك دار ما. فهو خصم للمسيرية لطلبها التصويت في استفتاء أبيي المرتجى الذي سيقرر إن بقيت في السودان أم أخذها جنوب السودان كما قضى بذلك بروتكول أبيي (2004). فلا يأتي بذكر طلب المسيرية ملكية أبيي إلا ويسارع بالتذكير بأنهم " لا يقيمون في المنطقة، بل يتجولون فيها". فحق المسيرية إذاً "في رجليها". ولا يطرف لمثل القراي، ممن "فلقونا" بحقوق الإنسان، جفن وهو يفرق بين الناس بالنظر إلى أسلوب حياتهم. فتنعقد الملكية عنده لا ببينة الحق وأعرافه التاريخية، بل بسوء ظنه في جدوى عيش الرعاة واستحقاقهم. فحجبت حداثته المختلسة عنه حقيقة أن "التجوال" لا يصادر حق "الجائلين". فالكبابيش التي زرتها في آخر الستينات جائلة حتى ناظر عمومها. ولها دار حدادي مدادي. وحمى تحكيم القاضي هيز في أوئل الخمسينات هذه الدار الوسيعة من دعاوى قبائل أخرى فيها.
يقصر القراي حق المسيرية التاريخي في منطقة أبيي على الرعي. ولذا فإن تحول أبيي إلى الجنوب، في قوله، لن يمنعها "أن تواصل حقها في الرعي، كما كانت تجوب المنطقة شمالاً وجنوباً." وفي نظر القراي أنه لم يحرم أحد المسيرية الرعي. فضمنه لها تحكيم لاهاي 2009 والحركة الشعبية. وزاد بأن ذلك "هو ما يمثل مصلحتهم الحقيقية ولكن المؤتمر الوطني، يريد ضم أبيي للشمال ليحوز كل البترول في المنطقة، وهو لو فعل، لن يعطي المسيرية منه شئ، كما لم يعط كل أهل السودان الذين ازدادوا فقراً بعد ان ظهر البترول". وغاب مطلب المسيرية بحق تاريخي في أبيي في غبار صراع الإنقاذ ومعارضها.
ويزيد القراي الطين بلة بمقارنته بين المسيرية الذين، في قوله،"لم يكونوا ابداً مستقرين كقبائل الدينكا" نقوك الذين وصفهم بأنهم "مزارعون ورعاة مستقرون". وأربأ بالقراي أن يجهل حيث ينبغي أن يعلم. وكنت لفت نظره في هذا السياق إلى كتاب ديفيد كول وريتشارد هنتينقتون وعنوانه "ما بين المستنقعات ومكان صلب" (1997) عن معهد جامعة هارفارد العالمي للتنمية. ولخص الكتاب تجربة ذلك المعهد في تنمية أبيي (1979-1981) ووصف مراحيل دينكا نقوك آناء موسمي الشتاء الجاف والصيف الممطر. فوصف القراي للدينكا نقوك بالمزارعين المستقرين مجرد "حدرة في الظلام" للمسيرية المزعوم أنهم حلفاء دولة الإنقاذ التي لا يطيقها.
وكان منصور خالد من بين من قصر مطلب المسيرية على حق الرعي دون حق المواطنة في أرض تاريخية لهم. فأستنكر مطلبهم في التصويت في الاستفتاء المفروض فيه حسم تبعية أبيي لأي من السودانيين كما تقدم. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي « يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك بوقت السلم بلاغي لا أكثر. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب إلى ذلك منصور بل بين وقت كان فيه السودان واحداً، وقبل به المسيرية بخيره وشره، ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.
وللتأكيد على كفالة حق الرعي للمسيرية عقد منصور مقارنة بين رعاة المسيرية والرعاة عابري الحدود في أفريقيا بعامة. وقد صار الأخيرون كما قال موضوعاً لاهتمام الاتحاد الأفريقي الذي ظل يعقد الندوات لتأمين حقوق هذه الجماعات البادية التي لا تلقي بالاً للحدود الوطنية. ولعل المثال الأقرب لهذه الجماعات عندنا هم الأمبرور. وهذه مقارنة عرجاء جداً. فقد نسي منصور أن المسيرية ليست بعابرة لحدود ليست هي طرفاً فيها بالمواطنة إبتداء. فهي ليست مجرد مستخدم عابر للأرض ممن تتبرع الحركة الشعبية أو الاتحاد الأفريقي له بضمان حقوقه في الرعي. فالمسيرية في الاستفتاء القادم في أبيي مواطنون . . لا رعاة.
