عروسنا تريزا.... وحكايات (ناسنا) المتسية.
هذه هدية لك يا عريسها Ibrahim Hamouda
أن أكتب عمن عطروا حياتي عليّ أن أكتب عن شقيقتي نجوى ياقوتة البحر الفريدة..تريزا كما يناديها الصديقات والاصدقاء.
كيف أكتبها بالمِدادِ على ثرى الصفحات وهي منحوتة في دهاليز العمر وبين زقزقات شجونه، حتى وأن كتبتها بكل دفقٍ أتصف بالمحبة والأشجان التي خالطتنا في الحل والترحال، وبكل المحبة التي تدفقت مِنا لتسكن في حنايا من خالطنا من الناس هنا أو هناك...
أن أكتبها فإني أسرد سيرة كل البنات النابهات اللاتي يسحبن إلى حد التأمل الغدَّ الساطِعَ المسرود كما سيرة البحر والمرافئ،
كما سيرة الناس و الطين والشمس،
كما سيرتنا يا أبنة أمي و أبى،
ويا أبنة روحي،
أن أكتب...
كيف أكتبها بالمِدادِ على ثرى الصفحات وهي منحوتة في دهاليز العمر وبين زقزقات شجونه، حتى وأن كتبتها بكل دفقٍ أتصف بالمحبة والأشجان التي خالطتنا في الحل والترحال، وبكل المحبة التي تدفقت مِنا لتسكن في حنايا من خالطنا من الناس هنا أو هناك...
أن أكتبها فإني أسرد سيرة كل البنات النابهات اللاتي يسحبن إلى حد التأمل الغدَّ الساطِعَ المسرود كما سيرة البحر والمرافئ،
كما سيرة الناس و الطين والشمس،
كما سيرتنا يا أبنة أمي و أبى،
ويا أبنة روحي،
أن أكتب...
ندية صافحتِ حياتنا، وطرية القلب كغصن ليمون شهي،
لقد سبقتك إلى التلويح للكونِ بشهقة وصراخ وأحلام جائلة، كبيرة أمها وأبوها،
وانت عصارتنا المفرحة.. اصغرنا
بيننا: أعوامٌ وشقاء الذاكرة وسيرة الناس الطيبة..
سبقكِ الحُزنُ واستوطن شجياً طافحاً من بين تفاصيلهِ بالبِشرِ تماماً كخضرة قلبك حين يهب الناس المحبة،
يا تريزا يا أبنة أمي وروحي..
اخترتُ لكِ اسمك صارِخةً:
- سموها نجوى..
وما أحلاك من نجوى،
أستحضر وجهك من بين فيافى الطفولةِ الجميلة -وجهك المشع وطفولتك المرحة- لتتواتر حكاياتنا، أشواقنا وعذاباتنا فى هذا الليل الطويل الذي لا يبدو البتة بأنه إيذان صباح يولد من خلفه أو فوقه. فقد داهمتني الذكرى ليلة أمس وحشرتني بزقاق بيتنا المسكون بالجن وحكاياته.
ذلك الزقاق الخلفي الذي استغللنا مساحة طولية منه لبناء مطبخ من القش.
بيتنا الذي تحمل أجسادنا المنضوية في جنباته وستر حكايتنا وأنبت ندي أحلامنا,
بيتنا الذي أثار فينا الجمال والشجون والرهبة، ففي الشتاء حين يكتمل القمر يشدنا الفضول إلى ذلك الزقاق لمعاينة الجنية التي تضاهي القمر نورا.
أشارت حبوبتنا ريا إلى أنها من الجن المسلم. وإلى أن البقرات الغير حلوبات في حوش الجيران الطيبين يطاردن الجن ليلاً، لكنما تصر العمة (كُنة) على أنها رأت النار واللهيب يخرج من فم الأبقار حيث بها أخافت الجن الكافر.
أمامي الآن ترقد حزمةُ أوراقٍ وعشرات أقلام رصاص وزرافة مجنونة هي نجوانا، فتنطُّ حكاياتي معها من تلك الأقلام دون أن أحركها فأرسمُ بمِدادها على الأوراق،
لكنما تلك الكلمات التي تتقافز أتعبني يا صديقتي إنزالها إلى مدى الأوراق فأضحت كما الخيال،
أضحت كما حرن النوم عن إسبال عيناي في براحاته،
كما الليل المتمدد والحمى صاعِدةً من أخمص الشجن حتى قمته وهو ينهمر بينما يطرقع المطر أصابع ذلك الليل بقسوة،
ليلٌ لا يشبه ليلنا هناك حيث كنا (نكرفس) أرواحنا قبل أجسادنا الصغيرة،
المطر والرعد ورفقتنا في درب صراطنا الحزين ما أفتقده الآن،
حكايات بعيدة وكأنها حدثت قبل أيام تشقق ملوحتها أقدام أحلامي ومن جهة أخرى تهب هبوطها سنداً لتنهضَ كُرياتُ التحدي الحمراء والصفراء والخضراء يا قوس قزحنا البهي.
لكِ (نجوى) من الألقاب قلائد ونجيمات وهبها لك الأصدقاء النبلاء:
الزراف ركوب الجن، الأم تريزا، جوي، النجيو (الولد الحليو).
ولكني سميتك ياقوتة البحر الفريدة،
لكم أشتاق لعينيك الماهلتين كساحات الرقص حين كنتِ تمارسين المحبة شعائراَ وتغرسين بذورها في كل من حولك فتشب أناشيد تدثرك وتدثرنا نحن البنات الثلاث اللاتي يواجهن قسوة الواقع ولؤمه في ذلك الزمان البعيد القريب من القلب.
فيما أزمع أن أكتب كانت الحمى تأكل من جسدي سكونه القلق وكان عرق حكايتنا يتصبب.. فصرختُ فيّ:
- دعيه يبل صهد الذاكرة، يبلها فتنهض...
وفيما أنغمسُ في الإزماع والفعل تواتر إليّ صوت صديقتنا المشتركة ورفيقة أيام الطفولة والصبا (الهام الجيلي) متسللاً إلى الروح كدأبه، سألتني عنك قائلة:
- نجوى الجميلة الحلوة كيفنها؟
وأنطلقنا نحكي حتى أشرقت دموعنا وأناختِ الأحزان ضحكنا.
هي من زمرة الصديقات والأصدقاء الذين بقوا بهاراً (حادقاً) في تاريخنا المشترك..
نمت بعد المكالمة التي استمرت قرابة الساعتين والطمأنينة تتلبسني وشاحاً، وشاح إلهام حميم في ليل غريب.
صباحاتي غير الصباحات..
أغلقت ذاكرتي ليلة أمس بـ (فاليوم) النحيب ثم صحوت فألفيتها تشدو إليكِ وإلى تلك الأيام..
صحوت فألفيت قطرات المطر تغسل الأجساد الواجفة وأمي و(الكانون) الحنين ورائحة الطعام و... حزن عينيها.
صحوتُ فألفيت (منى) واسطة عقدنا الساخرة تعلق:
- ده بث مباشر..
فأنفجرنا بالضحك، وسقف الغرفة لا يكف عن (الصببان)،
صحوتُ...
البث المباشر الذي كنا نهاجر إليه في حي إشلاق البوليس، نتراص دونما تفريق بين جنس وجنس لمشاهدة مسلسل (أوراق الورد) و (وردة الجزائرية) التي تطالعنا عبر التلفزيون الوحيد الذي متع عيوننا الفضولية الصغيرة حينها، وأدخل إلى قاموسنا البدوي الشاسع مفردات من شاكلة البث المباشر- المفردة المكرورة التي كانت تلوكها (منى) ليلاً ونهارا.
