- حدود الظاهرة القومية
يكاد تفكك الدول القومية الصغيرة أو شبه القومية، وتطور الصراعات وتفجر الحروب الأهلية ونمو الحركات الانفصالية، يمثل الظاهرة السياسية والتاريخية الأبرز والأكثر انتشاراً في العالم منذ انتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينات. هكذا، من أفريقيا المدمرة بالنزاعات القبلية والعرقية، إلى شرق أوروبا المحمومة بحرب التنقية العرقية، مروراً بصراعات دول آسيا الأقوامية والدينية، وبتشنجات العالم العربي وحروبه الأهلية، تبرز أسبقية جدلية القوة النابذة والتفجيرية على جدلية التضامن والاتحاد الوطني أو القومي. وقد جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الذي يعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1994، أنه من بين 82 نزاعاً شهدتها العقود الثلاثة الماضية، 79 نزاعاً منها ذات طبيعة داخلية أو أهلية، وأن هذه الحروب قد جرت أساساً في بلدان نامية أو فقيرة. وعلى عكس ما كان الأمر عليه في عصر الحرب الباردة، لم تعد هناك ضرورة إلى التدخل الأجنبي من أجل إحياء الفتن المحلية أو إشعالها على الرغم من أن الدعم المالي أو السياسي أو العسكري الخارجي لا يزال شرطاً لبقائها.
تميل وسائل الإعلام الدولية الواقعة إلى حد كبير تحت تأثير ضغط المصالح واستراتيجيات الهيمنة الدولية، إلى إرجاع هذه النزاعات والحروب الداخلية إلى البنى الثقافية أو الدينية أو إلى الاختلافات العرقية واللغوية التي تتميز بها مجتمعات الجنوب. وقد أصبحت هذه الأطروحات شائعة بكثرة في حقبتنا هذه وانتقلت إلى وسائل الإعلام المحلية التي ليس لديها حصانة قوية لمقاومة إغراء تبني كل ما ينشر في البلدان المصنعة. وقد عزز ارتباط بعض النزاعات الراهنة بتصاعد تأثير العقائد الدينية، والإسلامية خصوصاً، من الانطباع بمصداقيتها ونجاعتها كإطار لتفسير ما يحدث.
بيد أن انتشار هذه الحركات التفتيتية وشمولها جميع القارات من جهة، وتركزها في مناطق معينة من جهة أخرى، يشير إلى أن الأمر يتجاوز العوامل الثقافية الخاصة بشعب أو منطقة، كما يتجاوز العوامل الاجتماعية الداخلية. فأين يمكن البحث عن مفتاح فهم هذه الدينامية التفكيكية؟
تشير أغلبية التحليلات التي تتعرض للنزاعات الداخلية إلى أن غياب الأمن السياسي والعسكري مرتبط إلى حد كبير بغياب الأمن المعاشي، وأن النـزوع إلى التفتت والتفكك والتخلي عن قيم التضامن الوطني والاجتماعي، أو بالأحرى موت هذه القيم، لا يمكن أن يفهم بمعزل عن حالة التهميش التي تعيشها أو تُدفع إليها المجتمعات والجماعات.
ويقف وراء حركة التهميش هذه الاستقطاب العالمي الجديد بأبعاده المختلفة، الاقتصادية والسياسية والثقافية. وينجم عن هذا الاستقطاب انهيار معايير التعامل داخل المجتمعات المهمشة واهتلاك القيم المدنية والأخلاقية، وتدهور النظام السياسي وتفكك شرعية السلطة ومصداقيتها. إن التهميش هو السياق التاريخي الذي يقضي على عناصر المدنية ويفتح الباب أمام عودة الفوضى ويدفع الجماعات التي تتكون منها الأمم أو المجتمعات النامية، والتي تأمل بفرص أكبر للاندماج في السوق العالمية، إلى التحلل من التزاماتها الوطنية وتنمية ولاءات خارجية تقربها من القطب الصناعي الذي يمارس عليها جاذبية شبيهة بالجاذبية المغنطيسية.
ويستند هذا الاستقطاب إلى عوامل تاريخية موضوعية وواعية معاً أولها هزيمة العالم الثالث في المعركة التي شنها منذ الاستقلال وبعد الحرب العالمية الثانية ضد الدول الصناعية المتقدمة من أجل التنمية المستقلة والتصنيع. فهذه الهزيمة توحي للنخب الاجتماعية في البلدان الفقيرة بأنه ليس هناك أي حل آخر سوى العودة إلى بيت الطاعة والمراهنة على سياسات التبعية التي كانت ترفضها وتدينها في السابق؛ أما العامل الثاني فهو ما تمارسه الدول الصناعية نفسها من سياسات واعية ومنظمة تضمن تفوقها الاستراتيجي والاقتصادي وتسمح لها بالتحكم بالقسم الأكبر من الثروة العالمية المنجمية والمالية والتقانية والعلمية والرمزية في الوقت نفسه. ومن هذه السياسات نذكر سياسات التدخل العسكري المحدد للقضاء على هذه القوة الصاعدة أو تلك، وسياسات الهيمنة على وسائل ومنظمات المال والتعاون الدولية التي تفرض على البلدان النامية نموذجاً وفلسفة للتنمية تتمشى مع ضمان بقاء الأوضاع العالمية الراهنة. ومن الواضح أن هذه السياسات لا تصدر عن رؤية مستقلة تهدف إلى تحسين شروط حياة البشر، بقدر ما تخضع لمنطق إعادة إنتاج علاقات القوة القائمة. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأساس الذي تقوم عليه فلسفة التنمية لدى هذه المؤسسات هو تهميش الإنسان بل استبعاده من الدورة الحضارية والمدنية نفسها. إن نظام توزيع الثروة العالمية الراهن هو القاعدة التي يقوم عليها بناء جدلية الاندماج القومي والاستقرار السياسي والتوسع الاقتصادي في القسم الشمالي من المعمورة، وجدلية التفكك القومي والتحلل السياسي والحرب الأهلية في القسم الجنوبي منها. ونموذج التنمية السائد الذي يخضع للاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية للدول الصناعية، أكثر مما يخضع للاعتبارات الإنسانية، هو الذي يضمن إعادة إنتاج النظام العالمي القائم كنظام استقطاب دولي للثروة الحضارية، بقدر ما يعيد إنتاج هذا الاستقطاب داخل كل قطر تابع على حدة. ويكفي في هذا المجال أن نشير إلى تطبيق ما يسمى برنامج التكيف الهيكلي. ففي كل مكان تنزع الحكومات فيه إلى تطبيق هذه السياسات تكون النتيجة المباشرة تهميش الأغلبية الاجتماعية وإخراجها من الدورة الاقتصادية الحقيقية، أي الرأسمالية، ودفعها إلى خلق اقتصادها وثقافتها ومجتمعها وعالمها الخاصة.
وبالمثل، يمكن الإشارة إلى مسألة المساعدات من أجل التنمية. فعلى عكس ما قد يخطر للذهن، ليست الأقطار الفقيرة هي التي تحصل على القسم الأكبر من هذه المساعدات. فكما يلاحظ التقرير نفسه، تبلغ حصة الفرد من هذه المساعدات في مجموعة أغنى أربعين دولة ضعفيها في مجموعة أفقر أربعين دولة في العالم. كما يزيد نصيب الفرد من هذه المساعدات في الأقطار التي تتمتع بأعلى ميزانية عسكرية مرتين ونصف المرة على نصيب الفرد في الأقطار ذات الإنفاق العسكري الأضعف. وهذا لا يعني أن المساعدات من أجل التنمية تغذي بالدرجة الأولى البلاد الغنية، ولكنه يعني أيضاً أن قسماً كبيراً من هذه المساعدات يذهب إلى تمويل تجارة السلاح، حتى ليمكن القول إنه من الصعب الفصل بين هذه المساعدات وبين تغذية النـزاعات العديدة الداخلية والخارجية في العالم. إن مجموع هذه العمليات المرتبطة بفرض نموذج التنمية الليبرالية وتوزيع المساعدات وتغذية الحروب الداخلية ليست إلا جزءاً من سياسة واحدة جوهرها الاحتفاظ بالتوسع الاقتصادي بوصفه الوسيلة الوحيدة للحفاظ على فرص العمل والقدرة الشرائية، وبالتالي، على السلام الأهلي في المجتمعات الصناعية.
ومن الطبيعي أن من يتحدث عن الحروب، مهما كان نوعها، داخلية أو خارجية، يتحدث لا محالة عن السلاح وتجارة السلاح، والتسابق على امتلاك الأسلحة الأكثر تطوراً والأغلى ثمناً. وفي القسم الأكبر من هذه الحروب يكون شراء السلاح على حساب التنمية البشرية. ويذكر التقرير، على سبيل المثال، أن الهند قدمت أخيراً طلباً لشراء 22 طائرة ميغ 22 يكفي ثمنها لتوفير التعليم الأساسي لـ 15 مليون طفلة محرومة التعليم حتى الآن. أما نيجيريا فقد كان بإمكانها أن تموّل حملة تلقيح لأكثر من مليوني طفل محرومين اللقاح الضروري وأن توفر خدمات تنظيم الحمل لأكثر من 17 مليون امرأة بثمن خمسين مصفحة هجومية اشترتها حديثاً من بريطانيا.
