Skip to main content

الفصل الاول من رواية عرس الزين للاستاذ الطيب صالح

الفصل الاول من رواية ""عرس الزين"" الطيب صالح
للراحل  الطيب صالح .
عرس الزين
قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش :
"سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس " .
وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة . واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن .
كان فناء المدرسة " الوسطى " ساكنا خاويا وقت الضحى ، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم ، وبدأ من بعيد صبي يهرول لاهث النفس ، وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية " وكانت حصة الناظر .
" يا ولد يا حمار . إيه أخرك ؟ "
ولمع المكر في عيني الطريفي :
" يا فندي سمعت الخبر ؟ "
" خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟ "
ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي ، فقال وهو يكتم ضحكته :
" الزين ماش يعقدو له بعد باكر "
وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي .
وفي السوق أقبل عبد الصمد على دكان شيخ علي ، محتقن الوجه ، ليس ثمة أدنى شك في أنه غضبان . كان له على شيخ علي ، تاجر العماري ، دين ماطله عليه شهرا كاملا - وقد قرر أن يخلصه منه ذلك اليوم ، بالخير أو بالشر .
" علي . أنت يعني قايل أنا ما بخلص قروشي منك ، ولا فكرك شنو ؟ "
" حاج عبد الصمد . كدى قول بسم الله واقعد نجيب لك فنجان جبنة "
" يا زول جبنتك طايره عليك ، قوم افتح الخزنة دي ادني قروشي ، ولا كمان أن بقيت ما بي ضمه كمان فهمني "
وبصق شيخ علي على " السفة " من فمه
" كدى اقعد اتحدثك بالخبر دا "
" يا زول أنا مو فاضي لك ولا فاضي لي خبيراتك ، باقي أنا عارفك مستهبل داير تطرتش على قروشي " . " يمين قروشك حاضرات ، كدى اقعد انحكيلك حكاية عرس الزين"
" قلت عرس منو ؟ "
" عرس الزين "
وجلس عبد الصمد ووضع يديه على رأسه وظل صامتا برهة ، وشيخ علي ينظر إليه مغتبطا بالأثر الذي أحدثه . وأخيرا وجد عبد الصمد ما يقول
" أي لا إله إلا الله محمداً رسول الله . عليك الرسول يا شيخ علي دار حديث شنودا ؟ "
ولم يخلص عبد الصمد دينه في ذلك اليوم
ولما انتصف النهار كان الخبر على فم كل أحد . وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته فتجمهر حوله الأطفال . وأخذوا ينشدون " الزين عرس .. الزين عرس " فكان يرميهم بالحجارة ، ويجر ثوب فتاة مرة ومرة يهمز امرأة في وسطها ، ومرة يقرس أخرى في فخذها والأطفال يضحكون ، والنساء يتصارخون ويضحكن وتعلو فوق ضحكهم جميعا الضحكة التي أصبحت جزءا من البلد منذ أن ولد الزين .
يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ ، هذا هو المعروف ولكن يروى أن الزين ، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرون ولادتها ، أول ما مس الأرض انفجر ضاحكا وظل هكذا طول حياته . كبر وليس في فمه غير سنّين . واحدة في فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل . وأمه تقول أن فمه كان مليئا بأسنان بيضاء كاللؤلؤ . ولما كان في السادسة ذهبت به يوما لزيارة قريبات لها ، فمرا عند مغيب الشمس على خرابة يشاع أنها مسكونة ، وفجأة تسمر الزين مكانه وأخذ يرتجف كمن به حمى ، ثم صرخ . وبعدها لزم الفراش أياما ، ولما قام من مرضه كانت أسنانه جميعا قد سقطت ، واحدة في فكه الأعلى ، وأخرى في فكه الأسفل .
كان وجه الزين مستطيلا ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين ، جبهته بارزة مستديرة ، عيناه صغيرتان محمرتان دائما ، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه ، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا . لم تكن له حواجب ولا أجفان ، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب .
تحت هذا الوجه رقبة طويلة ، ( من بين الألقاب التي أطلقها الصبيان على الزين " الزرافة " ) والرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدلان على بقية الجسم في شكل مثلث . الذراعان طويلتان كذراعي القرد . اليدان يظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة ( فالزين لا يقلم أظافره أبدا ) .