تلك الغرفة التي وسعتنا جميعا وسعت معنا كلبة الجيران ودجاج نوره.
(أهكذا تتداخل الأزمنة والأمكنة وتزاحمني في صحوي ومنامي الشحيح!!)
كان المطر لا ينقطع في (كوستي) تلك المدينة التي أحببت والتي عركتنا بيوتها وشوارعها وناسها وعجنت أوجاعنا في مئات البنات اللاتي لم يكلّن من البحث عن موطئ للذات في سعيها الهميم.
تظل صلتنا ببعضنا قوية، ربما تأتى ذلك من المحن التي لازمتنا سنينا طوال، ربما الإصرار والعزيمة للنحت على الصخر.
كنتِ أيضاً كثيرة الأسئلة ولا يهدأ لك بال أن لم تقنعك الإجابة، تجلسين بجانب جدنا لتشذبين له لحيته وتقلمين أظافره وتعدين له (التباك) حين لا أفعل ولا تكفين عن التعليقات الساخرة:
فيضحك من قلبه رغم أننا بالكاد نسمع له صوتاً، فقد كان هادئاً ووديعاً كطفل وليد أنغمس في النوم،
ثم تنامين بجانبه وتصبين قيامة أسئلتك وأنت لم تتجاوزي حينها السابعة من عمرك:
- أنت يا جدي العور عينك شنو؟
فيجتر دفاتر ذكرياته المغلقة المستعصية ويحكي لنا عن (عنبر جودة) حيث فقئت عينه، كانت جميلة يدل على ذلك عينه الأخرى باتساعها وتدويرة سوداها فى فضاء ابيض طاله القليل من اللون الرمادى.
انتبه لأكتب وهو يحكي لكنه سرعان ما يبتر ذلك نشرة الأخبار:
- هنا إذاعة البي بى سى..
ليضيع حلمي في الكتابة عنه في حصة الإنشاء القادمة، لكني كتبته في ثنايا قلبي منذ أن أنتبه ليسألني عن شجوني الخاصة، وفي زمن تلهى فيه الجميع بهمومه بقينا نحن كل همه.
كنت (عنترنا) رغم أنكِ أصغرنا،
حين يعود (معاوية) توأم (منى) والذي يكبرك ببضعة أعوام ومازال طيباً وهادئاً، من المدرسة باكياً وعلى وجههه آثار خربشة، ويحكى عن (العصابة) المكونة من مجموعة من الاولاد والتي تآمرت عليه وقامت بضربه فإنكِ تتناولين أقرب (طوبة) وتهرولين باتجاه بيتهم وتناديهم:
- كان رجال أطلعوا لي بره!!
ارتكبوا تلك الحماقة مرة ووكان نصيبهم ضربا غير مبرحا وعدتِ إلى البيت مزهوة ومنتصرة
ومنذه لم يعد (معاوية) كما كُنا نكنيه مُخربَشا.
وفيما كُنتُ على العكس منك اطلق ساقى للريح ، فإني أذكر يوماً عجيباً صادف أيام المولد النبوي الشريف ومارست فيه فصاحتي مع بنات حاجة حواء فقمن بضربي دون هوادة أو رحمة، وبعد أن أدين مهمتهن دندن بأغنية:
- تاني تجي المولد (يا بت هاج هامد)..والمعنى بت حاج حامد.
ولا أدري من أين تحصلين على الطوب الأحمر وبيوت حلتنا كلها من الجالوص، حملتي طوبك وأسلمتي ساقيك الطوال للريح. حذروك بأن بنات حاجة حواء متينات البنيان (يفطرن ويتغدن قدو قدو)*
ومازال البعض يذكر وأنت تتوعدين وتعدين بالانتصار (كان علي القدو قدو كلنا بناكلو) ومن يومها حرمن حتى اللعب مع بنات الحى فقد سكن الخوف جوفهن من طوبك.
تتبنين همومنا ومشاكلنا التي حين تكثر عليك يعلو طنين أساكِ صارِخاً:
- أنا ولدتكم ونسيتكم.
تقومين بكل الأفعال الكبيرة التي لا تناسب سنك مثل ردم الحوش والسقف، الطلاء، بل وتساعدين الجيران، وحين يصرخ أحدهم:
- يا أبو مروة طلبا للمساعدة
تقفزين ويمسك جدي من قدمك الصغيرة:
- الجماعة قالوا يا أبو مروة ما قالوا يا نجيوة..
وتماطلين جدي:
- يا تقوم أنت يا أقوم أنا.
ويضحك قائلا:
- أنت نسيتي إنو عيني أتعورت في عنبر جودة؟ ويكرر لسان حاله ماحكاه لنا ذات أمسية خريفية.
كنت مروءة السماء في فتاة..
تمشطين كما افعل ضفائر أمنا حليمة وتمازحينها:
- إنتي يا أمي البلح ده ما سوّس ماتطلعيهو لينا.، كانت امى حليمة تحتفظ بهدايا اهلها وتدس كيس من البلح الى شهر رمضان ومرّ الزمن وأصبتِ مثلها بداء التكديس فأطلقنا عليكِ تيمناً بها اسم (حليمة)..
حين تلمحين (عربة البوليس) يتجه صوب بيت كنو (النوباوية) المُعتزة بجذورها وتقول دائما حين نناديها باسمها تضيف الى اسمها (النباوية)، تركضين نحوها مخترقة صنوفاً من البشر تجلس تحت شجرة اللالوب ويحتسون فى الخمور البلدية من (مريسة أو بقنية أو عرقي) فتحذرينها مما يتجه إليها. وقد كنت الوحيدة التي أهدتها هدية ذات قيمة حين عودتها من الحج في أعوام لاحقة.
ذلك الحي الذي رغم بؤسه إلا أنه يظل فوانيسنا التي نحملها أينما ذهبنا أو سنذهب، لن نستطع نسيانه أو نسيان نسائه الجميلات القابضات على جمر الصبر، على أيديهن تعلمنا الكثير المفيد، كأن نواجه الدنيا وقسوتها بالضحك ونغسل أرواحنا بالدموع كلما واجهتنا المأساة ونحن لم نزل بعد يافعات.
لم ولن نخجل يوماً من واقعنا، الواقع الذي لم نصنعه لكنه صنعنا وأنفذ إلى ألبابنا وعياً حاداً، ولأن حياتنا كانت غير مرتبة لسنوات طويلة فإني علّقت تميمة في يومٍ من أيامِ الارتباك تلك مفادها:
- لا مخرج سوى المعرفة، ولا نافذة غير العلم، الم تشعل امنا حليمة فانوسا لنذاكر دروسنا وقولها لنا: (الرأس بيكون صافى فى الفجر).
كنتُ ومنى على يقينٍ بجدوى المعرفة لكنكِ كنتِ ملولةً تحذقين التنظير عن سخف المدرسة وطريقة التدريس وحفظ الأناشيد...الخ.
وعلى ضوء لمبة باهتة بدأنا طريقنا قبل أن يمنّ الله على أبي وعلينا فأنارت لمبات النيون بيتنا إذ ذاك اليوم الذي كان بمثابة يوم عيد لنا، فحينها كان الجازولين يكاد يقطعُ عن خيطِ اللمبة الوحيدة المستخدمة لكل شيء أخر له وشيجةٌ تربطه بها، تلك اللمبة التي أنارت ليالٍ طوالٍ في حياتنا وكانت أحد حججك وأنتِ تتمردين على المذاكرة، فقد كنتِ تنفجرين غضباً حين تلكزك منى مانعة إياك النوم:
- قومي اقري السماحة دي ما بتفيدك بعدين، اها قولي عرسوك وبعد سنين اتمليتي عيال وطلقوك حا تعملي شنو؟ لا شهادة ولا يحزنون!!