إن السياسة الليبرالية المطلقة التي تطالب الدول الصناعية اليوم بتطبيقها في الأقطار الفقيرة النامية لا تهدف في الواقع إلا إلى فتحها كأسواق جاهزة للاكتساح أمام صناعاتها المتقدمة. وقد بينت مفاوضات "الغات" الأخيرة (1994) والنـزاعات التي رافقتها، إلى أي حد تمارس الدول الصناعية سياسة مزدوجة في هذا الميدان أيضاً. فلم يمنعها الحديث الدائم عن ضرورة تحرير الأسواق في البلدان النامية من الدفاع المستميت عن مصالحها والاحتفاظ بامتيازات خاصة حينما يتعلق الأمر بمنتوجاتها غير القادرة على المزاحمة الدولية. وهي حالة القسم الأكبر من منتوجات البلدان النامية. وهذا ما يدل عليه تفاقم صراعات الدول الصناعية الكبرى من أجل حماية نفسها والعمل على بناء التكتلات الكبرى المحمية ومنع الآخرين من الدخول إليها. فالسياسة الليبرالية لا تعني الشيء نفسه حين تكون سياسة وطنية أو حين تكون جزءاً من استراتيجية اقتصادية دولية وسياسة عالمية. وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى وضع دولي طريف أصبحت فيه الدول ضعيفة التصنيع والمحتاجة إلى السياسات الحمائية لتطوير صناعتها هي المفتوحة من دون قيود على التجارة الدولية في حين انتقلت سياسة الحماية تحت غطاء التكتلات الدولية أو مفاوضات التعرفة الجمركية إلى الدول الصناعية القوية. وقد قدر تقرير التنمية البشرية لعام 1993 خسارة البلدان النامية في التجارة الدولية بسبب هذا الوضع بأكثر من 500 مليار دولار سنوياً.
لكن نتائج هذه السياسة الليبرالية المزدوجة ليست متباينة على مستوى التبادل التجاري والاقتصادي فقط، بل إنها متباينة أكثر من ذلك على مستوى الآثار الاجتماعية. فبقدر ما تتيح هذه السياسة للدول الصناعية الكبرى أن تزيد من صادراتها للدول النامية فهي تساعد على الاحتفاظ بمعدل ثابت للتوسع الاقتصادي ومن ورائه للتشغيل. وعلى العكس، لا يمكن الدول الفقيرة، من دون حماية فعالة، أن تقف على رجليها وتزيد من معدل نموها ومن صادراتها في إطار منافسة اقتصادية قوية، إلا إذا قلصت الأجور إلى حدها الأدنى وقلصت معها القدرة الشرائية والسوق الوطنية. وفي هذه الحال لن يكون التوسع الاقتصادي مرتبطاً ببناء السوق الداخلية الوطنية التي تمتص المنتوجات المحلية ولكنه سيعتمد بصورة رئيسية على التصدير نحو الأسواق الخارجية، أي أسواق الدول الصناعية الكبرى. وهكذا تكون النتيجة خفض قيمة العمل إلى أقصى حد في الجنوب وتقديم صادرات إلى الأسواق الصناعية بأقل من قيمتها الحقيقية. ولا يعني هذا وضع الاقتصاد النامي مباشرة في خدمة الاقتصاد الصناعي وتحت إمرته فحسب، ولكنه يعني أكثر من ذلك تحويل شعوب كاملة إلى عمال من الدرجة الثانية أو الثالثة في خدمة المجتمعات المصنعة ولحسابها. وهذا هو الأساس المادي لحركة التهميش الاجتماعي الواسعة، ومن ورائها إجهاض جدلية الاندماج والتكوين القومي والتعاون الإقليمي في البلدان النامية.
ليس هناك شك في أن مثل هذه السياسة تدفع إلى حصول نوع من التوسع الاقتصادي في هذه البلدان الفقيرة. وقد يحصل هذا بالفعل في بعضها نتيجة تطبيق برامج التكيف الهيكلي، ولكنه توسع سرطاني لا يتحقق إلا على حساب تهميش الأغلبية الاجتماعية وتقزيم السوق الوطنية، وحصر القوة الشرائية وتركيزها في يد شريحة الفئة العليا من السكان، ونزوع الاقتصاد الوطني بالضرورة نحو الاندماج الكامل بالاقتصادات الكبرى.
وليس هناك شك في أن هذه السياسة تستطيع أن تعيد الميزان التجاري إلى حالة التوازن بل الرجوح. لكن الثمن الحقيقي الذي ينبغي على البلاد أن تدفعه لقاء ذلك هو انهيار التوازنات الاجتماعية، أي القطيعة المتزايدة بين العامة والخاصة وتدعيم نزوع الطبقة العليا إلى الاندماج بالخارج، وهو ما يفسر نزوع البرجوازية المحلية في العالم الثالث إلى التغرب وبناء سياساتها على التحالف مع الدول الغربية. ولا يمكن مثل هذه القطيعة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين النخبة والشعب إلا أن تغذي التوترات، وفي إثرها الحروب والصراعات الاجتماعية. ومن يتحدث عن حروب وصراعات لا يتحدث عن توقف التنمية فقط، ولكن يتحدث أيضاً، كما يحصل أمام أعيننا في أكثر من بلد، عن تدمير كل ما كانت البلاد قد راكمته من تنمية سابقة. وها نحن قد وصلنا من جديد إلى موضوع النـزاعات الداخلية التي تحدثنا عنها في بداية المقالة.
هناك علاقة من دون شك بين هذه النـزاعات وبين التركيبة السكانية غير المندمجة للمجتمعات النامية. بيد أن الضعف في الاندماج الوطني ليس هو نفسه إلا ثمرة التأخر الاقتصادي وغياب التنمية المستمرة. ثم إن التمايز بين الجماعات المكونة لهذه المجتمعات لا يمثل مصدراً تلقائياً للعنف والنـزاع. إن ما يحرك النـزاع فيه هو السياقات التاريخية، وهي هنا سياسات الاستقطاب الدولي. فهناك علاقة مباشرة وصارخة لا يمكن التغافل عنها بين النـزوع التاريخي إلى التفكك القومي ومن ورائه إلى انتشار النـزاعات والعنف، وبين نوعية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا القطر أو ذاك. فليس من قبيل المصادفة أن تتركز جميع النـزاعات الداخلية في البلدان الفقيرة، بصرف النظر عن ثقافتها ولغتها ودينها - وهي تنتمي إلى ثقافات متعددة ومتباينة جداً - وأن تخلو جميع الأقطار الصناعية من النـزاعات الداخلية تقريباً، باستثناء ما يحصل في بعض الولايات الأميركية من هبّات اجتماعية للأقليات الملونة ضد السلطات المحلية وللأسباب نفسها، أعني بسبب الحرمان والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن هذا الاستقطاب الدولي الذي يعمل على تعميم متزايد لقيم الحضارة التقانية والاستهلاكية، من جهة، ويقلل من فرص واحتمالات تحقيقها العملي من جهة ثانية، لا يمكن أن يقود إلا إلى تعميق الشعور بالإحباط. وهذا الإحباط والتوتر اللذان يخلقهما سوء التوزيع الفاحش هما اللذان يفسران إذاً استسلام الشعوب والجماعات لمنطق العنف واندفاعها نحو تدمير بنيتها الوطنية، أكثر كثيراً مما تفسره همجية القبيلة أو تعصب الفرقة الدينية. بل إن هذه الهمجية وذاك التعصب لا يظهران إلى الوجود إلا كاستجابة لنداء العنف والتفكك هذا وكسعي للتوافق معه في الوقت نفسه.
يكاد تفكك الدول القومية الصغيرة أو شبه القومية، وتطور الصراعات وتفجر الحروب الأهلية ونمو الحركات الانفصالية، يمثل الظاهرة السياسية والتاريخية الأبرز والأكثر انتشاراً في العالم منذ انتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينات. هكذا، من أفريقيا المدمرة بالنزاعات القبلية والعرقية، إلى شرق أوروبا المحمومة بحرب التنقية العرقية، مروراً بصراعات دول آسيا الأقوامية والدينية، وبتشنجات العالم العربي وحروبه الأهلية، تبرز أسبقية جدلية القوة النابذة والتفجيرية على جدلية التضامن والاتحاد الوطني أو القومي. وقد جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الذي يعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1994، أنه من بين 82 نزاعاً شهدتها العقود الثلاثة الماضية، 79 نزاعاً منها ذات طبيعة داخلية أو أهلية، وأن هذه الحروب قد جرت أساساً في بلدان نامية أو فقيرة. وعلى عكس ما كان الأمر عليه في عصر الحرب الباردة، لم تعد هناك ضرورة إلى التدخل الأجنبي من أجل إحياء الفتن المحلية أو إشعالها على الرغم من أن الدعم المالي أو السياسي أو العسكري الخارجي لا يزال شرطاً لبقائها.