الاستخفاف بذوق البدوي للأرض، وارتباطه بها، وحيله لتأمينها فاش. فمن آخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا فرار للأمام من صفوة المعارضة التي لم تنم عادة دراسة الريف مستقلة برؤية ورأي، أو الاحتكاك بجمهوره بغير وسيط الإدارة الأهلية والأ عيان الآخرين. وقولها بترك الأمر للجماعتين المتنازعتين "قطعة راس" وتنصل عن تدارس الحقوق المتنازع عليها بصورة مسؤولة لتستقل المعارضة برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. ناهيك من أن رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف "القبلية" المعروفة يكشف عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. فكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن في 1982 عن كيف تواثقت الأطراف القبلية التي عنتها المعارضة مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات في تحالفات واضحة تجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مثلاً مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي. وعليه فإعادة المعارضة، ككتلة قومية، أوراق حل النزاع إلى الجماعتين مماطلة لا معنى لها. فالجماعتان مما لا تكترث له الصفوة وما بينهما "نزاع قبلي" رعوي أسقم الصفوة وعكر صفوها.
ولم يسلم حتى المؤتمر لوطني الذي مثل المسيرية في التحكيم الدولي من غضاضة الصفوات البندرية الأخرى حيال استحقاق الرعاة لأرض لا يقيمون فيها كما يقيم أولاد المدن. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النفط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.
جاءت أوضح صور التحامل على حق الرعاة المسيرية في أبيي في فقه الاستفتاء المقرر أن ينعقد ليقرر في تبعية أبيي كما تقدم. فحاول الإمريكان مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع. وتحاملوا مع ذلك على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم باختصار مطلبهم في "حق الرعي" في الأرض دون حق التملك. فالاقتراح الأمريكي يحصر التصويت على شعب الدينكا نقوك بلا غلاط. كما سيصوت على مصير أبيي أيضاً سودانيون أخرون "إختاروا أن يقيموا إقامة دائمة في منطقة أبييّ لمدة عام على الأقل لدى التسجيل". وهذه حزازة على البدو المترحل من الدرك الأسفل. فواضع مثل هذا الشرط، الذي حصر الانتفاع من أبييّ على الإقامة المشروحة، استثنى عمداً المسيرية الذين لا يوافون الشرط بسبب أسلوب ترحلهم الذي يدخر أبيي لوقتها المناسب في دورة استثماره الذكي لموارد داره. وهو إدخار في طبيعة دورة اقتصاد الرعي. فالرحل تملك داراً على طول وسعة مساراتها مع سعيتها، بل قد تخرج عنها في مواسم معلومة، أو سنوات مَحَل، إلى دور أخرى. وكانت هناك بروتكولات تحكم هذه المراحيل خارج الدار باعتبارها حق معلوم. وتطالب البقارة في جنوب دارفور الآن بإعادة النظر في موضع مطار نيالا لأنه واقع في مسار مراحيلها. وقد ساءني أن يكفل حق التصويت لأي سوداني أقام بمنطقة أبييّ لعام على الأقل وقت التسجيل، ويحرم منه المسيرية، الذين أبييّ بعض مراحيلهم وأقتصادهم لقرون. وواضح أن هذا الشرط نظر، في أفضل الأحوال، إلى قوانين إنتخابية ليس البدو جزءاً من نسيج مجتمعها أو مواطنتها. وفشل الأمريكيون، وهم على هذا التحامل على المسيرية، في مسعاهم لجعل حق الرعي دون الملكية جاذباً لهم. فلم يجد وعدهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي "وسقطها". فلم يقبل المسيرية بهذه "الجذرة" الأمريكية.
تخوفنا في الحلقة الماضية من هذه الردود على "تشريح العقل الرعوي" للنور أن يسوق مثل تبغيضه في أسلوب حياة الرعاة إلى دعوة لاستئصالهم في وقت غير معلوم. وطرينا الشر لبعده. ولكن رأينا في هذه الحلقة كيف ساق التهوين من شأن المسيرية الرعاة إلى خرق لحقهم في مراعيهم التاريخية في أبيي خرقاً اتسع على الراتق. ونرى في حلقتنا القادمة كيف ساقت فطرة العدل وخبرة البداوة القاضي عون شوكت الخصاونة، عضو تحكيم أبيي الأردني من أصول البدو، إلى أن يكون وحده الأقلية ضد رأي أغلبية محكمي لاهاي التي قضت بأكثر دار أبيي للدينكا نقوك.