ويأتى ردك جاهزاً:
- منو القال ليكم أنا عاوزة اقرأ جامعة، أمتحن الشهادة واشتغل في مطار الخرطوم.
تضحك منى وهى تردد:
- حلم الجعان عيش.
ولكني كنت على يقينٍ بأنك ستفعلين وتكونين كما ترغبين..!!
ينفد الجازولين وتلفظ اللمبة آخر أنفاسها مع آخر شطر من النشيد المدرسي...
و كان علينا إيجاد وسيلة أخرى لمواجهة هذه الحياة الغريبة-وكنت قد فعلتها يوماً ومنى تشرح لىّ الرياضيات على عمود الكهرباء والدنيا فجرية ودون ان يننتبه احد ارتدينا ملابس المدرسة ثم خرجنا بنتين فى عمر غض فى شارع عام يراجعن عصارة الدرس لامتحان ينتظرنهن بعد ساعتين من ذلك الوقت ويحلمن بالغد وكنتى تتوسدين كفك وتتكلمين فى نومك و..... ويالها من سيرة.
ظل الفقر والمرض صنوان في حينا ولاشيء سوى العرديب (دواء المساكين) الذي تصنعه أمي لكِ وترفضين:
- يمة أنا حا موت، الحمى يا أمي.
وتردد أمي:
- الله كريم.
ويأتي صوتك خائراً:
- أقول ليك عاوزة دواء تقول لي الله كريم.
ويستغفر جدي الله ثلاثة وثلاثين مرة ويحمده ويصمت متأملاً السماء.
مرت الحياة بهزيعها، قسوتها، مطرها وأناشيدها وكبرت معنا الأسئلة، أسئلة الإفقار وأحلام التغيير، من البيت بدأنا، من النحت الذي تعلمناه منذ عصر سحيق، منذ أن قلنا للدنيا ها نحن هاهنا متمردات عليك فتلفعلي ما تريدين.. وفعلت الدنيا ما ترد، تخصصت في ترتيب حياتنا وفق تراتيل الأحزان المكشرة أنيابها وواجهناها بالعزيمة.
قبالة زريبة الحطب تقرع الطبول في الأعياد وكنت أحرصكن على الذهاب إلى هناك، مجنونة بالرقص ومازلت ولم تُجدِ تحذيرات أبي معي فتيلا فما أن تقرع الطبول إلا وتبدأ أقدامي الصغيرة فى قرع الأرض من بيتنا إلى هناك، قالت كنو:
- بت عشة دى عندها (ظار).
(ظار ظار) فليكن..
أعود خائفة ما من شيء إلا من أن يكتشف جدي أني قمت بسحب حذائه (السفنجة) ورقصت بها كما اشتهي.
أسماء وأناس هم تاريخنا الحقيقي ووجعنا الأزلي، لم تسطع أسماؤهم في كتاب كوستي ولا قصص الناس الغبش، القصة التي بدأت من هناك، من تلك البيوت وتلك الأصوات المجيدة التي لم تُغنِ لها يوماً (أمة الأمجاد.)
حين يقترب العيد يمنحنا أبى ما تجُد به ظروفه، نفكر (منى وأنا) بأن لا نشتري ما نشتهي فالأفضل الاهتمام بالبيت، تجليد (عنقريب) أو اثنين و طلاء الحيطان, وندخل معك فى مفاوضات فتحرنين وترفضين المساهمة:
- هي كلها كم، دي ما بتجيب لي الفستان البمبي، و كيلو باسطة ما تجيبو.
قلت لك:
- أنت أدفعي وحا تاكلي باسطة.
حين الححنا عليكِ اقترحتِ أن تكون مساهمتك (الطلاء والبوية ودق الزول البيدقنا يوم العيد).
كلما أرى فستاناً بمبي اللون تزدهي روحي وتهيم، كل الأشياء التى حرمنا منها إذ ذاك الزمان قد تكون ممكنة الآن ولكن الغير ممكن أن تشق ضحكاتنا سكون هذا الليل الكيئب.
رغم أن الليل صامت ومميت موحش فإن الحرامي سرق متستراً به شوال العيش الذى كان أبي سيبيعه زيادة فى الرزق، وقد قُبض عليه وأودع السجن فما كان منكِ إلا أن قسمتى من وجبتنا وطلبتي من الأمين أن يرافقك إلى السجن.
قسماً أنه الجنون بعينه فعُمرِك حينها كان تسعة أعوام وجسدك الغض يرتجف من البكاء تعاطفاً مع الحرامي الذى تجزمين بأنه سيكون قد بات جائعا.
في يوم العيد عادة ما تزورك صديقتك، وقد جاءت في عيدٍ ووجهها الصغير مورماً، وعرفتي منها أن اولاد الحى و أثناء لعبهم أفلتت الكرة دون قصدٍ وضربتها، خرجتي وصرختي فيهم عالياً، فأوقفوا اللعب فقد جاء (عنتر)، وسألتي من الذى ضربها فأشاروا إلى ناصر الذى مات غضاً عليه رحمة الله، فقلتي له:
- أقيف هنا..
ولأنكِ لاعبة كرة ماهرة فقد لفحتي وجهه بالكرة دونما اعتراض من أحد، ومن ثم عُدتي إلى البيت لتُعدين عصير العرديب لصديقتك فلاتلقين سُكراً فتجلبين لها ماءً داكن اللون وتضحكان في حبور وجمال.
تم ترويضك كما حدث معنا قبلك أثناء فرهدة أنوثتك ومن ثم هدأت أو قُمعت شقاوة الطفولة فيك، بل لعلها مرحلة أخرى من عمرك انتقلتي إليها فأحببتي فيها مثلي الحفلات وبيوت الأعراس وكنتي ترافقينني وتنغمسين معي في الرقص حينها و(مباراته) كالظل، الرقص الذي لولاه ما قاومت قهري وشجوني وما عدت إلى البيت كزغبٍ وليد يلتقط حب الحياة بشهية..
حين أكملت عامي الحادي عشر قُدر لأبينا أن يختار قُرنفلة أخرى ترافقه بقية مشوار حياته، كانت أمنا لم تتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمرها لكنها وقفت كسنديانة صامدة فى وجه حزنها وانكسارها ورفضت وردتنا الوضع الجديد فى زمن كان من الصعب على النساء أن يقلن (بغم). بقيت معنا وسكنا جميعاً فى بيت واحد وبعد أن وهب الله لدنيتنا بنتين جميلتين وولدين وسيمين كما النسمة تولت أمنا تربيتهم سوياً مع أبى وقرنفلته. فكانت أمهم قبل أن تكون أمنا، كان ذلك هو العزاء والسلوى التي داوت به جراحاتها.
هذه الأحداث غيرت مجرى نهرنا.
فكم سهرنا الليل نفلي حقول الحزن وننده دميرة أرواحنا لتفيض ببعض الأمل والتماسك.
قناعتي ترسخت منذ ذلك الزمان البعيد وأنا أكبركم جميعاً، فقد انتهجت طريقاً شائكاً ولكنه سيكون طريق الخلاص، المعرفة هي بابنا الأعظم للمستقبل والعلم هو ضمانة عمرنا القادم.