تميل وسائل الإعلام الدولية الواقعة إلى حد كبير تحت تأثير ضغط المصالح واستراتيجيات الهيمنة الدولية، إلى إرجاع هذه النزاعات والحروب الداخلية إلى البنى الثقافية أو الدينية أو إلى الاختلافات العرقية واللغوية التي تتميز بها مجتمعات الجنوب. وقد أصبحت هذه الأطروحات شائعة بكثرة في حقبتنا هذه وانتقلت إلى وسائل الإعلام المحلية التي ليس لديها حصانة قوية لمقاومة إغراء تبني كل ما ينشر في البلدان المصنعة. وقد عزز ارتباط بعض النزاعات الراهنة بتصاعد تأثير العقائد الدينية، والإسلامية خصوصاً، من الانطباع بمصداقيتها ونجاعتها كإطار لتفسير ما يحدث.
بيد أن انتشار هذه الحركات التفتيتية وشمولها جميع القارات من جهة، وتركزها في مناطق معينة من جهة أخرى، يشير إلى أن الأمر يتجاوز العوامل الثقافية الخاصة بشعب أو منطقة، كما يتجاوز العوامل الاجتماعية الداخلية. فأين يمكن البحث عن مفتاح فهم هذه الدينامية التفكيكية؟
تشير أغلبية التحليلات التي تتعرض للنزاعات الداخلية إلى أن غياب الأمن السياسي والعسكري مرتبط إلى حد كبير بغياب الأمن المعاشي، وأن النـزوع إلى التفتت والتفكك والتخلي عن قيم التضامن الوطني والاجتماعي، أو بالأحرى موت هذه القيم، لا يمكن أن يفهم بمعزل عن حالة التهميش التي تعيشها أو تُدفع إليها المجتمعات والجماعات.
ويقف وراء حركة التهميش هذه الاستقطاب العالمي الجديد بأبعاده المختلفة، الاقتصادية والسياسية والثقافية. وينجم عن هذا الاستقطاب انهيار معايير التعامل داخل المجتمعات المهمشة واهتلاك القيم المدنية والأخلاقية، وتدهور النظام السياسي وتفكك شرعية السلطة ومصداقيتها. إن التهميش هو السياق التاريخي الذي يقضي على عناصر المدنية ويفتح الباب أمام عودة الفوضى ويدفع الجماعات التي تتكون منها الأمم أو المجتمعات النامية، والتي تأمل بفرص أكبر للاندماج في السوق العالمية، إلى التحلل من التزاماتها الوطنية وتنمية ولاءات خارجية تقربها من القطب الصناعي الذي يمارس عليها جاذبية شبيهة بالجاذبية المغنطيسية.
ويستند هذا الاستقطاب إلى عوامل تاريخية موضوعية وواعية معاً أولها هزيمة العالم الثالث في المعركة التي شنها منذ الاستقلال وبعد الحرب العالمية الثانية ضد الدول الصناعية المتقدمة من أجل التنمية المستقلة والتصنيع. فهذه الهزيمة توحي للنخب الاجتماعية في البلدان الفقيرة بأنه ليس هناك أي حل آخر سوى العودة إلى بيت الطاعة والمراهنة على سياسات التبعية التي كانت ترفضها وتدينها في السابق؛ أما العامل الثاني فهو ما تمارسه الدول الصناعية نفسها من سياسات واعية ومنظمة تضمن تفوقها الاستراتيجي والاقتصادي وتسمح لها بالتحكم بالقسم الأكبر من الثروة العالمية المنجمية والمالية والتقانية والعلمية والرمزية في الوقت نفسه. ومن هذه السياسات نذكر سياسات التدخل العسكري المحدد للقضاء على هذه القوة الصاعدة أو تلك، وسياسات الهيمنة على وسائل ومنظمات المال والتعاون الدولية التي تفرض على البلدان النامية نموذجاً وفلسفة للتنمية تتمشى مع ضمان بقاء الأوضاع العالمية الراهنة. ومن الواضح أن هذه السياسات لا تصدر عن رؤية مستقلة تهدف إلى تحسين شروط حياة البشر، بقدر ما تخضع لمنطق إعادة إنتاج علاقات القوة القائمة. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأساس الذي تقوم عليه فلسفة التنمية لدى هذه المؤسسات هو تهميش الإنسان بل استبعاده من الدورة الحضارية والمدنية نفسها. إن نظام توزيع الثروة العالمية الراهن هو القاعدة التي يقوم عليها بناء جدلية الاندماج القومي والاستقرار السياسي والتوسع الاقتصادي في القسم الشمالي من المعمورة، وجدلية التفكك القومي والتحلل السياسي والحرب الأهلية في القسم الجنوبي منها. ونموذج التنمية السائد الذي يخضع للاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية للدول الصناعية، أكثر مما يخضع للاعتبارات الإنسانية، هو الذي يضمن إعادة إنتاج النظام العالمي القائم كنظام استقطاب دولي للثروة الحضارية، بقدر ما يعيد إنتاج هذا الاستقطاب داخل كل قطر تابع على حدة. ويكفي في هذا المجال أن نشير إلى تطبيق ما يسمى برنامج التكيف الهيكلي. ففي كل مكان تنزع الحكومات فيه إلى تطبيق هذه السياسات تكون النتيجة المباشرة تهميش الأغلبية الاجتماعية وإخراجها من الدورة الاقتصادية الحقيقية، أي الرأسمالية، ودفعها إلى خلق اقتصادها وثقافتها ومجتمعها وعالمها الخاصة.
وبالمثل، يمكن الإشارة إلى مسألة المساعدات من أجل التنمية. فعلى عكس ما قد يخطر للذهن، ليست الأقطار الفقيرة هي التي تحصل على القسم الأكبر من هذه المساعدات. فكما يلاحظ التقرير نفسه، تبلغ حصة الفرد من هذه المساعدات في مجموعة أغنى أربعين دولة ضعفيها في مجموعة أفقر أربعين دولة في العالم. كما يزيد نصيب الفرد من هذه المساعدات في الأقطار التي تتمتع بأعلى ميزانية عسكرية مرتين ونصف المرة على نصيب الفرد في الأقطار ذات الإنفاق العسكري الأضعف. وهذا لا يعني أن المساعدات من أجل التنمية تغذي بالدرجة الأولى البلاد الغنية، ولكنه يعني أيضاً أن قسماً كبيراً من هذه المساعدات يذهب إلى تمويل تجارة السلاح، حتى ليمكن القول إنه من الصعب الفصل بين هذه المساعدات وبين تغذية النـزاعات العديدة الداخلية والخارجية في العالم. إن مجموع هذه العمليات المرتبطة بفرض نموذج التنمية الليبرالية وتوزيع المساعدات وتغذية الحروب الداخلية ليست إلا جزءاً من سياسة واحدة جوهرها الاحتفاظ بالتوسع الاقتصادي بوصفه الوسيلة الوحيدة للحفاظ على فرص العمل والقدرة الشرائية، وبالتالي، على السلام الأهلي في المجتمعات الصناعية.
ومن الطبيعي أن من يتحدث عن الحروب، مهما كان نوعها، داخلية أو خارجية، يتحدث لا محالة عن السلاح وتجارة السلاح، والتسابق على امتلاك الأسلحة الأكثر تطوراً والأغلى ثمناً. وفي القسم الأكبر من هذه الحروب يكون شراء السلاح على حساب التنمية البشرية. ويذكر التقرير، على سبيل المثال، أن الهند قدمت أخيراً طلباً لشراء 22 طائرة ميغ 22 يكفي ثمنها لتوفير التعليم الأساسي لـ 15 مليون طفلة محرومة التعليم حتى الآن. أما نيجيريا فقد كان بإمكانها أن تموّل حملة تلقيح لأكثر من مليوني طفل محرومين اللقاح الضروري وأن توفر خدمات تنظيم الحمل لأكثر من 17 مليون امرأة بثمن خمسين مصفحة هجومية اشترتها حديثاً من بريطانيا.
إن السياسة الليبرالية المطلقة التي تطالب الدول الصناعية اليوم بتطبيقها في الأقطار الفقيرة النامية لا تهدف في الواقع إلا إلى فتحها كأسواق جاهزة للاكتساح أمام صناعاتها المتقدمة. وقد بينت مفاوضات "الغات" الأخيرة (1994) والنـزاعات التي رافقتها، إلى أي حد تمارس الدول الصناعية سياسة مزدوجة في هذا الميدان أيضاً. فلم يمنعها الحديث الدائم عن ضرورة تحرير الأسواق في البلدان النامية من الدفاع المستميت عن مصالحها والاحتفاظ بامتيازات خاصة حينما يتعلق الأمر بمنتوجاتها غير القادرة على المزاحمة الدولية. وهي حالة القسم الأكبر من منتوجات البلدان النامية. وهذا ما يدل عليه تفاقم صراعات الدول الصناعية الكبرى من أجل حماية نفسها والعمل على بناء التكتلات الكبرى المحمية ومنع الآخرين من الدخول إليها. فالسياسة الليبرالية لا تعني الشيء نفسه حين تكون سياسة وطنية أو حين تكون جزءاً من استراتيجية اقتصادية دولية وسياسة عالمية. وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى وضع دولي طريف أصبحت فيه الدول ضعيفة التصنيع والمحتاجة إلى السياسات الحمائية لتطوير صناعتها هي المفتوحة من دون قيود على التجارة الدولية في حين انتقلت سياسة الحماية تحت غطاء التكتلات الدولية أو مفاوضات التعرفة الجمركية إلى الدول الصناعية القوية. وقد قدر تقرير التنمية البشرية لعام 1993 خسارة البلدان النامية في التجارة الدولية بسبب هذا الوضع بأكثر من 500 مليار دولار سنوياً.