د.عبد الله علي إبراهيم
كنت أخشى دائماً من عاقبة تبخسينا ل"العقل البدوي أو الرعوي" كما رأينا في مسلسل الدكتور النور حمد. وعاقبته ظلم للرعاة وظلمات. فتجد التعديات على حقوق الرحل ومواطنتهم تبريرها في هذا التهوين منهم بالنظر إلى أسلوب حياتهم. وتجلت هذه الحزازة على سبل كسب عيش رعاة البادية كأوضح ما تكون في أزمة أبيي التي نازع شعب المسيرية لملكيتها كأرض تاريخية لمراعاهم . ولكن قضى تحكيم محكمة الدولية في 2009 بالحق في أبيي لخصمهم لدينكا نقوك. فما ما عقّد قضية المسيرية في أبيي إلا ظن قسم من صفوتنا أنهم شعب سيًّار "محل ما تمسى ترسى". فلا يتواشج المسيري في اعتقادهم مع الأرض معاشاً ووجداناً ومعاداً. فهو "هائم" ( roaming ) بأرض الله الواسعة.
فمن صفوة الرأي من جنح إلى تجريد المسيرية من أبيي بزعم أنهم رحالة "حقهم في كرعيهم". وقصروا حقهم في المنطقة على الرعي ثم يتطلبون الله. وجدت الدكتور عمر القراي شديد الاعتقاد أن ليس للرحل دعوى لتملك دار ما. فهو خصم للمسيرية لطلبها التصويت في استفتاء أبيي المرتجى الذي سيقرر إن بقيت في السودان أم أخذها جنوب السودان كما قضى بذلك بروتكول أبيي (2004). فلا يأتي بذكر طلب المسيرية ملكية أبيي إلا ويسارع بالتذكير بأنهم " لا يقيمون في المنطقة، بل يتجولون فيها". فحق المسيرية إذاً "في رجليها". ولا يطرف لمثل القراي، ممن "فلقونا" بحقوق الإنسان، جفن وهو يفرق بين الناس بالنظر إلى أسلوب حياتهم. فتنعقد الملكية عنده لا ببينة الحق وأعرافه التاريخية، بل بسوء ظنه في جدوى عيش الرعاة واستحقاقهم. فحجبت حداثته المختلسة عنه حقيقة أن "التجوال" لا يصادر حق "الجائلين". فالكبابيش التي زرتها في آخر الستينات جائلة حتى ناظر عمومها. ولها دار حدادي مدادي. وحمى تحكيم القاضي هيز في أوئل الخمسينات هذه الدار الوسيعة من دعاوى قبائل أخرى فيها.
يقصر القراي حق المسيرية التاريخي في منطقة أبيي على الرعي. ولذا فإن تحول أبيي إلى الجنوب، في قوله، لن يمنعها "أن تواصل حقها في الرعي، كما كانت تجوب المنطقة شمالاً وجنوباً." وفي نظر القراي أنه لم يحرم أحد المسيرية الرعي. فضمنه لها تحكيم لاهاي 2009 والحركة الشعبية. وزاد بأن ذلك "هو ما يمثل مصلحتهم الحقيقية ولكن المؤتمر الوطني، يريد ضم أبيي للشمال ليحوز كل البترول في المنطقة، وهو لو فعل، لن يعطي المسيرية منه شئ، كما لم يعط كل أهل السودان الذين ازدادوا فقراً بعد ان ظهر البترول". وغاب مطلب المسيرية بحق تاريخي في أبيي في غبار صراع الإنقاذ ومعارضها.
ويزيد القراي الطين بلة بمقارنته بين المسيرية الذين، في قوله،"لم يكونوا ابداً مستقرين كقبائل الدينكا" نقوك الذين وصفهم بأنهم "مزارعون ورعاة مستقرون". وأربأ بالقراي أن يجهل حيث ينبغي أن يعلم. وكنت لفت نظره في هذا السياق إلى كتاب ديفيد كول وريتشارد هنتينقتون وعنوانه "ما بين المستنقعات ومكان صلب" (1997) عن معهد جامعة هارفارد العالمي للتنمية. ولخص الكتاب تجربة ذلك المعهد في تنمية أبيي (1979-1981) ووصف مراحيل دينكا نقوك آناء موسمي الشتاء الجاف والصيف الممطر. فوصف القراي للدينكا نقوك بالمزارعين المستقرين مجرد "حدرة في الظلام" للمسيرية المزعوم أنهم حلفاء دولة الإنقاذ التي لا يطيقها.