حققتِ حلمك بالعمل فى المطار بعد أمتحان الشهادة السودانية ودرستِ أثناء العمل الجامعة وكنتِ تقومين ومازلتِ بكل المهام الانسانية كما نحلة تمنح عصارتها للناس، عركتك دروب كثيرة وعركتها، العمل السياسى الذى وهبته أنضر سنوات عمرك فصقلك، سلكنا دروب كثيرة ومن خلالها كسبنا عالماً جميلاً، عرفنا أناساً كانوا لنا السند والعضد وعرفنا أيضاً ما يكفي من أولئك الذين خدشوا أرواحنا بالحزن.
كل ذلك العالم يا نجيوة يصحو صاخباً فيّ،
عاودني التوتر والقلق والذاكرة التى فى تمام صحوها الآن..
(ناس فى حياتنا)
كانوا ومازالوا الوهج وزبدة الإنسانية.
أجلس الآن فى حديقة مشذبة وجميلة، عصافيرها تزقزق وقلبي يشدو بمحبة النساء اللائي بّهرن حياتنا بالمحنة والسند أيام كانت المحن سيدة الآوان:
حولية، حواء، زهراء، سعدية، بت الجعلي، سعاد، كاكا، كلتوشة، نورا الشايقية، الفاطمتين، جمال، كنى، جردة، مريم قرشو، الشاتي وأم خريف...
يا لهذا التنوع البديع الذي ينساب فيّ كما اللحن الخالد فتزهر الدموع.
بت هيرون، لن تنسيها وكذلك لن أفعل، تمر أمام بيتنا تحمل عتاداً وأحجاراً جمعتها من (كوشة ملس) الشهيرة، وجهها جميلاً وجسدها نحيلاً، حتى حينما يكسو ملامحها الغضب تبدو باهرة بل أكثر إبهارا، سألت أمي يوماً عنها فبت هيرون كانت لا تفتح (قطيتها) أبداً ولا أحد يعرف ما بداخلها لكنها كانت تفتحها فقط لأمي وتبتسم فى وجهها قائلة:
- حباب بت حامد الجابها الدرب.
ودرب بت هيرون كان محفوفاً بشوك الأسئلة والغبينة والغضب، وكنت على يقين بانها الواعية وجميعنا مجانين.
(ود ابتمرة) الذي كان فارعاً كنخلة ، وكنا نحبه جداً ونلتف حوله ونحن صغاراً، فإنكِ ما أن ترينه الا ويتهلل وجهك وهو يلف سبع لفات ويدندن بصوت رخيم:
- الله حي، حي الله.
لن أنسى يوماً ناديناه فيه، وهو المسن الطيب النقي، وما كنا نسبق أسمه بأي لقب فقط ود ابتمرة، فدخل بيتنا وأجلسناه واعطيناه جلباب جدي وجلسنا نغسل له جلبابه وادخلتِ له الجردل ليغسل جسمه النحيل، خرج مبتسماً ولبس جلبابه نظيفا وطبع قبلة على جبينك وجبينى قائلاً:
- الله يخليكن يا بنات حليمة..
صوت ود ابتمرة يغيبني الآن من المكان، ألمح وجهه ساطعاً وأذكر أنه كان أيضاً الملح الذى أضاف طعم عزيمة التغيير إلى دروبنا.
(أسماء فى حياتنا) الاسماء الحقيقية التى شبت حريقاً فى وجه الظلم ورحلت دون أن تنعم بحق الحياة الإنسانية،
رحلوا وبقيت وقلمي لأكتبهم:
صبرة وبت هيرون، ود ابتمرة ، والجمل طويل العنق الذى كان يجلب اللحم البائس من السلخانة، وجميل كوستي البهيج، وفنانينها وحسن كروشه وأغنيته التى أشتهر بها وأبكانى بصوته الرخيم فى الحفلات:
- مبروك عليك الليلة يانعومة، ياحليل ناس ديل الزمان بيجونا...
مضى بعضهم عن عالمنا دون أن نسمع صوتهم في (هنا أمدرمان) ولكن (الله حي.. حي الله)...
صرت بعيدة وهم أقرب إليّ من شهقتى بالحياة التى عافرتها بصمود وإرادة، حياتي التي كان زادها هؤلاء وأولئك ومن قبل أنتِ يا أمنا يا تريزا.
فتحنا عيوننا على الشقاء منذ وقت باكر، معتمدين على ذواتنا كُنا نعمل فى الإجازات الصيفية فى بلدية كوستى إلى أن منّ الله على منى وهى الذكية التى لا يتفوق أحد عليها في الرياضيات فعملت محاسبة بمصنع كنانة قبل أن تستوعبها جامعة جوبا، وعلى يديها عرفنا ديمومة السكر، وكانت توزعه مع أمي لكل بيت فتتعالى دعوات الجيران (الله يخليك يا التومة) كانوا يفضلون مناداتها بالتومة بدلا عن منى وتوأمها معاوية ينادونه بالتوم.
أيتها البينة الجسورة، كيف وقفتِ بوجه أمن كوستي حين جاءوا إلى بيتنا بعد انقلاب الإنقاذ بأيام معدودات يبحثون عني، حرقوا كتبي التى أشتريتها بشق الأنفس، حرقوها وسط غرفتنا تلك، ولم تنطفىء فالمطر كان يبلل كل الغرفة عدا المكان الذي حرقوا فيه سبل معرفتى. وكان أبي مندهشاً فكيف يسألون عني وأنت كنت أكثر نشاطاً مني في كوستي؟ كيف ولم أساهم مثلك فى الحركة الديمقراطية بالمدينة؟ ام بسبب كونى كنت قيادية فى الجبهة الديمقراطية بكلية البنات بالجامعة الاسلامية
حين أخبروني وأنا فى الخرطوم أبحث دونما كلل عن عمل بعد التخرج ظننت فعلاً بأنهم ضلوا طريقهم إلي فأنتِ هي المعنية، ولكنهم ظلوا يعودون إلى البيت ودفعت عواطف الثمن كيّا بالنار على قدميها وهى تنفي معرفتها بي، صمدت وكان من الممكن أن تخبرهم مكاني، ولكنها عواطف البلد الشاهق..
قبيل استعدادي للسفر إلى النمسا كنا قد استأجرنا (قطعة أرض) لنبنها بدلاً أن تكون كل واحدة من ثلاثتنا فى الداخليات، وأن تكون أمنا معنا.
إننا دوماً نلتقي ببشر نبيل في مسيرة كفاحنا مثل ذلك الحوش الأليف فى القوز وأهله والذي ضمنا جميعاً، مثل عم علي قرموط الذي عرفته أثناء عملي كسكرتيرة فى العمارة الكويتية التي يعمل فيها مقاولاً لنفس الشركة التي واصلتِ بعدي العمل فيها. وعم علي هذا تعامل معنا كبناته وحين عرف جزء من همومنا العاصفة اقترح علينا قطعة أرض صغيرة فى الديم على أن نبنيها ونسكن فيها مجاناً لمدة عام وراقت لنا الفكرة فقد كانت الأفكار المجنونة التي يراها البعض مستحيلة التحقيق دائماً ما تروقنا، وبدأنا، فى حي شعبي حميم تفصله بضع خطوات من محطة الشدرات، بدأنا مشوار التعب ولم يكن حينها قد تبقى الكثير من الوقت على سفري إلى النمسا.
سألتُ: من الذى سيبنيها؟
فسطع صوتك: نحن.
وضحكنا قائلين: يا مجنونة كيف يعني؟
وجاء ردك صامداً: ايوة صلاح كشكش يضع الخرطة وأنا ومنى نبنيها وهو يراقبنا.
صلاح كشكش -أخونا الذي لم تلده أمنا- هو ود الجيران في كوستي التى منحتنا خيرة الناس.
وكنا بنات العناد المر، العناد الذى تعلمناه من البنات أخريات من حينا ذاك، كيف تماسكن بنا وتماسكنا بهن وكيف منحتِ لهن زمنك وقلبك وأشياء لا أرغب فى ذكرها.