لكن نتائج هذه السياسة الليبرالية المزدوجة ليست متباينة على مستوى التبادل التجاري والاقتصادي فقط، بل إنها متباينة أكثر من ذلك على مستوى الآثار الاجتماعية. فبقدر ما تتيح هذه السياسة للدول الصناعية الكبرى أن تزيد من صادراتها للدول النامية فهي تساعد على الاحتفاظ بمعدل ثابت للتوسع الاقتصادي ومن ورائه للتشغيل. وعلى العكس، لا يمكن الدول الفقيرة، من دون حماية فعالة، أن تقف على رجليها وتزيد من معدل نموها ومن صادراتها في إطار منافسة اقتصادية قوية، إلا إذا قلصت الأجور إلى حدها الأدنى وقلصت معها القدرة الشرائية والسوق الوطنية. وفي هذه الحال لن يكون التوسع الاقتصادي مرتبطاً ببناء السوق الداخلية الوطنية التي تمتص المنتوجات المحلية ولكنه سيعتمد بصورة رئيسية على التصدير نحو الأسواق الخارجية، أي أسواق الدول الصناعية الكبرى. وهكذا تكون النتيجة خفض قيمة العمل إلى أقصى حد في الجنوب وتقديم صادرات إلى الأسواق الصناعية بأقل من قيمتها الحقيقية. ولا يعني هذا وضع الاقتصاد النامي مباشرة في خدمة الاقتصاد الصناعي وتحت إمرته فحسب، ولكنه يعني أكثر من ذلك تحويل شعوب كاملة إلى عمال من الدرجة الثانية أو الثالثة في خدمة المجتمعات المصنعة ولحسابها. وهذا هو الأساس المادي لحركة التهميش الاجتماعي الواسعة، ومن ورائها إجهاض جدلية الاندماج والتكوين القومي والتعاون الإقليمي في البلدان النامية.
ليس هناك شك في أن مثل هذه السياسة تدفع إلى حصول نوع من التوسع الاقتصادي في هذه البلدان الفقيرة. وقد يحصل هذا بالفعل في بعضها نتيجة تطبيق برامج التكيف الهيكلي، ولكنه توسع سرطاني لا يتحقق إلا على حساب تهميش الأغلبية الاجتماعية وتقزيم السوق الوطنية، وحصر القوة الشرائية وتركيزها في يد شريحة الفئة العليا من السكان، ونزوع الاقتصاد الوطني بالضرورة نحو الاندماج الكامل بالاقتصادات الكبرى.
وليس هناك شك في أن هذه السياسة تستطيع أن تعيد الميزان التجاري إلى حالة التوازن بل الرجوح. لكن الثمن الحقيقي الذي ينبغي على البلاد أن تدفعه لقاء ذلك هو انهيار التوازنات الاجتماعية، أي القطيعة المتزايدة بين العامة والخاصة وتدعيم نزوع الطبقة العليا إلى الاندماج بالخارج، وهو ما يفسر نزوع البرجوازية المحلية في العالم الثالث إلى التغرب وبناء سياساتها على التحالف مع الدول الغربية. ولا يمكن مثل هذه القطيعة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين النخبة والشعب إلا أن تغذي التوترات، وفي إثرها الحروب والصراعات الاجتماعية. ومن يتحدث عن حروب وصراعات لا يتحدث عن توقف التنمية فقط، ولكن يتحدث أيضاً، كما يحصل أمام أعيننا في أكثر من بلد، عن تدمير كل ما كانت البلاد قد راكمته من تنمية سابقة. وها نحن قد وصلنا من جديد إلى موضوع النـزاعات الداخلية التي تحدثنا عنها في بداية المقالة.
هناك علاقة من دون شك بين هذه النـزاعات وبين التركيبة السكانية غير المندمجة للمجتمعات النامية. بيد أن الضعف في الاندماج الوطني ليس هو نفسه إلا ثمرة التأخر الاقتصادي وغياب التنمية المستمرة. ثم إن التمايز بين الجماعات المكونة لهذه المجتمعات لا يمثل مصدراً تلقائياً للعنف والنـزاع. إن ما يحرك النـزاع فيه هو السياقات التاريخية، وهي هنا سياسات الاستقطاب الدولي. فهناك علاقة مباشرة وصارخة لا يمكن التغافل عنها بين النـزوع التاريخي إلى التفكك القومي ومن ورائه إلى انتشار النـزاعات والعنف، وبين نوعية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا القطر أو ذاك. فليس من قبيل المصادفة أن تتركز جميع النـزاعات الداخلية في البلدان الفقيرة، بصرف النظر عن ثقافتها ولغتها ودينها - وهي تنتمي إلى ثقافات متعددة ومتباينة جداً - وأن تخلو جميع الأقطار الصناعية من النـزاعات الداخلية تقريباً، باستثناء ما يحصل في بعض الولايات الأميركية من هبّات اجتماعية للأقليات الملونة ضد السلطات المحلية وللأسباب نفسها، أعني بسبب الحرمان والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
إن هذا الاستقطاب الدولي الذي يعمل على تعميم متزايد لقيم الحضارة التقانية والاستهلاكية، من جهة، ويقلل من فرص واحتمالات تحقيقها العملي من جهة ثانية، لا يمكن أن يقود إلا إلى تعميق الشعور بالإحباط. وهذا الإحباط والتوتر اللذان يخلقهما سوء التوزيع الفاحش هما اللذان يفسران إذاً استسلام الشعوب والجماعات لمنطق العنف واندفاعها نحو تدمير بنيتها الوطنية، أكثر كثيراً مما تفسره همجية القبيلة أو تعصب الفرقة الدينية. بل إن هذه الهمجية وذاك التعصب لا يظهران إلى الوجود إلا كاستجابة لنداء العنف والتفكك هذا وكسعي للتوافق معه في الوقت نفسه.
2 - رهانات الحركة القومية والوطنية الكلاسيكية
كيف يمكن تجاوز هذه الآلية العالمية التي تفضي إلى التفاوت والتوتر والتفكك والعنف؟ هل ينبغي الاستمرار على نظرية مواجهة الإمبريالية التي تقف وراء العلاقات الدولية غير المتكافئة؟ هل ينبغي السعي لرفع حجم المعونة من أجل التنمية أو اختراع ما يُروّج له اليوم من مشاريع تنمية مشتركة بين بعض أقطار الشمال وأقطار الجنوب، والمنطقة المتوسطية كنموذج؟ هل ينبغي المراهنة على تفجير روح الثورة الوطنية التي تستطيع وحدها خلق مناخ التعبئة من أجل ربح معركة الثورة الصناعية، كما شاع لبعض الوقت في الحقبة الماضية، وكيف يمكن ذلك في سياق نشوء التكتلات الصناعية الكبرى؟
من الواضح أن ساحة العمل الوطني والإقليمي قد أصبحت تعيش في حالة من الفراغ الشامل بعدما فقدت أطروحات الثورة الاشتراكية والقومية الكثير من مصداقيتها وراهنيتها. وهذا ما يفسر تلقف الحكومات القائمة، من دون اقتناع فعلي، لسياسات صندوق النقد الدولي والليبرالية الجديدة. لكن على الرغم من ذلك، ليس هناك من يؤمن بالفعل أن هذه الحلول قادرة على مواجهة مشكلة التنمية في العالم الثالث حتى لو أنها ساعدت بعض الدول القليلة على تحسين وضعها في السوق الدولية. ويبدو لي أن الرأي العام الدولي أصبح ميالاً إلى اليأس والاعتقاد، على الرغم من كل الكلام التفاؤلي الاستهلاكي، أن الأمر أصبح مستعصياً على الحل. فليس من المعقول أن تقبل الدول الصناعية الكبرى التخفيف من صراعها على الموارد الطبيعية والأسواق في البلدان النامية من دون أن تخاطر بتفاقم الجمود الاقتصادي لديها، وبالتالي بنقل النزاع إلى داخل مجتمعاتها. وليس من الممكن للدول الفقيرة النامية أن تفرض موقفها بالاقناع أو الضغط على الدول الكبرى، وهي أضعف من أن تستقل عنها في حاجاتها الغذائية، وأن يكون من السهل على هذه الدول التكتل للدفاع عن حقوقها ما دام بإمكان الدول الكبرى أن تتلاعب بنخبها السائدة وتجهض أي حركة تكتلية أو اندماجية حقيقية.