وكان منصور خالد من بين من قصر مطلب المسيرية على حق الرعي دون حق المواطنة في أرض تاريخية لهم. فأستنكر مطلبهم في التصويت في الاستفتاء المفروض فيه حسم تبعية أبيي لأي من السودانيين كما تقدم. فهو يعيد علينا نص بروتكول أبيي (2004) الذي « يحتفظ المسيرية والأشخاص الآخرون (فيه) بحقهم التقليدي لرعي الماشية وتحرك الأفراد عبر إقليم أبيى». وقال إن الحركة الشعبية رعت هذا الحق في أوقات الحرب فكيف تصد عنه في وقت السلم. ومنطق منصور هنا كالعادة فاسد. فقوله إن الحركة رعت حق المسيرية في الرعي وقت الحرب فما بالك بوقت السلم بلاغي لا أكثر. فالمقارنة في وضعنا الراهن لا تكون بين وقت حرب ووقت سلم كما ذهب إلى ذلك منصور بل بين وقت كان فيه السودان واحداً، وقبل به المسيرية بخيره وشره، ووقت سيتفرق فيه السودان. ومتى تفرق ربما صارت أبيي، التي للمسيرية حجة حسنة على تملكها، إقليماً في الجنوب. ولهذا يصر المسيرية على التصويت في الاستفتاء كمواطنين (لا مجرد مستخدمين للأرض) لترجيح بقاء أبيي في دولتهم. فليس بوسع منصور نفسه تأمين حقوق جماعة بادية في بلد آخر على علو كعبه في دولة الحركة الشعبية.
وللتأكيد على كفالة حق الرعي للمسيرية عقد منصور مقارنة بين رعاة المسيرية والرعاة عابري الحدود في أفريقيا بعامة. وقد صار الأخيرون كما قال موضوعاً لاهتمام الاتحاد الأفريقي الذي ظل يعقد الندوات لتأمين حقوق هذه الجماعات البادية التي لا تلقي بالاً للحدود الوطنية. ولعل المثال الأقرب لهذه الجماعات عندنا هم الأمبرور. وهذه مقارنة عرجاء جداً. فقد نسي منصور أن المسيرية ليست بعابرة لحدود ليست هي طرفاً فيها بالمواطنة إبتداء. فهي ليست مجرد مستخدم عابر للأرض ممن تتبرع الحركة الشعبية أو الاتحاد الأفريقي له بضمان حقوقه في الرعي. فالمسيرية في الاستفتاء القادم في أبيي مواطنون . . لا رعاة.
الاستخفاف بذوق البدوي للأرض، وارتباطه بها، وحيله لتأمينها فاش. فمن آخر ما انتهت إليه أحزاب المعارضة بشأن الحقوق في أبيي هو طلبها من أمريكا أن ترفع يدها عن المسألة وأن تترك للدينكا والمسيرية ترتيب تلك الحقوق بالسوية. وهذا فرار للأمام من صفوة المعارضة التي لم تنم عادة دراسة الريف مستقلة برؤية ورأي، أو الاحتكاك بجمهوره بغير وسيط الإدارة الأهلية والأ عيان الآخرين. وقولها بترك الأمر للجماعتين المتنازعتين "قطعة راس" وتنصل عن تدارس الحقوق المتنازع عليها بصورة مسؤولة لتستقل المعارضة برأي يعين المسيرية والدينكا معاً على التسوية. ناهيك من أن رهن المعارضة حل مسألة أبيي بالأطراف "القبلية" المعروفة يكشف عن قصور كبير في بروزة الصراع حول أبيي في السياق القومي. فكشفت رسالة للماجستير كتبها عبد الوهاب عبد الرحمن في 1982 عن كيف تواثقت الأطراف القبلية التي عنتها المعارضة مع القوى القومية والحكومية منذ منتصف الستينات في تحالفات واضحة تجعل حل النزاع القبلي بعيداً عن تلك القوى المركزية والإقليمية أمراً بعيد الاحتمال. فقد فرضت المسيرية مثلاً مرتين على حكومة الخرطوم ألا تقبل بتقرير الخبراء ولا تحكيم لاهاي. وعليه فإعادة المعارضة، ككتلة قومية، أوراق حل النزاع إلى الجماعتين مماطلة لا معنى لها. فالجماعتان مما لا تكترث له الصفوة وما بينهما "نزاع قبلي" رعوي أسقم الصفوة وعكر صفوها.