كيف كنتِ تدبرين الحياة وتجارينها بعد سفرنا؟ كيف استطعتِ أن تغني رغم الجراحات؟ وكيف حافظتِ على إنسانك النبيل؟
يا نجيوتنا،
يا تريزا،
أعذريني وأنا أختصر إنسانة مثلك فى بضع صفحات،
فأفعالك ونبلك يحتاج إلى زمن وإلى روح تتحمل شهيق فرحتها بك
فلتظلي فوانيسي المانحة ضوءها للناس من شعاع عينيك
وسأظل أحبك يا نجوى...
أحبك وأهديك سنوات عمري بكل ما فيها وما عليها
فقط لأنك تستحقين
ولأنك
ن
ج
و
لقد سبقتك إلى التلويح للكونِ بشهقة وصراخ وأحلام جائلة، كبيرة أمها وأبوها،
وانت عصارتنا المفرحة.. اصغرنا
بيننا: أعوامٌ وشقاء الذاكرة وسيرة الناس الطيبة..
سبقكِ الحُزنُ واستوطن شجياً طافحاً من بين تفاصيلهِ بالبِشرِ تماماً كخضرة قلبك حين يهب الناس المحبة،
يا تريزا يا أبنة أمي وروحي..
اخترتُ لكِ اسمك صارِخةً:
- سموها نجوى..
وما أحلاك من نجوى،
أستحضر وجهك من بين فيافى الطفولةِ الجميلة -وجهك المشع وطفولتك المرحة- لتتواتر حكاياتنا، أشواقنا وعذاباتنا فى هذا الليل الطويل الذي لا يبدو البتة بأنه إيذان صباح يولد من خلفه أو فوقه. فقد داهمتني الذكرى ليلة أمس وحشرتني بزقاق بيتنا المسكون بالجن وحكاياته.
ذلك الزقاق الخلفي الذي استغللنا مساحة طولية منه لبناء مطبخ من القش.
بيتنا الذي تحمل أجسادنا المنضوية في جنباته وستر حكايتنا وأنبت ندي أحلامنا,
بيتنا الذي أثار فينا الجمال والشجون والرهبة، ففي الشتاء حين يكتمل القمر يشدنا الفضول إلى ذلك الزقاق لمعاينة الجنية التي تضاهي القمر نورا.
أشارت حبوبتنا ريا إلى أنها من الجن المسلم. وإلى أن البقرات الغير حلوبات في حوش الجيران الطيبين يطاردن الجن ليلاً، لكنما تصر العمة (كُنة) على أنها رأت النار واللهيب يخرج من فم الأبقار حيث بها أخافت الجن الكافر.
أمامي الآن ترقد حزمةُ أوراقٍ وعشرات أقلام رصاص وزرافة مجنونة هي نجوانا، فتنطُّ حكاياتي معها من تلك الأقلام دون أن أحركها فأرسمُ بمِدادها على الأوراق،
لكنما تلك الكلمات التي تتقافز أتعبني يا صديقتي إنزالها إلى مدى الأوراق فأضحت كما الخيال،
أضحت كما حرن النوم عن إسبال عيناي في براحاته،
كما الليل المتمدد والحمى صاعِدةً من أخمص الشجن حتى قمته وهو ينهمر بينما يطرقع المطر أصابع ذلك الليل بقسوة،
ليلٌ لا يشبه ليلنا هناك حيث كنا (نكرفس) أرواحنا قبل أجسادنا الصغيرة،
المطر والرعد ورفقتنا في درب صراطنا الحزين ما أفتقده الآن،
حكايات بعيدة وكأنها حدثت قبل أيام تشقق ملوحتها أقدام أحلامي ومن جهة أخرى تهب هبوطها سنداً لتنهضَ كُرياتُ التحدي الحمراء والصفراء والخضراء يا قوس قزحنا البهي.
لكِ (نجوى) من الألقاب قلائد ونجيمات وهبها لك الأصدقاء النبلاء:
الزراف ركوب الجن، الأم تريزا، جوي، النجيو (الولد الحليو).
ولكني سميتك ياقوتة البحر الفريدة،
لكم أشتاق لعينيك الماهلتين كساحات الرقص حين كنتِ تمارسين المحبة شعائراَ وتغرسين بذورها في كل من حولك فتشب أناشيد تدثرك وتدثرنا نحن البنات الثلاث اللاتي يواجهن قسوة الواقع ولؤمه في ذلك الزمان البعيد القريب من القلب.
فيما أزمع أن أكتب كانت الحمى تأكل من جسدي سكونه القلق وكان عرق حكايتنا يتصبب.. فصرختُ فيّ:
- دعيه يبل صهد الذاكرة، يبلها فتنهض...
وفيما أنغمسُ في الإزماع والفعل تواتر إليّ صوت صديقتنا المشتركة ورفيقة أيام الطفولة والصبا (الهام الجيلي) متسللاً إلى الروح كدأبه، سألتني عنك قائلة:
- نجوى الجميلة الحلوة كيفنها؟
وأنطلقنا نحكي حتى أشرقت دموعنا وأناختِ الأحزان ضحكنا.
هي من زمرة الصديقات والأصدقاء الذين بقوا بهاراً (حادقاً) في تاريخنا المشترك..
نمت بعد المكالمة التي استمرت قرابة الساعتين والطمأنينة تتلبسني وشاحاً، وشاح إلهام حميم في ليل غريب.
صباحاتي غير الصباحات..
أغلقت ذاكرتي ليلة أمس بـ (فاليوم) النحيب ثم صحوت فألفيتها تشدو إليكِ وإلى تلك الأيام..
صحوت فألفيت قطرات المطر تغسل الأجساد الواجفة وأمي و(الكانون) الحنين ورائحة الطعام و... حزن عينيها.
صحوتُ فألفيت (منى) واسطة عقدنا الساخرة تعلق:
- ده بث مباشر..
فأنفجرنا بالضحك، وسقف الغرفة لا يكف عن (الصببان)،
صحوتُ...
البث المباشر الذي كنا نهاجر إليه في حي إشلاق البوليس، نتراص دونما تفريق بين جنس وجنس لمشاهدة مسلسل (أوراق الورد) و (وردة الجزائرية) التي تطالعنا عبر التلفزيون الوحيد الذي متع عيوننا الفضولية الصغيرة حينها، وأدخل إلى قاموسنا البدوي الشاسع مفردات من شاكلة البث المباشر- المفردة المكرورة التي كانت تلوكها (منى) ليلاً ونهارا.
تلك الغرفة التي وسعتنا جميعا وسعت معنا كلبة الجيران ودجاج نوره.
(أهكذا تتداخل الأزمنة والأمكنة وتزاحمني في صحوي ومنامي الشحيح!!)
كان المطر لا ينقطع في (كوستي) تلك المدينة التي أحببت والتي عركتنا بيوتها وشوارعها وناسها وعجنت أوجاعنا في مئات البنات اللاتي لم يكلّن من البحث عن موطئ للذات في سعيها الهميم.
تظل صلتنا ببعضنا قوية، ربما تأتى ذلك من المحن التي لازمتنا سنينا طوال، ربما الإصرار والعزيمة للنحت على الصخر.