أما الدواء الذي تحاول الدول الصناعية تطويره في مواجهة هذا اليأس فهو التدخل الإنساني. فهو يبدو وكأنه المسكّن الوحيد الممكن لمرض لا شفاء منه. وإذا لم يعط هذا الدواء أي نتيجة، ليس من الصعب أن يقول المسؤولون لأنفسهم، كما اعتاد صاحب مشروع قرار التدخل الإنساني الوزير الفرنسي "كوشنر" القول: لقد قمنا بما نستطيع ولا نستطيع فعل المستحيل. هكذا أصبح التدخل الإنساني بديلاً من السياسة الجدية الوطنية والدولية التي لا بد من بلورتها للخروج من أوضاع ليس من الممكن القبول بها ولا التسليم بنتائجها، لأن استمرارها لا يعني اليوم أقل من انحلال عرى الدول والمجتمعات العديدة القائمة وانعدام الأمن الفردي والجماعي معاً.
ويؤدي التدخل الإنساني هنا دور الأخلاقية التعويضية، أي الإحسان الذي يعوض من السياسة المعادية للتنمية ويغطي عليها كما يغطي على غياب قيم التضامن الإنسانية الحقيقية. إنه خدعة لذر الرماد في العيون والاعتذار عن نتائج سياسة تظهر وكأنها لا مهرب منها، أعني سياسة التوسع الاقتصادي المستند إلى منطق الربح والمنافسة بين الرأسماليات الكبرى في مقابل التنمية المتمحورة حول الإنسان التي تعمل لخدمته، أي لخدمة الإنسانية كافة وليس لخدمة أقلية صغيرة منها.
أما التيارات الوطنية في البلدان النامية فهي لا تزال تراهن على تعبئة القيم والمشاعر الوطنية لمواجهة مخاطر الانقسام والتشتت. وتقوم النظرية القومية الكلاسيكية على الاعتقاد بأن الانتماء إلى جماعة ثقافية وتاريخية وحضارية واحدة يفترض بحد ذاته وجود تيار عميق وقوي يدفع بها نحو التلاحم والتضامن والاتحاد. فالنـزوع إلى التقارب والوحدة كامن في الثقافة التاريخية الواحدة. ويكفي أن نحك هذه الثقافة أو نستثيرها ونهيجها حتى نحرك جدلية التضامن الوطني. وقد رسّخ نشوء حركات شعبية قومية هنا وهناك هذا الاعتقاد بأن القرابة السياسية هي تكريس للقرابة الروحية أو الثقافية وأحياناً "العرقية". وبهذا المعنى يعكس تفوق منطق الانفصال والتفتت على منطق الاتحاد غياب الثقافة الوطنية أو انهيارها. والكثير من التفسيرات الراهنة لظواهر الصراعات الداخلية والأهلية يدور حول انهيار القومية أو فشلها في الأقطار النامية.
وفي العالم العربي، راهنت الحركة القومية كما هو معروف على الانتماء العربي الثقافي والتاريخي وعلى الاعتقاد بفاعلية هذا الانتماء في سبيل تجاوز حالات التباعد والتمزق التي تشهدها الدول والشعوب معاً، وذلك خلال الحقبة الطويلة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية. وقد جسدت الأدبيات القومية الكلاسيكية، في حقبة صعودها، هذا الاعتقاد من خلال استعمالها الكثيف لفكرة المصير العربي الواحد. ولا يزال القوميون العرب يراهنون على استثارة الذاكرة الثقافية وروح الانتماء إلى جماعة تاريخية من أجل الوقوف في وجه تيار التشتت العربي والتفكك الوطني.
ولكن نتائج هذه الرهانات جميعاً بقيت، على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة، أقل كثيراً مما كان ينتظر منها. ولا يبدو لي أن الفرضية الرئيسية التي تقوم عليها الفلسفة القومية صالحة للعمل في بلاد لم تشهد ما شهدته المجتمعات والثقافات الغربية من ثورة سياسية على المستويين النظري والعملي. ومن المحتمل أن تكون درجة التضامن أو، بلغة ابن خلدون، قوة العصبية الطائفية أو الجهوية أو القبلية أقوى من العصبية الوطنية وأن تكون فكرة المصلحة الجزئية والعائلية أعمق من مفهوم المصلحة الوطنية. ولعل البرهان على ذلك ما تعرضت له الوحدة اليمنية العام الفائت. فلم يمنع الأصل الثقافي والسكاني الواحد للشعب اليمني، ولا الحماسة العاطفية الفعلية والشعور العميق بالانتماء إلى أصل واحد لدى اليمنيين، من تعثر مسيرة الوحدة، بل تعرضها للتهديد بالانهيار.
لا يعني هذا التهديد بأي شكل أن شعب اليمن لم يكن شعباً واحداً وليس له أصول واحدة، ولا أن حماسة جمهوره للوحدة لم تكن حقيقية. فكل هذه العوامل قائمة وفعلية. ولكنه يعني أن هذه العوامل ليست كافية اليوم لتحقيق الهدف المنشود، سواء لكونها قد فقدت نجاعتها التاريخية أو لأن عوامل أخرى أكثر أثراً قد ظهرت إلى الوجود وأصبحت تضغط بصورة أقوى على مصير المجتمعات.
وفي اعتقادي أدى الإيمان بفاعلية الثقافة الواحدة أو الانتماء الفعلي أو الوهمي لأصل واحد في النظرية القومية، كما أدى الإيمان بالحتميات الاقتصادية في النظرية الاشتراكية، دوراً كبيراً في منع التفكير العقلاني بحقيقة العوامل التي تصنع المصير الجيوسياسي للشعوب والمناطق، وتعمل على إعادة تنظيم وتوزيع المجالات الثقافية والاقتصادية معاً. فمن الواضح أن هذه المجالات ليست ثابتة عبر التاريخ، بل إن التاريخ لا يتقدم إلا من خلال إعادة توزيعها، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم جماعة ثقافية واحدة إلى جماعات عدة أو إلى جمع شعوب من ثقافات وأصول مختلفة. ويكفي للبرهان على ذلك الإشارة مثلاً إلى مكانة اللغة والثقافة الإنكليزية اليوم في العالم، ودورها في تكوين التكتل الأقوى فيه. ففي إعادة توزيع القوى، تكون إعادة توجيه حركات التبادل المادي والمعنوي، وخلق إمكانات جديدة للتطور والنمو الحضاري، مرتبطة أيضاً بتوسع دائرة هذا التبادل وكثافته.
إن نقطة ضعف الفرضيات القومية والماركسية كامنة في أنها لا تدرك منطق التفكيك الجديد وآلياته العميقة، وتنحو إلى تغليب مفهوم بسيط وتقليدي للمصالح التي تدفع إلى وحدة الجماعات والشعوب يختلط فيه مفهوم المصالح الجماعية مع مفهوم المصالح المتماثلة أو الواحدة، سواء أكانت مصالح المشاركين في لغة أو ثقافة أو في طبقة واحدة وفي شروط اجتماعية متماثلة. هكذا يبدو الانتماء الواحد إلى الأمة التاريخية وكأنه ضمانة لنشوء مصالح قومية واحدة تدفع بالجماعات والأفراد إلى الالتزام بها وتحقيق مبغاها الذي هو الاتحاد. كما يبدو الانتماء إلى طبقة إنتاجية معينة، وإلى شروط عمل واحدة، مصدراً طبيعياً لنشوء مصالح طبقية متماثلة، وبالتالي، وحدة الطبقة العاملة أيضاً.
كيف يمكن تجاوز هذه الآلية العالمية التي تفضي إلى التفاوت والتوتر والتفكك والعنف؟ هل ينبغي الاستمرار على نظرية مواجهة الإمبريالية التي تقف وراء العلاقات الدولية غير المتكافئة؟ هل ينبغي السعي لرفع حجم المعونة من أجل التنمية أو اختراع ما يُروّج له اليوم من مشاريع تنمية مشتركة بين بعض أقطار الشمال وأقطار الجنوب، والمنطقة المتوسطية كنموذج؟ هل ينبغي المراهنة على تفجير روح الثورة الوطنية التي تستطيع وحدها خلق مناخ التعبئة من أجل ربح معركة الثورة الصناعية، كما شاع لبعض الوقت في الحقبة الماضية، وكيف يمكن ذلك في سياق نشوء التكتلات الصناعية الكبرى؟
من الواضح أن ساحة العمل الوطني والإقليمي قد أصبحت تعيش في حالة من الفراغ الشامل بعدما فقدت أطروحات الثورة الاشتراكية والقومية الكثير من مصداقيتها وراهنيتها. وهذا ما يفسر تلقف الحكومات القائمة، من دون اقتناع فعلي، لسياسات صندوق النقد الدولي والليبرالية الجديدة. لكن على الرغم من ذلك، ليس هناك من يؤمن بالفعل أن هذه الحلول قادرة على مواجهة مشكلة التنمية في العالم الثالث حتى لو أنها ساعدت بعض الدول القليلة على تحسين وضعها في السوق الدولية. ويبدو لي أن الرأي العام الدولي أصبح ميالاً إلى اليأس والاعتقاد، على الرغم من كل الكلام التفاؤلي الاستهلاكي، أن الأمر أصبح مستعصياً على الحل. فليس من المعقول أن تقبل الدول الصناعية الكبرى التخفيف من صراعها على الموارد الطبيعية والأسواق في البلدان النامية من دون أن تخاطر بتفاقم الجمود الاقتصادي لديها، وبالتالي بنقل النزاع إلى داخل مجتمعاتها. وليس من الممكن للدول الفقيرة النامية أن تفرض موقفها بالاقناع أو الضغط على الدول الكبرى، وهي أضعف من أن تستقل عنها في حاجاتها الغذائية، وأن يكون من السهل على هذه الدول التكتل للدفاع عن حقوقها ما دام بإمكان الدول الكبرى أن تتلاعب بنخبها السائدة وتجهض أي حركة تكتلية أو اندماجية حقيقية.