ولم يسلم حتى المؤتمر لوطني الذي مثل المسيرية في التحكيم الدولي من غضاضة الصفوات البندرية الأخرى حيال استحقاق الرعاة لأرض لا يقيمون فيها كما يقيم أولاد المدن. فحتى المؤتمر الوطني، الذي يظن الناس أنه الذي يحرض المسيرية على حق مزعوم بأبيي، باعهم بعد أن حصل من تحكيم لاهاي على بعض حقول النفط بينما خسر المسيرية الأرض. وقال الدرديري محمد أحمد، ممثل الحكومة بلاهاي، إنه يعتقد أن التحكيم جاء نصراً للحكومة.
جاءت أوضح صور التحامل على حق الرعاة المسيرية في أبيي في فقه الاستفتاء المقرر أن ينعقد ليقرر في تبعية أبيي كما تقدم. فحاول الإمريكان مراراً وتكراراً تعريف تلك الإقامة بما يقرب من وجهات نظر أطراف النزاع. وتحاملوا مع ذلك على المسيرية من جهة أسلوب حياتهم باختصار مطلبهم في "حق الرعي" في الأرض دون حق التملك. فالاقتراح الأمريكي يحصر التصويت على شعب الدينكا نقوك بلا غلاط. كما سيصوت على مصير أبيي أيضاً سودانيون أخرون "إختاروا أن يقيموا إقامة دائمة في منطقة أبييّ لمدة عام على الأقل لدى التسجيل". وهذه حزازة على البدو المترحل من الدرك الأسفل. فواضع مثل هذا الشرط، الذي حصر الانتفاع من أبييّ على الإقامة المشروحة، استثنى عمداً المسيرية الذين لا يوافون الشرط بسبب أسلوب ترحلهم الذي يدخر أبيي لوقتها المناسب في دورة استثماره الذكي لموارد داره. وهو إدخار في طبيعة دورة اقتصاد الرعي. فالرحل تملك داراً على طول وسعة مساراتها مع سعيتها، بل قد تخرج عنها في مواسم معلومة، أو سنوات مَحَل، إلى دور أخرى. وكانت هناك بروتكولات تحكم هذه المراحيل خارج الدار باعتبارها حق معلوم. وتطالب البقارة في جنوب دارفور الآن بإعادة النظر في موضع مطار نيالا لأنه واقع في مسار مراحيلها. وقد ساءني أن يكفل حق التصويت لأي سوداني أقام بمنطقة أبييّ لعام على الأقل وقت التسجيل، ويحرم منه المسيرية، الذين أبييّ بعض مراحيلهم وأقتصادهم لقرون. وواضح أن هذا الشرط نظر، في أفضل الأحوال، إلى قوانين إنتخابية ليس البدو جزءاً من نسيج مجتمعها أو مواطنتها. وفشل الأمريكيون، وهم على هذا التحامل على المسيرية، في مسعاهم لجعل حق الرعي دون الملكية جاذباً لهم. فلم يجد وعدهم بتطوير المراعي والخدمات في دارهم بما ينسيهم أبيي "وسقطها". فلم يقبل المسيرية بهذه "الجذرة" الأمريكية.
تخوفنا في الحلقة الماضية من هذه الردود على "تشريح العقل الرعوي" للنور أن يسوق مثل تبغيضه في أسلوب حياة الرعاة إلى دعوة لاستئصالهم في وقت غير معلوم. وطرينا الشر لبعده. ولكن رأينا في هذه الحلقة كيف ساق التهوين من شأن المسيرية الرعاة إلى خرق لحقهم في مراعيهم التاريخية في أبيي خرقاً اتسع على الراتق. ونرى في حلقتنا القادمة كيف ساقت فطرة العدل وخبرة البداوة القاضي عون شوكت الخصاونة، عضو تحكيم أبيي الأردني من أصول البدو، إلى أن يكون وحده الأقلية ضد رأي أغلبية محكمي لاهاي التي قضت بأكثر دار أبيي للدينكا نقوك.
Comments
Post a Comment