كنتِ أيضاً كثيرة الأسئلة ولا يهدأ لك بال أن لم تقنعك الإجابة، تجلسين بجانب جدنا لتشذبين له لحيته وتقلمين أظافره وتعدين له (التباك) حين لا أفعل ولا تكفين عن التعليقات الساخرة:
فيضحك من قلبه رغم أننا بالكاد نسمع له صوتاً، فقد كان هادئاً ووديعاً كطفل وليد أنغمس في النوم،
ثم تنامين بجانبه وتصبين قيامة أسئلتك وأنت لم تتجاوزي حينها السابعة من عمرك:
- أنت يا جدي العور عينك شنو؟
فيجتر دفاتر ذكرياته المغلقة المستعصية ويحكي لنا عن (عنبر جودة) حيث فقئت عينه، كانت جميلة يدل على ذلك عينه الأخرى باتساعها وتدويرة سوداها فى فضاء ابيض طاله القليل من اللون الرمادى.
انتبه لأكتب وهو يحكي لكنه سرعان ما يبتر ذلك نشرة الأخبار:
- هنا إذاعة البي بى سى..
ليضيع حلمي في الكتابة عنه في حصة الإنشاء القادمة، لكني كتبته في ثنايا قلبي منذ أن أنتبه ليسألني عن شجوني الخاصة، وفي زمن تلهى فيه الجميع بهمومه بقينا نحن كل همه.
كنت (عنترنا) رغم أنكِ أصغرنا،
حين يعود (معاوية) توأم (منى) والذي يكبرك ببضعة أعوام ومازال طيباً وهادئاً، من المدرسة باكياً وعلى وجههه آثار خربشة، ويحكى عن (العصابة) المكونة من مجموعة من الاولاد والتي تآمرت عليه وقامت بضربه فإنكِ تتناولين أقرب (طوبة) وتهرولين باتجاه بيتهم وتناديهم:
- كان رجال أطلعوا لي بره!!
ارتكبوا تلك الحماقة مرة ووكان نصيبهم ضربا غير مبرحا وعدتِ إلى البيت مزهوة ومنتصرة
ومنذه لم يعد (معاوية) كما كُنا نكنيه مُخربَشا.
وفيما كُنتُ على العكس منك اطلق ساقى للريح ، فإني أذكر يوماً عجيباً صادف أيام المولد النبوي الشريف ومارست فيه فصاحتي مع بنات حاجة حواء فقمن بضربي دون هوادة أو رحمة، وبعد أن أدين مهمتهن دندن بأغنية:
- تاني تجي المولد (يا بت هاج هامد)..والمعنى بت حاج حامد.
ولا أدري من أين تحصلين على الطوب الأحمر وبيوت حلتنا كلها من الجالوص، حملتي طوبك وأسلمتي ساقيك الطوال للريح. حذروك بأن بنات حاجة حواء متينات البنيان (يفطرن ويتغدن قدو قدو)*
ومازال البعض يذكر وأنت تتوعدين وتعدين بالانتصار (كان علي القدو قدو كلنا بناكلو) ومن يومها حرمن حتى اللعب مع بنات الحى فقد سكن الخوف جوفهن من طوبك.
تتبنين همومنا ومشاكلنا التي حين تكثر عليك يعلو طنين أساكِ صارِخاً:
- أنا ولدتكم ونسيتكم.
تقومين بكل الأفعال الكبيرة التي لا تناسب سنك مثل ردم الحوش والسقف، الطلاء، بل وتساعدين الجيران، وحين يصرخ أحدهم:
- يا أبو مروة طلبا للمساعدة
تقفزين ويمسك جدي من قدمك الصغيرة:
- الجماعة قالوا يا أبو مروة ما قالوا يا نجيوة..
وتماطلين جدي:
- يا تقوم أنت يا أقوم أنا.
ويضحك قائلا:
- أنت نسيتي إنو عيني أتعورت في عنبر جودة؟ ويكرر لسان حاله ماحكاه لنا ذات أمسية خريفية.
كنت مروءة السماء في فتاة..
تمشطين كما افعل ضفائر أمنا حليمة وتمازحينها:
- إنتي يا أمي البلح ده ما سوّس ماتطلعيهو لينا.، كانت امى حليمة تحتفظ بهدايا اهلها وتدس كيس من البلح الى شهر رمضان ومرّ الزمن وأصبتِ مثلها بداء التكديس فأطلقنا عليكِ تيمناً بها اسم (حليمة)..
حين تلمحين (عربة البوليس) يتجه صوب بيت كنو (النوباوية) المُعتزة بجذورها وتقول دائما حين نناديها باسمها تضيف الى اسمها (النباوية)، تركضين نحوها مخترقة صنوفاً من البشر تجلس تحت شجرة اللالوب ويحتسون فى الخمور البلدية من (مريسة أو بقنية أو عرقي) فتحذرينها مما يتجه إليها. وقد كنت الوحيدة التي أهدتها هدية ذات قيمة حين عودتها من الحج في أعوام لاحقة.
ذلك الحي الذي رغم بؤسه إلا أنه يظل فوانيسنا التي نحملها أينما ذهبنا أو سنذهب، لن نستطع نسيانه أو نسيان نسائه الجميلات القابضات على جمر الصبر، على أيديهن تعلمنا الكثير المفيد، كأن نواجه الدنيا وقسوتها بالضحك ونغسل أرواحنا بالدموع كلما واجهتنا المأساة ونحن لم نزل بعد يافعات.
لم ولن نخجل يوماً من واقعنا، الواقع الذي لم نصنعه لكنه صنعنا وأنفذ إلى ألبابنا وعياً حاداً، ولأن حياتنا كانت غير مرتبة لسنوات طويلة فإني علّقت تميمة في يومٍ من أيامِ الارتباك تلك مفادها:
- لا مخرج سوى المعرفة، ولا نافذة غير العلم، الم تشعل امنا حليمة فانوسا لنذاكر دروسنا وقولها لنا: (الرأس بيكون صافى فى الفجر).
كنتُ ومنى على يقينٍ بجدوى المعرفة لكنكِ كنتِ ملولةً تحذقين التنظير عن سخف المدرسة وطريقة التدريس وحفظ الأناشيد...الخ.
وعلى ضوء لمبة باهتة بدأنا طريقنا قبل أن يمنّ الله على أبي وعلينا فأنارت لمبات النيون بيتنا إذ ذاك اليوم الذي كان بمثابة يوم عيد لنا، فحينها كان الجازولين يكاد يقطعُ عن خيطِ اللمبة الوحيدة المستخدمة لكل شيء أخر له وشيجةٌ تربطه بها، تلك اللمبة التي أنارت ليالٍ طوالٍ في حياتنا وكانت أحد حججك وأنتِ تتمردين على المذاكرة، فقد كنتِ تنفجرين غضباً حين تلكزك منى مانعة إياك النوم:
- قومي اقري السماحة دي ما بتفيدك بعدين، اها قولي عرسوك وبعد سنين اتمليتي عيال وطلقوك حا تعملي شنو؟ لا شهادة ولا يحزنون!!
ويأتى ردك جاهزاً:
- منو القال ليكم أنا عاوزة اقرأ جامعة، أمتحن الشهادة واشتغل في مطار الخرطوم.
تضحك منى وهى تردد:
- حلم الجعان عيش.
ولكني كنت على يقينٍ بأنك ستفعلين وتكونين كما ترغبين..!!
ينفد الجازولين وتلفظ اللمبة آخر أنفاسها مع آخر شطر من النشيد المدرسي...
و كان علينا إيجاد وسيلة أخرى لمواجهة هذه الحياة الغريبة-وكنت قد فعلتها يوماً ومنى تشرح لىّ الرياضيات على عمود الكهرباء والدنيا فجرية ودون ان يننتبه احد ارتدينا ملابس المدرسة ثم خرجنا بنتين فى عمر غض فى شارع عام يراجعن عصارة الدرس لامتحان ينتظرنهن بعد ساعتين من ذلك الوقت ويحلمن بالغد وكنتى تتوسدين كفك وتتكلمين فى نومك و..... ويالها من سيرة.
