إريتريا: الهيام إلى آخره
كما لن يشبعك أن أصِف لك المقلوبة، لن يقنعك أن أنقد لك رواية. غير أنني
لست بناقد، وأكتب عن رواية "مَرْسَى فاطمة" كتابة قارئ معجب. ولا يقرأ أحد
رواية حتى آخرها إلا ويكون بها معجباً. غير أن إعجابي برواية "حجي جابر"
كبير. فإن عرفت أنني لم أنقد رواية واحدة في حياتي فقد علمت مدى الإعجاب.
الرواية صادرة عن "المركز الثقافي العربي" قبل أشهر. وتقع في مئتين وخمسين صفحة. والكاتب أَريتري، والرواية مكتوبة بالعربية.
حجي جابر في روايته هذه، وله قبلها "سمراويت"، يصف حبًّا غامرًا يوصل صاحبه إلى المرحلة الأخيرة التي سماها القدماء التدَلُّه والهُيام. وهي أن يهيم العاشق على وجهه لا يريد شيئًا في الحياة سوى حبيبه. ولم ينجح الشعر العربي القديم في تقديم مثال حقيقي على هذه الحالة سوى مرة واحدة. لم يكن جميل بثينة ولا قيس لبنى ولا كثير عزة من هذا النمط. وكانه المجنون، قيس ليلى، فقط؛ ولندرة هذا النوع من العشق تحير قدامى النقاد فيه، وزعم بعضهم أن المجنون شخصية خرافية. ثم جاء حَجِّي جابر وقدم مثالاً آخر، لعاشق كاد يبلغ به الدنف، أي التدلُّه في الحب، حد التلف.
الرواية عن إريتريا وحروب استقلالها وتشتت أهلها، وعن الماركسية التي تصبح في إفريقيا أداة رومانسية لتحرير الإنسان يواجهها كلاشنيكوف القومية تحمله طبقة تريد تحرير البلد من الأجنبي لكي تحتلَّه هي وتمتصَّ خيراته.
يصل الكاتب إلى ذرى شعرية عالية، حتى وهو يصف الحالة السياسية على لسان أبطاله من المناضلين الذين انهزم مشروعهم. ثم يقرر أن يحقن روايته بوقائع إضافية، فيعقد فصلاً لتهريب البشر إلى سيناء وانتزاع كلاهم، ويأتي هذا الإقحام على حساب الفن.
بطلا القصة المتعاشقان يؤديان أدوارهما في الرواية بتدفق جميل، والشخصيات الأخرى تصر على أن تكون مثالية. فالشرير شرير والطيب طيب. ولئن ارتضينا شر الأشرار، لأن الفقر المدقع وقسوة الحياة في مواطن التشرد خليقة أن تصنع بشرًا حقيقيين، أي وحوشًا، فنحن لا نصدق الكاتب وهو يضفي صفات ملائكية على بعض الشخصيات، شخصية أم أوَّاب وكلارا وأمير، مثلاً. لكنَّ الرواية حافلة أيضاً بشخصيات فيها الخير والشر والضعف.
هذه ليست حكاية ولا قصة رومانسية، هي رواية مفعمة بلغة طازجة وبتجربة فريدة لا يعرف عنها العرب الكثير.
يجب أن يعرف القراء عن هذه الرواية، وعن حجي جابر أكثر مما يعرفون، ونقول يجب لأن حجي لا يمك ماكينة الدعاية التي يملكها غيره. "مرسى فاطمة" قطعة من الكتابة الأصيلة، وبجانب التدفق الشعري المشرق بحلاوة اللغة وعمق العبارة، والنامّ عن عمق التجربة، فالرواية محبوكة بعناية وفيها من رد الأعجاز على الصدور والمفاجآت المحسوبة ما يجعلك تنظر إلى الصفحات الباقية تريدها أن تكون كثيرة.
* كاتب وإعلامي فلسطيني
الرواية صادرة عن "المركز الثقافي العربي" قبل أشهر. وتقع في مئتين وخمسين صفحة. والكاتب أَريتري، والرواية مكتوبة بالعربية.
حجي جابر في روايته هذه، وله قبلها "سمراويت"، يصف حبًّا غامرًا يوصل صاحبه إلى المرحلة الأخيرة التي سماها القدماء التدَلُّه والهُيام. وهي أن يهيم العاشق على وجهه لا يريد شيئًا في الحياة سوى حبيبه. ولم ينجح الشعر العربي القديم في تقديم مثال حقيقي على هذه الحالة سوى مرة واحدة. لم يكن جميل بثينة ولا قيس لبنى ولا كثير عزة من هذا النمط. وكانه المجنون، قيس ليلى، فقط؛ ولندرة هذا النوع من العشق تحير قدامى النقاد فيه، وزعم بعضهم أن المجنون شخصية خرافية. ثم جاء حَجِّي جابر وقدم مثالاً آخر، لعاشق كاد يبلغ به الدنف، أي التدلُّه في الحب، حد التلف.
الرواية عن إريتريا وحروب استقلالها وتشتت أهلها، وعن الماركسية التي تصبح في إفريقيا أداة رومانسية لتحرير الإنسان يواجهها كلاشنيكوف القومية تحمله طبقة تريد تحرير البلد من الأجنبي لكي تحتلَّه هي وتمتصَّ خيراته.
يصل الكاتب إلى ذرى شعرية عالية، حتى وهو يصف الحالة السياسية على لسان أبطاله من المناضلين الذين انهزم مشروعهم. ثم يقرر أن يحقن روايته بوقائع إضافية، فيعقد فصلاً لتهريب البشر إلى سيناء وانتزاع كلاهم، ويأتي هذا الإقحام على حساب الفن.
بطلا القصة المتعاشقان يؤديان أدوارهما في الرواية بتدفق جميل، والشخصيات الأخرى تصر على أن تكون مثالية. فالشرير شرير والطيب طيب. ولئن ارتضينا شر الأشرار، لأن الفقر المدقع وقسوة الحياة في مواطن التشرد خليقة أن تصنع بشرًا حقيقيين، أي وحوشًا، فنحن لا نصدق الكاتب وهو يضفي صفات ملائكية على بعض الشخصيات، شخصية أم أوَّاب وكلارا وأمير، مثلاً. لكنَّ الرواية حافلة أيضاً بشخصيات فيها الخير والشر والضعف.
هذه ليست حكاية ولا قصة رومانسية، هي رواية مفعمة بلغة طازجة وبتجربة فريدة لا يعرف عنها العرب الكثير.
يجب أن يعرف القراء عن هذه الرواية، وعن حجي جابر أكثر مما يعرفون، ونقول يجب لأن حجي لا يمك ماكينة الدعاية التي يملكها غيره. "مرسى فاطمة" قطعة من الكتابة الأصيلة، وبجانب التدفق الشعري المشرق بحلاوة اللغة وعمق العبارة، والنامّ عن عمق التجربة، فالرواية محبوكة بعناية وفيها من رد الأعجاز على الصدور والمفاجآت المحسوبة ما يجعلك تنظر إلى الصفحات الباقية تريدها أن تكون كثيرة.
* كاتب وإعلامي فلسطيني
Comments
Post a Comment