أما الدواء الذي تحاول الدول الصناعية تطويره في مواجهة هذا اليأس فهو التدخل الإنساني. فهو يبدو وكأنه المسكّن الوحيد الممكن لمرض لا شفاء منه. وإذا لم يعط هذا الدواء أي نتيجة، ليس من الصعب أن يقول المسؤولون لأنفسهم، كما اعتاد صاحب مشروع قرار التدخل الإنساني الوزير الفرنسي "كوشنر" القول: لقد قمنا بما نستطيع ولا نستطيع فعل المستحيل. هكذا أصبح التدخل الإنساني بديلاً من السياسة الجدية الوطنية والدولية التي لا بد من بلورتها للخروج من أوضاع ليس من الممكن القبول بها ولا التسليم بنتائجها، لأن استمرارها لا يعني اليوم أقل من انحلال عرى الدول والمجتمعات العديدة القائمة وانعدام الأمن الفردي والجماعي معاً.
ويؤدي التدخل الإنساني هنا دور الأخلاقية التعويضية، أي الإحسان الذي يعوض من السياسة المعادية للتنمية ويغطي عليها كما يغطي على غياب قيم التضامن الإنسانية الحقيقية. إنه خدعة لذر الرماد في العيون والاعتذار عن نتائج سياسة تظهر وكأنها لا مهرب منها، أعني سياسة التوسع الاقتصادي المستند إلى منطق الربح والمنافسة بين الرأسماليات الكبرى في مقابل التنمية المتمحورة حول الإنسان التي تعمل لخدمته، أي لخدمة الإنسانية كافة وليس لخدمة أقلية صغيرة منها.
أما التيارات الوطنية في البلدان النامية فهي لا تزال تراهن على تعبئة القيم والمشاعر الوطنية لمواجهة مخاطر الانقسام والتشتت. وتقوم النظرية القومية الكلاسيكية على الاعتقاد بأن الانتماء إلى جماعة ثقافية وتاريخية وحضارية واحدة يفترض بحد ذاته وجود تيار عميق وقوي يدفع بها نحو التلاحم والتضامن والاتحاد. فالنـزوع إلى التقارب والوحدة كامن في الثقافة التاريخية الواحدة. ويكفي أن نحك هذه الثقافة أو نستثيرها ونهيجها حتى نحرك جدلية التضامن الوطني. وقد رسّخ نشوء حركات شعبية قومية هنا وهناك هذا الاعتقاد بأن القرابة السياسية هي تكريس للقرابة الروحية أو الثقافية وأحياناً "العرقية". وبهذا المعنى يعكس تفوق منطق الانفصال والتفتت على منطق الاتحاد غياب الثقافة الوطنية أو انهيارها. والكثير من التفسيرات الراهنة لظواهر الصراعات الداخلية والأهلية يدور حول انهيار القومية أو فشلها في الأقطار النامية.
وفي العالم العربي، راهنت الحركة القومية كما هو معروف على الانتماء العربي الثقافي والتاريخي وعلى الاعتقاد بفاعلية هذا الانتماء في سبيل تجاوز حالات التباعد والتمزق التي تشهدها الدول والشعوب معاً، وذلك خلال الحقبة الطويلة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية. وقد جسدت الأدبيات القومية الكلاسيكية، في حقبة صعودها، هذا الاعتقاد من خلال استعمالها الكثيف لفكرة المصير العربي الواحد. ولا يزال القوميون العرب يراهنون على استثارة الذاكرة الثقافية وروح الانتماء إلى جماعة تاريخية من أجل الوقوف في وجه تيار التشتت العربي والتفكك الوطني.
ولكن نتائج هذه الرهانات جميعاً بقيت، على الرغم من الجهود الكبيرة المبذولة، أقل كثيراً مما كان ينتظر منها. ولا يبدو لي أن الفرضية الرئيسية التي تقوم عليها الفلسفة القومية صالحة للعمل في بلاد لم تشهد ما شهدته المجتمعات والثقافات الغربية من ثورة سياسية على المستويين النظري والعملي. ومن المحتمل أن تكون درجة التضامن أو، بلغة ابن خلدون، قوة العصبية الطائفية أو الجهوية أو القبلية أقوى من العصبية الوطنية وأن تكون فكرة المصلحة الجزئية والعائلية أعمق من مفهوم المصلحة الوطنية. ولعل البرهان على ذلك ما تعرضت له الوحدة اليمنية العام الفائت. فلم يمنع الأصل الثقافي والسكاني الواحد للشعب اليمني، ولا الحماسة العاطفية الفعلية والشعور العميق بالانتماء إلى أصل واحد لدى اليمنيين، من تعثر مسيرة الوحدة، بل تعرضها للتهديد بالانهيار.
لا يعني هذا التهديد بأي شكل أن شعب اليمن لم يكن شعباً واحداً وليس له أصول واحدة، ولا أن حماسة جمهوره للوحدة لم تكن حقيقية. فكل هذه العوامل قائمة وفعلية. ولكنه يعني أن هذه العوامل ليست كافية اليوم لتحقيق الهدف المنشود، سواء لكونها قد فقدت نجاعتها التاريخية أو لأن عوامل أخرى أكثر أثراً قد ظهرت إلى الوجود وأصبحت تضغط بصورة أقوى على مصير المجتمعات.
وفي اعتقادي أدى الإيمان بفاعلية الثقافة الواحدة أو الانتماء الفعلي أو الوهمي لأصل واحد في النظرية القومية، كما أدى الإيمان بالحتميات الاقتصادية في النظرية الاشتراكية، دوراً كبيراً في منع التفكير العقلاني بحقيقة العوامل التي تصنع المصير الجيوسياسي للشعوب والمناطق، وتعمل على إعادة تنظيم وتوزيع المجالات الثقافية والاقتصادية معاً. فمن الواضح أن هذه المجالات ليست ثابتة عبر التاريخ، بل إن التاريخ لا يتقدم إلا من خلال إعادة توزيعها، حتى لو أدى ذلك إلى تقسيم جماعة ثقافية واحدة إلى جماعات عدة أو إلى جمع شعوب من ثقافات وأصول مختلفة. ويكفي للبرهان على ذلك الإشارة مثلاً إلى مكانة اللغة والثقافة الإنكليزية اليوم في العالم، ودورها في تكوين التكتل الأقوى فيه. ففي إعادة توزيع القوى، تكون إعادة توجيه حركات التبادل المادي والمعنوي، وخلق إمكانات جديدة للتطور والنمو الحضاري، مرتبطة أيضاً بتوسع دائرة هذا التبادل وكثافته.
إن نقطة ضعف الفرضيات القومية والماركسية كامنة في أنها لا تدرك منطق التفكيك الجديد وآلياته العميقة، وتنحو إلى تغليب مفهوم بسيط وتقليدي للمصالح التي تدفع إلى وحدة الجماعات والشعوب يختلط فيه مفهوم المصالح الجماعية مع مفهوم المصالح المتماثلة أو الواحدة، سواء أكانت مصالح المشاركين في لغة أو ثقافة أو في طبقة واحدة وفي شروط اجتماعية متماثلة. هكذا يبدو الانتماء الواحد إلى الأمة التاريخية وكأنه ضمانة لنشوء مصالح قومية واحدة تدفع بالجماعات والأفراد إلى الالتزام بها وتحقيق مبغاها الذي هو الاتحاد. كما يبدو الانتماء إلى طبقة إنتاجية معينة، وإلى شروط عمل واحدة، مصدراً طبيعياً لنشوء مصالح طبقية متماثلة، وبالتالي، وحدة الطبقة العاملة أيضاً.