ظل الفقر والمرض صنوان في حينا ولاشيء سوى العرديب (دواء المساكين) الذي تصنعه أمي لكِ وترفضين:
- يمة أنا حا موت، الحمى يا أمي.
وتردد أمي:
- الله كريم.
ويأتي صوتك خائراً:
- أقول ليك عاوزة دواء تقول لي الله كريم.
ويستغفر جدي الله ثلاثة وثلاثين مرة ويحمده ويصمت متأملاً السماء.
مرت الحياة بهزيعها، قسوتها، مطرها وأناشيدها وكبرت معنا الأسئلة، أسئلة الإفقار وأحلام التغيير، من البيت بدأنا، من النحت الذي تعلمناه منذ عصر سحيق، منذ أن قلنا للدنيا ها نحن هاهنا متمردات عليك فتلفعلي ما تريدين.. وفعلت الدنيا ما ترد، تخصصت في ترتيب حياتنا وفق تراتيل الأحزان المكشرة أنيابها وواجهناها بالعزيمة.
قبالة زريبة الحطب تقرع الطبول في الأعياد وكنت أحرصكن على الذهاب إلى هناك، مجنونة بالرقص ومازلت ولم تُجدِ تحذيرات أبي معي فتيلا فما أن تقرع الطبول إلا وتبدأ أقدامي الصغيرة فى قرع الأرض من بيتنا إلى هناك، قالت كنو:
- بت عشة دى عندها (ظار).
(ظار ظار) فليكن..
أعود خائفة ما من شيء إلا من أن يكتشف جدي أني قمت بسحب حذائه (السفنجة) ورقصت بها كما اشتهي.
أسماء وأناس هم تاريخنا الحقيقي ووجعنا الأزلي، لم تسطع أسماؤهم في كتاب كوستي ولا قصص الناس الغبش، القصة التي بدأت من هناك، من تلك البيوت وتلك الأصوات المجيدة التي لم تُغنِ لها يوماً (أمة الأمجاد.)
حين يقترب العيد يمنحنا أبى ما تجُد به ظروفه، نفكر (منى وأنا) بأن لا نشتري ما نشتهي فالأفضل الاهتمام بالبيت، تجليد (عنقريب) أو اثنين و طلاء الحيطان, وندخل معك فى مفاوضات فتحرنين وترفضين المساهمة:
- هي كلها كم، دي ما بتجيب لي الفستان البمبي، و كيلو باسطة ما تجيبو.
قلت لك:
- أنت أدفعي وحا تاكلي باسطة.
حين الححنا عليكِ اقترحتِ أن تكون مساهمتك (الطلاء والبوية ودق الزول البيدقنا يوم العيد).
كلما أرى فستاناً بمبي اللون تزدهي روحي وتهيم، كل الأشياء التى حرمنا منها إذ ذاك الزمان قد تكون ممكنة الآن ولكن الغير ممكن أن تشق ضحكاتنا سكون هذا الليل الكيئب.
رغم أن الليل صامت ومميت موحش فإن الحرامي سرق متستراً به شوال العيش الذى كان أبي سيبيعه زيادة فى الرزق، وقد قُبض عليه وأودع السجن فما كان منكِ إلا أن قسمتى من وجبتنا وطلبتي من الأمين أن يرافقك إلى السجن.
قسماً أنه الجنون بعينه فعُمرِك حينها كان تسعة أعوام وجسدك الغض يرتجف من البكاء تعاطفاً مع الحرامي الذى تجزمين بأنه سيكون قد بات جائعا.
في يوم العيد عادة ما تزورك صديقتك، وقد جاءت في عيدٍ ووجهها الصغير مورماً، وعرفتي منها أن اولاد الحى و أثناء لعبهم أفلتت الكرة دون قصدٍ وضربتها، خرجتي وصرختي فيهم عالياً، فأوقفوا اللعب فقد جاء (عنتر)، وسألتي من الذى ضربها فأشاروا إلى ناصر الذى مات غضاً عليه رحمة الله، فقلتي له:
- أقيف هنا..
ولأنكِ لاعبة كرة ماهرة فقد لفحتي وجهه بالكرة دونما اعتراض من أحد، ومن ثم عُدتي إلى البيت لتُعدين عصير العرديب لصديقتك فلاتلقين سُكراً فتجلبين لها ماءً داكن اللون وتضحكان في حبور وجمال.
تم ترويضك كما حدث معنا قبلك أثناء فرهدة أنوثتك ومن ثم هدأت أو قُمعت شقاوة الطفولة فيك، بل لعلها مرحلة أخرى من عمرك انتقلتي إليها فأحببتي فيها مثلي الحفلات وبيوت الأعراس وكنتي ترافقينني وتنغمسين معي في الرقص حينها و(مباراته) كالظل، الرقص الذي لولاه ما قاومت قهري وشجوني وما عدت إلى البيت كزغبٍ وليد يلتقط حب الحياة بشهية..
حين أكملت عامي الحادي عشر قُدر لأبينا أن يختار قُرنفلة أخرى ترافقه بقية مشوار حياته، كانت أمنا لم تتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمرها لكنها وقفت كسنديانة صامدة فى وجه حزنها وانكسارها ورفضت وردتنا الوضع الجديد فى زمن كان من الصعب على النساء أن يقلن (بغم). بقيت معنا وسكنا جميعاً فى بيت واحد وبعد أن وهب الله لدنيتنا بنتين جميلتين وولدين وسيمين كما النسمة تولت أمنا تربيتهم سوياً مع أبى وقرنفلته. فكانت أمهم قبل أن تكون أمنا، كان ذلك هو العزاء والسلوى التي داوت به جراحاتها.
هذه الأحداث غيرت مجرى نهرنا.
فكم سهرنا الليل نفلي حقول الحزن وننده دميرة أرواحنا لتفيض ببعض الأمل والتماسك.
قناعتي ترسخت منذ ذلك الزمان البعيد وأنا أكبركم جميعاً، فقد انتهجت طريقاً شائكاً ولكنه سيكون طريق الخلاص، المعرفة هي بابنا الأعظم للمستقبل والعلم هو ضمانة عمرنا القادم.
حققتِ حلمك بالعمل فى المطار بعد أمتحان الشهادة السودانية ودرستِ أثناء العمل الجامعة وكنتِ تقومين ومازلتِ بكل المهام الانسانية كما نحلة تمنح عصارتها للناس، عركتك دروب كثيرة وعركتها، العمل السياسى الذى وهبته أنضر سنوات عمرك فصقلك، سلكنا دروب كثيرة ومن خلالها كسبنا عالماً جميلاً، عرفنا أناساً كانوا لنا السند والعضد وعرفنا أيضاً ما يكفي من أولئك الذين خدشوا أرواحنا بالحزن.
كل ذلك العالم يا نجيوة يصحو صاخباً فيّ،
عاودني التوتر والقلق والذاكرة التى فى تمام صحوها الآن..
(ناس فى حياتنا)
كانوا ومازالوا الوهج وزبدة الإنسانية.
أجلس الآن فى حديقة مشذبة وجميلة، عصافيرها تزقزق وقلبي يشدو بمحبة النساء اللائي بّهرن حياتنا بالمحنة والسند أيام كانت المحن سيدة الآوان:
حولية، حواء، زهراء، سعدية، بت الجعلي، سعاد، كاكا، كلتوشة، نورا الشايقية، الفاطمتين، جمال، كنى، جردة، مريم قرشو، الشاتي وأم خريف...
