بعد احتلال الضفة الغربية العام 1967 جاء إلى حارتنا عجوز وزوجته. قميص الرجل كان كحديقة، مشجراً مائلاً إلى الاخضرار، فوق سروال قصير كاكي بلون الأرض.
أما زوجته المسنّة فكان فستانها أزرق، قصير الأكمام موشحاً بالبياض كطيور مهاجرة. كلاهما كان وجهاهما أحمر كحبتي مشمش لفحتهما الشمس.
عرفنا من شكلهما أنهما أجنبيان خاصة أن كلاً منهما كان يضع على رأسه قبعة. التمّ أولاد الحارة حولهما، ومن كان يافعاً استعرض ما حفظه في المدرسة من كلمات إنجليزية ليجيب عن أسئلة الرجل.
فهمنا أنه كان يسأل عن رجل وذكره بالاسم الرباعي. مشينا معهما إلى دكان أبو خليل وقلنا له هذا هو. كان أبو خليل في أوائل السبعينيات، منتصب القامة، له حاجبان كثيفان يكاد شعرهما يحجب الرؤية عن عينيه الموغلتين في الحزن، ووجهه كان أبيض لوحته شمس الغربة عن قريته «سلمة» إحدى قرى يافا التي احتلها اليهود مع ما احتلوا العام 1948.
ما إن رأى الرجلان بعضهما، وبدون كلام، تعانقا عناقاً طويلاً مبللاً بدموعهما فيما نحن الأولاد ننظر بدهشة إليهما. وكانت زوجة الرجل هي الأخرى تنظر لكن بفرح أعادها ثلاثين سنة إلى الوراء. «يللا يا أولاد، روحوا لبيوتكم» صاح بنا أبو خليل و.. استفرد هو وعائلته بالرجل الأجنبي الأحمر وزوجته المسنة.
في المساء تداول أهل الحارة الحكاية: الرجل ألماني وأبو خليل فلسطيني تربيا معاً في «سارونا» بفلسطين قبل قيام الكيان الإسرائيلي، وهي قرية عربية تقع شمالي شرق مدينة يافا على الطريق الرئيسة من يافا – تل أبيب إلى بلدة مجدل يابا في الشرق مارة بمستعمرة بتاح تكفا (ملبس)، وقد ربطت سارونة طرق معبدة بكل من قرى سلعة والمسعودية ويازور.
وكلمة سارونة تحريف لكلمة “صارون” الكنعانية وتعني السهل. وقد كانت موقعاً لمستعمرة ألمانية تـأسست في عام 1871م منها هذا الرجل اليهودي الألماني الذي هاجر هو أيضاً إلى أستراليا بعد العام 1948.
تنتشر إلى الجنوب الشرقي من سارونة بعض الغابات، كما تنتشر مزارع الحمضيات شمالي وشمالي غرب القرية. وتوجد إلى الشمال الغربي منها آبار استخدمها السكان في ري مزارعهم.
كان أبي يحدثنا عن بيارات سارونا: «كنا نحضر فيلماً في سينما الحمرا في يافا ونعود ليلاً عبر سارونا إلى قريتنا الجماسين مشياً على الأقدام، نغني لعبدالوهاب ومواويلنا، كنا نقطف البرتقال ونأكله بدون أن نعد كم حبة أكل الواحد منا».
ذكّرني بحكاية العجوز الألماني وأبو خليل ما قاله الكاتب جدعون ليفي في مقابلة أجراها معه الصحفي البريطاني ديفيد كرونين حين سأله ديفيد: لقد ولدت في تل أبيب عام 1950 فهل كان والداك من الناجين من المحرقة؟
أجاب: لا لم يكونا من الناجين من المحرقة، كانا من الذين غادروا ألمانيا عام 1939 فأبي من أصل ألماني وأمي من أصل تشيكي وقد كانا مثالاً نموذجياً للاجئين فقد كانا على متن السفينة التي احتجزتها بريطانيا في ميناء بيروت لمدة ستة أشهر .
حيث تسنى لهما بعد ذلك التوجه إلى فلسطين وقد تم دخول والدتي عبر برنامج رعوي تابع لمنظمه غير حكوميه يسمي «الحفاظ على الأطفال» حيث جاءت بدون والديها وتوجهت مباشره إلى الكيبوتز.
أما والدي فقد جاء إلي فلسطين حيث عاش فيها لمدة 60 عاماً وقد أخبرني بأنه لم يجد فيها هويته الحقيقية فقد كان حاصلاً على دكتوراه في القانون، ولكنه لم يمارس القانون في إسرائيل وذلك لعدم تأقلمه على تعلم اللغة العبرية، فقد شعر أن حياته قد تحطمت هنا. وفي ذات الوقت فإن أبي لم يرد أن يعود إلى أوروبا إلا كزائر.
هل سبق وأن رفضت الصهيونية تماماً؟
جدعون: الصهيونية تحتوي على عدة معانٍ ولكن الاحتلال هو الذي يحمل معنى الصهيونية بمفهومها الشامل بما في ذلك الاعتقاد السائد بأن اليهود لهم الحق الأكبر في فلسطين أكثر من أي أناس آخرين، أي أن اليهود هم شعب الله المختار وهذا لا يمكن أن يحقق المساواة بين اليهود والعرب وبين اليهود والفلسطينيين.
فأنا لا أستطيع أن أتشارك في هذه المعتقدات التي تعتبر هي أساس الصهيونية في وقتنا الحاضر وفي هذه الحالة فأنا اعتبر نفسي معادياً للصهيونية، ومن ناحية أخرى فإن الشعب اليهودي الذي يؤمن بضرورة العيش في فلسطين جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين والقيام بكل ما هو ممكن من أجل تعويضهم عما تعرضوا له من تهجير عام 1948، فإن كانت تلك هي العقيدة الصهيونية في هذه الحالة فأنا أتشارك في تلك الرؤية.
جدعون ليفي يضع أصبعه على الصدع الذي يتعمق في المجتمع الإسرائيلي والذي سيظل يتعمق إلى أن يبتلع المشروع الصهيوني ومعه ثمرته «إسرائيل» التي سيأكلها أبناؤها أنفسهم وتعود فلسطين كما كانت عربية.
Comments
Post a Comment