3 - المصلحة المشتركة في التنمية الحضارية وبناء التكتلات ما فوق الوطنية
الواقع أن فكرة المصالح الجماعية التي تربط بين جماعات أو شعوب عدة، أو تدفع إلى الربط بينها، ليست، مهما كان لهذه الشعوب من تاريخ مشترك، بسيطة ولا بديهية. فلا ينجم عن وجود قرابة ثقافية أو تاريخية أو طبقية وجود مصالح مشتركة أو بناء حقل مصالح مشتركة بالضرورة، إذ من الممكن لفئات وجماعات تاريخية أن تكون متماثلة بالتركيب تماماً من دون أن يكون لديها أي حافز للارتباط في ما بينها. ومجتمعات القرون الوسطى كانت نموذجاً للجماعات المتماثلة ثقافياً ودينياً والمتنابذة. ثم إنه ليس من الضروري أن يكون للعوامل الثقافية التي دفعت في حقبة تاريخية معينة إلى التقارب بين الجماعات، بل إلى انصهارها في بوتقة دولة واحدة، مفاعيل دائمة وثابتة. ومن الممكن أن يقود انحسار هذه العوامل إلى تفكك الجماعة وبحث كل طرف منها عن آفاق جديدة للتقارب والاندماج. وبالمثل، إن التنافس الرأسمالي يدفع اليوم إلى تجاوز الحدود الوطنية، كما عمل في القرن الماضي على ترسيخها وتعميقها.
إن فكرة المصالح في الميدان الاجتماعي فكرة تاريخية ومركبة معاً. ومعنى "تاريخية" أنها متغيرة ومتبدلة بحسب تبدل مراكز الثقل الجيوسياسة واتجاهات ومراكز الإبداع الحضارية. فالجماعات التي كانت في القرن السابق تجد مصلحة لها في اجتماعها ربما لا تجدها في القرن الراهن. ومعنى "مركبة" أنها من أنماط ومستويات مختلفة. فهي قد تعني، أولاً، وجود مصالح متماثلة يستدعي الحفاظ عليها أو حمايتها تعاون طرفين أو أكثر في تنظيمها (والمثال الذي يمكن أن نعطيه على ذلك هو المصلحة المشتركة التي دفعت البلدان المصدرة للنفط إلى تكوين المنظمة الشهيرة التي رافقت مسيرة تطور الصناعة النفطية في العقود الثلاثة الماضية). وهي قد تعني، ثانياً، وجود مصالح مشتركة، بمعنى أن أطرافاً متعددة تشترك في مورد واحد، مادي أو معنوي. ومثال ذلك البلاد التي تشترك في موارد مائية واحدة، أو التي يعبرها نهر كبير واحد. وهي حال بلدان حوض الفرات مثلاً في الوقت الراهن، إذ لديها مصلحة مشتركة في التفاهم على طريقة استغلاله وتقاسم ثمراته.
وهي قد تعني، ثالثاً، وجود مصلحة متبادلة في التعاون في إطار مشروع ما، اقتصادي أو ثقافي. وليس المفروض في هذه الحال أن يكون سبب اللقاء والتفاهم والتعاون وجود تراث مشترك أو حماية مصالح واحدة، ولكن بناء مصالح جديدة، واستغلال الفرص التي يقدمها الواقع الجغرافي أو الثقافي أو الجيوسياسي…الخ، من أجل فتح آفاق جديدة للعمل الجماعي، ومن ورائه للتحول التاريخي. ومن الأمثلة على ذلك بناء رابطة بلدان جنوب شرق آسيا التي لم يكن الدافع إليها وجود لغة واحدة، ولا ثقافة مشتركة ولا نزعة قومية واحدة ولا إرث مشترك، ولكن رغبة أو إرادة مشتركة في تحسين شروط التنمية الاقتصادية في البلدان المنضمة إلى الرابطة.
لكن في جميع هذه الحالات، وعلى الرغم من وجود المورد الواحد أو المصلحة المشتركة في استغلاله، أو الرغبة في فتح آفاق تعاون جماعي جديدة، يستدعي فهم هذه المصالح إدراك بعض الأمور:
أولاً، إن وجود مصلحة مشتركة لا يعني عدم وجود مصالح أخرى متناقضة أو متباينة، أي غير مشتركة. فمن الممكن أن تنشأ مصلحة واحدة في تحديد سقف الإنتاج من النفط لدى أكثر من بلد منتج ومصدر، مع وجود تناقض في الأنظمة ومضامينها الاجتماعية وتحالفاتها الدولية.
ثانياً، إن وجود مصالح جماعية لا يعني غياب التناقض ولا التباين في تحديد طبيعة هذه المصالح أو تقدير حجمها ومستقبلها بين الأطراف المختلفة. فوجود مصلحة مشتركة للبلدان المصدرة للنفط في ضمان سعر ثابت ومرتفع للمادة المصدرة لم يمنع من وجود تباين في رأي الأطراف المصدرة، سواء في ما يتعلق بتحديد حصص الإنتاج المصدر أم في ما يتعلق بسقف الأسعار المناسب. كما أن وجود مصلحة مشتركة للوالدين في التفاهم والتعاون على تربية الأطفال لا يمنع من تنازعهما على أسلوب التربية ووسائلها. وبالمثل، لا يفترض التعاون في إطار مشروع اقتصادي أن تنال جميع الأطراف حصة واحدة، أو أن يفيد بعض الأطراف من المشروع أكثر من إفادة الأطراف الأخرى. ففي جميع هذه الحالات ليس التعاون، كتعبير عن وجود مصلحة متبادلة، نقيضاً للتنازع والتنافس. وهو تنافس يمكن أن نشهده في إطار المجتمع السياسي الواحد نفسه على أشكال توزيع الثروة الوطنية.
ثالثاً، إن هذه المصالح الجماعية ليست دائمة ولا أبدية. فمن الممكن أن تنشأ دورات مصلحية جديدة في كل حقبة تكون مختلفة عن السابقة. بل كثيراً ما نجد أن دولاً أو شعوباً كانت تجمعها في حقبة ما دولة واحدة توحد مصالحها الوطنية، تنزع إلى الانفصال حينما تكتشف فرصاً أفضل لتحسين مرابحها، أو حين تعتقد أن انفصالها يسمح لها بالانفتاح على دائرة جديدة للتفاهم والتعاون أنجع من السابقة. وعلى عكس ما توحي به المظاهر الشكلية، تخضع حركات الاستقلال والانفصال لدى القسم الأكبر من الشعوب والجماعات، أي باستثناء الأمم الكبرى التي نجحت في تكوين مركز أو قطب للتنمية المستقلة، لقاعدة تبدل اتجاهات ومراكز الاستقطاب الإقليمي والعالمي أكثر مما تعبر عن نشوء دول مستقلة. وقد ابتعد العديد من شعوب الاتحاد السوفياتي المنهار من موسكو بقدر ما نما لديه آمال الاندماج والاندراج في الأقطاب الأخرى التي تبدو حاملة فرصاً أفضل في التقدم والتنمية الحضارية. هذه كانت حال بلدان أوروبا الشرقية التي تتطلع إلى أوروبا الغربية، وبعض بلدان آسيا الإسلامية الذي أمل خيراً في إيران أو تركيا. وعلى العكس، لم يجد بعض الجمهوريات الآخر بُداً من البقاء في إطار التعاون السوفياتي القديم.
يعود السبب في ذلك إلى أن حاجات التنمية الحضارية، في الحاضر والماضي على حد سواء، تستدعي التعاون بين الدول والشعوب، ولا يمكن أن تُضمن إلا بتجاوز الحدود السياسية التي هي بالضرورة، ومن وجهة نظر توزيع القوى المادية والبشرية والداخلة في العملية الحضارية، حدود تعسفية. والفكرة القومية الحديثة هي التي أوحت بإمكان نشوء تنمية حضارية، قائمة على القطيعة الاقتصادية والسكانية، وذلك تحت تأثير وإلهام مبدأ السيادة والنـزعة الوطنية. وإذا كانت فكرة السيادة هذه لم تؤثر كثيراً في تطور قوى الإنتاج في الدول الصناعية لأنها نشأت منذ البداية في سياق رأسمالية السوق الحرة والمنافسة غير الوطنية، فقد كان الأمر مختلفاً كثيراً في الدول الجديدة، إذ أدّى غياب هذه الرأسمالية وفكرة السوق والتوسع فيها، في البلدان غير الصناعية، إلى تحويل السيادة من مفهوم سياسي قائم على مبدأ أسبقية السلطة العمومية في سن القانون وتطبيقه على أي قوة داخلية أو خارجية أخرى، إلى مفهوم مطلق قائم على جعل الوطنية بديلاً للعالمية والعمل كما لو كان من الممكن إعادة إنتاج الحضارة كما هي، علمياً وتقانياً، في كل بلد على حدة، مهما كان حجمه ومهما كانت موارده المادية والبشرية. وبذلك تحولت الوطنية إلى خطة لا عقلانية وفي أحسن الحالات، إلى نزعة غوغائية.
رابعاً، إن من الممكن أن يكون هناك تناقض بين مصالح الفئات المختلفة في المجتمع الواحد، سواء تعلق الأمر بموضوع التحالفات الخارجية أم تعلق بموضوع السياسات الداخلية. ومثال ذلك التناقض بين مصالح الفئات الحاكمة الكومبرادورية والطبقات الشعبية بل البرجوازية الوطنية الصناعية.