يا لهذا التنوع البديع الذي ينساب فيّ كما اللحن الخالد فتزهر الدموع.
بت هيرون، لن تنسيها وكذلك لن أفعل، تمر أمام بيتنا تحمل عتاداً وأحجاراً جمعتها من (كوشة ملس) الشهيرة، وجهها جميلاً وجسدها نحيلاً، حتى حينما يكسو ملامحها الغضب تبدو باهرة بل أكثر إبهارا، سألت أمي يوماً عنها فبت هيرون كانت لا تفتح (قطيتها) أبداً ولا أحد يعرف ما بداخلها لكنها كانت تفتحها فقط لأمي وتبتسم فى وجهها قائلة:
- حباب بت حامد الجابها الدرب.
ودرب بت هيرون كان محفوفاً بشوك الأسئلة والغبينة والغضب، وكنت على يقين بانها الواعية وجميعنا مجانين.
(ود ابتمرة) الذي كان فارعاً كنخلة ، وكنا نحبه جداً ونلتف حوله ونحن صغاراً، فإنكِ ما أن ترينه الا ويتهلل وجهك وهو يلف سبع لفات ويدندن بصوت رخيم:
- الله حي، حي الله.
لن أنسى يوماً ناديناه فيه، وهو المسن الطيب النقي، وما كنا نسبق أسمه بأي لقب فقط ود ابتمرة، فدخل بيتنا وأجلسناه واعطيناه جلباب جدي وجلسنا نغسل له جلبابه وادخلتِ له الجردل ليغسل جسمه النحيل، خرج مبتسماً ولبس جلبابه نظيفا وطبع قبلة على جبينك وجبينى قائلاً:
- الله يخليكن يا بنات حليمة..
صوت ود ابتمرة يغيبني الآن من المكان، ألمح وجهه ساطعاً وأذكر أنه كان أيضاً الملح الذى أضاف طعم عزيمة التغيير إلى دروبنا.
(أسماء فى حياتنا) الاسماء الحقيقية التى شبت حريقاً فى وجه الظلم ورحلت دون أن تنعم بحق الحياة الإنسانية،
رحلوا وبقيت وقلمي لأكتبهم:
صبرة وبت هيرون، ود ابتمرة ، والجمل طويل العنق الذى كان يجلب اللحم البائس من السلخانة، وجميل كوستي البهيج، وفنانينها وحسن كروشه وأغنيته التى أشتهر بها وأبكانى بصوته الرخيم فى الحفلات:
- مبروك عليك الليلة يانعومة، ياحليل ناس ديل الزمان بيجونا...
مضى بعضهم عن عالمنا دون أن نسمع صوتهم في (هنا أمدرمان) ولكن (الله حي.. حي الله)...
صرت بعيدة وهم أقرب إليّ من شهقتى بالحياة التى عافرتها بصمود وإرادة، حياتي التي كان زادها هؤلاء وأولئك ومن قبل أنتِ يا أمنا يا تريزا.
فتحنا عيوننا على الشقاء منذ وقت باكر، معتمدين على ذواتنا كُنا نعمل فى الإجازات الصيفية فى بلدية كوستى إلى أن منّ الله على منى وهى الذكية التى لا يتفوق أحد عليها في الرياضيات فعملت محاسبة بمصنع كنانة قبل أن تستوعبها جامعة جوبا، وعلى يديها عرفنا ديمومة السكر، وكانت توزعه مع أمي لكل بيت فتتعالى دعوات الجيران (الله يخليك يا التومة) كانوا يفضلون مناداتها بالتومة بدلا عن منى وتوأمها معاوية ينادونه بالتوم.
أيتها البينة الجسورة، كيف وقفتِ بوجه أمن كوستي حين جاءوا إلى بيتنا بعد انقلاب الإنقاذ بأيام معدودات يبحثون عني، حرقوا كتبي التى أشتريتها بشق الأنفس، حرقوها وسط غرفتنا تلك، ولم تنطفىء فالمطر كان يبلل كل الغرفة عدا المكان الذي حرقوا فيه سبل معرفتى. وكان أبي مندهشاً فكيف يسألون عني وأنت كنت أكثر نشاطاً مني في كوستي؟ كيف ولم أساهم مثلك فى الحركة الديمقراطية بالمدينة؟ ام بسبب كونى كنت قيادية فى الجبهة الديمقراطية بكلية البنات بالجامعة الاسلامية
حين أخبروني وأنا فى الخرطوم أبحث دونما كلل عن عمل بعد التخرج ظننت فعلاً بأنهم ضلوا طريقهم إلي فأنتِ هي المعنية، ولكنهم ظلوا يعودون إلى البيت ودفعت عواطف الثمن كيّا بالنار على قدميها وهى تنفي معرفتها بي، صمدت وكان من الممكن أن تخبرهم مكاني، ولكنها عواطف البلد الشاهق..
قبيل استعدادي للسفر إلى النمسا كنا قد استأجرنا (قطعة أرض) لنبنها بدلاً أن تكون كل واحدة من ثلاثتنا فى الداخليات، وأن تكون أمنا معنا.
إننا دوماً نلتقي ببشر نبيل في مسيرة كفاحنا مثل ذلك الحوش الأليف فى القوز وأهله والذي ضمنا جميعاً، مثل عم علي قرموط الذي عرفته أثناء عملي كسكرتيرة فى العمارة الكويتية التي يعمل فيها مقاولاً لنفس الشركة التي واصلتِ بعدي العمل فيها. وعم علي هذا تعامل معنا كبناته وحين عرف جزء من همومنا العاصفة اقترح علينا قطعة أرض صغيرة فى الديم على أن نبنيها ونسكن فيها مجاناً لمدة عام وراقت لنا الفكرة فقد كانت الأفكار المجنونة التي يراها البعض مستحيلة التحقيق دائماً ما تروقنا، وبدأنا، فى حي شعبي حميم تفصله بضع خطوات من محطة الشدرات، بدأنا مشوار التعب ولم يكن حينها قد تبقى الكثير من الوقت على سفري إلى النمسا.
سألتُ: من الذى سيبنيها؟
فسطع صوتك: نحن.
وضحكنا قائلين: يا مجنونة كيف يعني؟
وجاء ردك صامداً: ايوة صلاح كشكش يضع الخرطة وأنا ومنى نبنيها وهو يراقبنا.
صلاح كشكش -أخونا الذي لم تلده أمنا- هو ود الجيران في كوستي التى منحتنا خيرة الناس.
وكنا بنات العناد المر، العناد الذى تعلمناه من البنات أخريات من حينا ذاك، كيف تماسكن بنا وتماسكنا بهن وكيف منحتِ لهن زمنك وقلبك وأشياء لا أرغب فى ذكرها.
كيف كنتِ تدبرين الحياة وتجارينها بعد سفرنا؟ كيف استطعتِ أن تغني رغم الجراحات؟ وكيف حافظتِ على إنسانك النبيل؟
يا نجيوتنا،
يا تريزا،
أعذريني وأنا أختصر إنسانة مثلك فى بضع صفحات،
فأفعالك ونبلك يحتاج إلى زمن وإلى روح تتحمل شهيق فرحتها بك
فلتظلي فوانيسي المانحة ضوءها للناس من شعاع عينيك
وسأظل أحبك يا نجوى...
أحبك وأهديك سنوات عمري بكل ما فيها وما عليها
فقط لأنك تستحقين
ولأنك
ن
ج
و
---------------------------------------
فصل من كتابي (أنثى الأنهار)..... الكتابة اغلي ما اهدى...
فصل من كتابي (أنثى الأنهار)..... الكتابة اغلي ما اهدى...
Comments
Post a Comment