الصدر مجوف ، والظهر محدودب قليلا ، والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي ، أما القدمان فقد كانتا مفرطحتين عليهما آثار ندوب قديمة ( فالزين لا يحب لبس الأحذية ) وهو يذكر قصة كل جرح من هذه الجروح . مثلا هذا الشلخ الطويل على القدم اليمنى : الممتد من الرسغ على ظاهر القدم إلى الفرجة بين الأصبع الأولى والثانية . يحكي الزين قصته فيقول : " الجرح دا يا جماعة ليه حكاية " ويستفزه محجوب قائلا : " حكاية شنو يا عوير ؟ يا مشيت تسرق ضربوك بي غصن شوك " . ويقع هذا موقعا حسنا في نفس الزين . فيستلقي على قفاه ضاحكا . ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ويظل يضحك بطريقته الفذة . ذلك الضحك الغريب الذي يشبه نهيق الحمار . وكان ضحكه قد أعدى الحاضرين جميعا ، فتحول المجلس إلى قهقهة مدوية . ويتمالك الزين نفسه . ويمسح بكم ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من الضحك ، ويقول : أي .. أي .. مشيت أسرق " . ويستفزه محجوب من جديد : " شن مشيت تسرق آمر مد ؟ يمكن قت داير لك شيتن تاكله " . ويمسح الزين وجهه بيديه ويعود للضحك من جديد . ويرجح الحاضرون أن الزين دخل بيتا ليسرق طعاما . إذ أنه كان معروفا بالنهم ، إذا أكل لا يشبع . وفي الأعراس حين تأتي " سُفر " الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون ، يتحاشى كل فريق أن يجلس الزين معهم ، إذ أنه حينئذ يأتي في لمح البصر على كل ما في الآنية ، ولا يترك أكلا لآكل . وقال له عبد الحفيظ : " مالك طاري العملة العملتها وقت عرس سعيد ؟ " وأجاب الزين وهو يقهقه : " أي طاري .. عليك أمان الله الأكل وكت أكلته عدمته الحبة إن كان موجني إسماعيل مقطوع الطاري لحقني " . كان الزين قد أوكل بنقل الطعام في عرس سعيد فكان يمشي جيئة وذهابا بين " الديوان " حيث اجتمع الرجال و" التٌكل " في داخل اليت حيث تقوم النسوة بالطهي . وفي الطريق من التٌكل إلى الديوان كان الزين يتمهل قليلا ويأكل ما طاب له الأكل من الوعاء الذي يحمله . وحين يصل به إلى الناس يكاد يكون خاليا وفعل ذلك ثلاث مرات حتى لفت انتباه أحمد إسماعيل ، فتابعه حتى وقف في نصف الطريق ، ورفع الغطاء عن صينية مملوءة بالدجاج المحمر . وما أن أمسك الزين بدجاجة منها وقربها إلى فمه ، حتى هجم عليه أحمد إسماعيل وأشبعه ضربا . وسأله محجوب مرة أخرى " ما تقول لنا يا فقر مشيت تسرق شنو ؟ " ولما لاحظ الزين أن الناس حوله قد أرهفوا آذانهم ، اعتدل في قعدته ووضع ذراعية بين ركبتيه وقال " الصيف الفات وقت حس المريق ... كنت متأخر في الساقية ، الدنيا يا زول كان القمر يلجلج ، رميت توبي فوق كتفي وجيت سادر للبيوت ، أقول لك وكت وصلت الرملة العند طرف الحلة ، اسمع لك حس زغاريت ... " وقاطعه محجوب : " أي صدق : دا كان عرس بكري " . واستمر الزين : " أقول لك يا زول قت أمشي أشوف الحكاية شنو . أتاري ناس فريق الطلحة سارّين العرس . مشيت لقيت القيامة قايمة . الزيطة والزمبليطة والدلاليك والزغاريت أول شي مشيت أهبش إن كان ألقى لي شيتن آكله .. ".
وانفجر المجلس بالضحك . فقد كان ما قدروا .. " الحريم في التكل أدّني لحيمات أكلتها . وأدّني شيتن مر شربته ".
وقال محجوب : " يبقي دا عرقي آ مسجم " .