الواقع أن فكرة المصالح الجماعية التي تربط بين جماعات أو شعوب عدة، أو تدفع إلى الربط بينها، ليست، مهما كان لهذه الشعوب من تاريخ مشترك، بسيطة ولا بديهية. فلا ينجم عن وجود قرابة ثقافية أو تاريخية أو طبقية وجود مصالح مشتركة أو بناء حقل مصالح مشتركة بالضرورة، إذ من الممكن لفئات وجماعات تاريخية أن تكون متماثلة بالتركيب تماماً من دون أن يكون لديها أي حافز للارتباط في ما بينها. ومجتمعات القرون الوسطى كانت نموذجاً للجماعات المتماثلة ثقافياً ودينياً والمتنابذة. ثم إنه ليس من الضروري أن يكون للعوامل الثقافية التي دفعت في حقبة تاريخية معينة إلى التقارب بين الجماعات، بل إلى انصهارها في بوتقة دولة واحدة، مفاعيل دائمة وثابتة. ومن الممكن أن يقود انحسار هذه العوامل إلى تفكك الجماعة وبحث كل طرف منها عن آفاق جديدة للتقارب والاندماج. وبالمثل، إن التنافس الرأسمالي يدفع اليوم إلى تجاوز الحدود الوطنية، كما عمل في القرن الماضي على ترسيخها وتعميقها.
إن فكرة المصالح في الميدان الاجتماعي فكرة تاريخية ومركبة معاً. ومعنى "تاريخية" أنها متغيرة ومتبدلة بحسب تبدل مراكز الثقل الجيوسياسة واتجاهات ومراكز الإبداع الحضارية. فالجماعات التي كانت في القرن السابق تجد مصلحة لها في اجتماعها ربما لا تجدها في القرن الراهن. ومعنى "مركبة" أنها من أنماط ومستويات مختلفة. فهي قد تعني، أولاً، وجود مصالح متماثلة يستدعي الحفاظ عليها أو حمايتها تعاون طرفين أو أكثر في تنظيمها (والمثال الذي يمكن أن نعطيه على ذلك هو المصلحة المشتركة التي دفعت البلدان المصدرة للنفط إلى تكوين المنظمة الشهيرة التي رافقت مسيرة تطور الصناعة النفطية في العقود الثلاثة الماضية). وهي قد تعني، ثانياً، وجود مصالح مشتركة، بمعنى أن أطرافاً متعددة تشترك في مورد واحد، مادي أو معنوي. ومثال ذلك البلاد التي تشترك في موارد مائية واحدة، أو التي يعبرها نهر كبير واحد. وهي حال بلدان حوض الفرات مثلاً في الوقت الراهن، إذ لديها مصلحة مشتركة في التفاهم على طريقة استغلاله وتقاسم ثمراته.
وهي قد تعني، ثالثاً، وجود مصلحة متبادلة في التعاون في إطار مشروع ما، اقتصادي أو ثقافي. وليس المفروض في هذه الحال أن يكون سبب اللقاء والتفاهم والتعاون وجود تراث مشترك أو حماية مصالح واحدة، ولكن بناء مصالح جديدة، واستغلال الفرص التي يقدمها الواقع الجغرافي أو الثقافي أو الجيوسياسي…الخ، من أجل فتح آفاق جديدة للعمل الجماعي، ومن ورائه للتحول التاريخي. ومن الأمثلة على ذلك بناء رابطة بلدان جنوب شرق آسيا التي لم يكن الدافع إليها وجود لغة واحدة، ولا ثقافة مشتركة ولا نزعة قومية واحدة ولا إرث مشترك، ولكن رغبة أو إرادة مشتركة في تحسين شروط التنمية الاقتصادية في البلدان المنضمة إلى الرابطة.
لكن في جميع هذه الحالات، وعلى الرغم من وجود المورد الواحد أو المصلحة المشتركة في استغلاله، أو الرغبة في فتح آفاق تعاون جماعي جديدة، يستدعي فهم هذه المصالح إدراك بعض الأمور:
أولاً، إن وجود مصلحة مشتركة لا يعني عدم وجود مصالح أخرى متناقضة أو متباينة، أي غير مشتركة. فمن الممكن أن تنشأ مصلحة واحدة في تحديد سقف الإنتاج من النفط لدى أكثر من بلد منتج ومصدر، مع وجود تناقض في الأنظمة ومضامينها الاجتماعية وتحالفاتها الدولية.
ثانياً، إن وجود مصالح جماعية لا يعني غياب التناقض ولا التباين في تحديد طبيعة هذه المصالح أو تقدير حجمها ومستقبلها بين الأطراف المختلفة. فوجود مصلحة مشتركة للبلدان المصدرة للنفط في ضمان سعر ثابت ومرتفع للمادة المصدرة لم يمنع من وجود تباين في رأي الأطراف المصدرة، سواء في ما يتعلق بتحديد حصص الإنتاج المصدر أم في ما يتعلق بسقف الأسعار المناسب. كما أن وجود مصلحة مشتركة للوالدين في التفاهم والتعاون على تربية الأطفال لا يمنع من تنازعهما على أسلوب التربية ووسائلها. وبالمثل، لا يفترض التعاون في إطار مشروع اقتصادي أن تنال جميع الأطراف حصة واحدة، أو أن يفيد بعض الأطراف من المشروع أكثر من إفادة الأطراف الأخرى. ففي جميع هذه الحالات ليس التعاون، كتعبير عن وجود مصلحة متبادلة، نقيضاً للتنازع والتنافس. وهو تنافس يمكن أن نشهده في إطار المجتمع السياسي الواحد نفسه على أشكال توزيع الثروة الوطنية.
ثالثاً، إن هذه المصالح الجماعية ليست دائمة ولا أبدية. فمن الممكن أن تنشأ دورات مصلحية جديدة في كل حقبة تكون مختلفة عن السابقة. بل كثيراً ما نجد أن دولاً أو شعوباً كانت تجمعها في حقبة ما دولة واحدة توحد مصالحها الوطنية، تنزع إلى الانفصال حينما تكتشف فرصاً أفضل لتحسين مرابحها، أو حين تعتقد أن انفصالها يسمح لها بالانفتاح على دائرة جديدة للتفاهم والتعاون أنجع من السابقة. وعلى عكس ما توحي به المظاهر الشكلية، تخضع حركات الاستقلال والانفصال لدى القسم الأكبر من الشعوب والجماعات، أي باستثناء الأمم الكبرى التي نجحت في تكوين مركز أو قطب للتنمية المستقلة، لقاعدة تبدل اتجاهات ومراكز الاستقطاب الإقليمي والعالمي أكثر مما تعبر عن نشوء دول مستقلة. وقد ابتعد العديد من شعوب الاتحاد السوفياتي المنهار من موسكو بقدر ما نما لديه آمال الاندماج والاندراج في الأقطاب الأخرى التي تبدو حاملة فرصاً أفضل في التقدم والتنمية الحضارية. هذه كانت حال بلدان أوروبا الشرقية التي تتطلع إلى أوروبا الغربية، وبعض بلدان آسيا الإسلامية الذي أمل خيراً في إيران أو تركيا. وعلى العكس، لم يجد بعض الجمهوريات الآخر بُداً من البقاء في إطار التعاون السوفياتي القديم.
يعود السبب في ذلك إلى أن حاجات التنمية الحضارية، في الحاضر والماضي على حد سواء، تستدعي التعاون بين الدول والشعوب، ولا يمكن أن تُضمن إلا بتجاوز الحدود السياسية التي هي بالضرورة، ومن وجهة نظر توزيع القوى المادية والبشرية والداخلة في العملية الحضارية، حدود تعسفية. والفكرة القومية الحديثة هي التي أوحت بإمكان نشوء تنمية حضارية، قائمة على القطيعة الاقتصادية والسكانية، وذلك تحت تأثير وإلهام مبدأ السيادة والنـزعة الوطنية. وإذا كانت فكرة السيادة هذه لم تؤثر كثيراً في تطور قوى الإنتاج في الدول الصناعية لأنها نشأت منذ البداية في سياق رأسمالية السوق الحرة والمنافسة غير الوطنية، فقد كان الأمر مختلفاً كثيراً في الدول الجديدة، إذ أدّى غياب هذه الرأسمالية وفكرة السوق والتوسع فيها، في البلدان غير الصناعية، إلى تحويل السيادة من مفهوم سياسي قائم على مبدأ أسبقية السلطة العمومية في سن القانون وتطبيقه على أي قوة داخلية أو خارجية أخرى، إلى مفهوم مطلق قائم على جعل الوطنية بديلاً للعالمية والعمل كما لو كان من الممكن إعادة إنتاج الحضارة كما هي، علمياً وتقانياً، في كل بلد على حدة، مهما كان حجمه ومهما كانت موارده المادية والبشرية. وبذلك تحولت الوطنية إلى خطة لا عقلانية وفي أحسن الحالات، إلى نزعة غوغائية.
رابعاً، إن من الممكن أن يكون هناك تناقض بين مصالح الفئات المختلفة في المجتمع الواحد، سواء تعلق الأمر بموضوع التحالفات الخارجية أم تعلق بموضوع السياسات الداخلية. ومثال ذلك التناقض بين مصالح الفئات الحاكمة الكومبرادورية والطبقات الشعبية بل البرجوازية الوطنية الصناعية.
Comments
Post a Comment