وقال الزين : " لا مو عرقي قال لك أنا العرقي ما بعرفوا .. أقول لك آزول الشي الشربته دا طار لي في راسي . يعدين مرتحت من التكل . دخلت بيت القالك كمشة حريم والأرباح والدلكة والمحلب ما يدّيك الدرب ... عليّ بالطلاق آزول الريحة سكرتني " .
وضحك عبد الحفيظ : " وين المره البطلقها مع الرجال ؟ " لم يعبأ الزين بهذا . ولكنه استمر يحكي في القصة وقد أخذته النشوة " وفي الوسط القالك العروس . بنيتن سميحة مكبرته ومدخنة وملبسنها فركة ترمصيص ". وهنا صمت الزين وأدار عينيه الصغرتين في وجوه الحاضرين . وفمه مفتوح وقد برز سناه . ولم يقو محجوب على الصبر ، فأخذ يستحثه أن يكمل القصة : " بعدين شن سويت ؟ ".
" بعدين نطيب على العروس ".
وحين قال هذا قفز من مكانه كالضفدعة . وضج الحاضرون وانفجر الزين في الضحك واستلقى على بطنه وراح يضرب برجليه في الهواء . ثم انقلب على ظهره وقال وهو ما يزال يشهق بالضحك : " مسكت الشافعة عضيتها في خشمها ". وتشهد محجوب واستغفر . " أقول لك يا زول الحريم طقن الكواريك والبيت فار والشافعة العروس بقت تصرخ . وما القا لك إلا زول ضرب كراعي بي سكين . أقول لك قت يا مين مسكنها فرد جريه لا من وصلت أهلي ". وفجأة استوى الزين جالسا وظهر على وجهه بالغ . وقال يوجه حديثه لمحجوب : " اسمع يا زول . أنت داير تعرس لي بتك علوية ولا عندك كلام ؟ " فأجابه محجوب بجد وحزم كأنه يعني ما يقول : " البت أنا مضيتها ليك . دحين قدام الناس الحاضرين ديل بعد تحش قمحك وتلم تمرك وتبيعه وتحضر القروش نجي نعقد لك " . هذا الوعد أرضى الزين . وصمت برهة وقد قطب حاجبيه وزم شفتيه وكأنه قد أخذ يفكر في مستقبل حياته مع علوية ومسؤولية القيام بأعباء زوجة وأطفال . وقال : " خلاص . اشهدوا يا خوانا . الرجل دا مرقت منه كلمة . باكر بعد باكر ما يجي يفكر " وقال الحاضرون جميعا . أحمد إسماعيل ، والطاهر الرواسي ، وعبد الحفيظ . وحمد ود الريس . وسعيد صاحب الدكان ،قالوا إنهم شهود على الوعد الذي قطعه محجوب وإن الزواج سيتم بإذن الله .
قصة حب الزين لعلوية ابنة محجوب كانت آخر قصة حب له . بعد شهر أو شهرين سيسأمها ويبدأ قصة جديدة ، لكنه في الوقت الحاضر مشغول بها ، يصحو وينام على ذكرها تجده في الحقل في منتصف النهار محنيا على " طوريته " والعرق يتصبب من وجهه وفجأة يكف عن الحفر
وينادي بأعلى صوته : " أنا مكتول في حوش محجوب ". وفي الحقول المجاورة يكف عشرات الناس . عن حفر الأرض برهة حين يسمعون نداء الزين . الشبان يضحكون ، وبعض الشيوخ الذين يضيقون أحيانا بعبث الزين يهمهمون بتبرم : " الولد المطرطش دا يرغي يقول شنو ؟ " وحين ينتهي العمل في الحقل إلى البيت وسط زفة كبيرة من الشبان والصبيان والفتيات الصغار ، يتضاحكون من حوله ، وهو يختال مزهوا بينهم . يضرب هذا على كتفه ، ويقرص هذه في خدها ويقفز في الهواء قفزات ، وكلما رأى شجيرة طلع على قارعة الطريق نط فوقها ، وبين الحين والحين يصيح بأعلى صوته ، صياحا يتردد في أرجاء القرية التي غربت عليها الشمس : "اروك .. يا ناس الغريق .. يا أهل الحلة ... أنا مكتول في حوش محجوب ... ".

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe