الأدب السوداني: فاتورة النشر والمزاج السياسي
أعلن الروائي والقاص السوداني عمر الفاروق نور الدائم (1982) على حسابه
في "فيسبوك"، منذ أيام، أنه سيقوم بإصدار روايته "الفاني" إلكترونياً. وعزا
نور الدائم قراره هذا لتعذر نشر الرواية، الفائزة بالجائزة التقديرية في
"مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي" لعام 2013، ورقياً.
قرار نور الدائم هذا ليس جديداً على الأوساط الثقافية في السودان، فقد أصدر الشاعر حامد بخيت مجموعته الشعرية الأولى "أسرار الخروج" (دار قرطبة) إلكترونياً أيضاً، العام الماضي، الأمر الذي اعتبر حدثاً جديداً بالنسبة إلى القارئ والكاتب في السودان.
يومها برر بخيت مغامرته تلك بتزايد جمهور الكتاب الإلكتروني بين القراء من الأجيال الجديدة، الذين، بحسب رأيه، "يفضلون حمل هاتف ذكي أو كمبيوتر لوحي بدلاً من الكتاب"، إضافة إلى ميزات عدَّة، أهمها يسر النشر الإلكتروني مقارنةً بشروط النشر الورقي، وما سمَّاه "إجحاف الناشرين"، إلى جانب سرعة الانتشار، وتوزيع الكتاب، وتوسيع جغرافية القراءة.
لكنَّ هذه الأسباب التي دفعت بخيت إلى النشر الإلكتروني، ليست نفسها التي وقفت وراء قرار نور الدائم. فقد حاول الأخير نشر روايته ورقياً على مدى عام كامل من دون جدوى. "وجدتُ عقوداً مجحفة من بعض دور النشر العربية، وأخرى طالبتني بأن أتكفل بتسديد تكاليف النشر"، يقول نور الدائم لـ "العربي الجديد" حول هذه المسألة. ويواصل: "لم أفكر في دور النشر المحلية في السودان، إذ سيكون هدراً للزمن، ولديَّ تجربة معها عند محاولة نشر روايتي الأولى "قارعة الذات".
لكن يظل النشر الإلكتروني مغامرة أيضاً. يستدرك نور الدائم: "سأنتظر
الجدوى من وراء هذه المحاولة. لكن يظل هدفي الأساسي هو إتاحة الرواية
للقراءة"، الأمر الذي يجعله، كما يبين لنا، على استعداد لتحميلها مجاناً
لمن يرغب.
وهذا التحميل المجاني كان أيضاً الخيار الأول للقاص طلال الطيب، الفائز بالجائزة التقديرية في "مسابقة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة" لعام 2014. وقد نشر الطيب حتى الآن ثلاث مجموعات قصصيّة مجاناً على الشبكة الافتراضية، ويوضّح أن "تجربة نشر كتاب إلكتروني تجربة هادئة جداً. ليس هناك أموال تُصرف، ولا جهة رقابية ننتظر منها رخصة أو إشعاراً يسمح بالنشر والتداول".
ومع أن الطريقة التي اختارها الطيب "ليس فيها ربح مادي يدخل إلى جيب المؤلف"، كما يقول، لكنه يشير إلى أنه اتجه منذ البداية إلى النشر الإلكتروني ولم يهتم كثيراً بالنشر الورقي. وينوّه إلى ظروف النشر الصعبة حالياً في السودان، مضيفاً: "حتى الكتّاب الكبار لا ينجحون، عادة، في طباعة كتبهم".
وكان الروائيان عبد العزيز بركة ساكن وعماد البليك أتاحا، أخيراً، للقراء تنزيل أعمالهما السردية مجاناً من الشبكة بصيغة PDF. إلّا أن هذه الروايات منشورة في الأصل ورقياً، وجاءت إتاحتها إلكترونياً بهدف تحقيق انتشار أوسع في السودان وخارجها. كما أنها طريقة لتفادي عقبات الحظر والمصادرة، مثلما حدث لأعمال بركة ساكن التي سُحبت من "معرض الخرطوم الدولي للكتاب" في عدة دورات (2005 ـ 2010 ـ 2012)، ما يجعل من توفّرها على الشبكة فرصة للقارئ السوداني للاطلاع عليها.
وبالنسبة إلى بركة ساكن، فإن ميزات الكتاب الإلكتروني، التي يجملها في "عبوره فوق أنف الرقابة، وسهولة وصوله إلى القراء ومجانيته"؛ لا تجعله يغض الطرف عن جانب آخر لمسه من تجربته، وهو أن التخريب يطال الكتاب الإلكتروني بسهولة. يقول بركة لـ "العربي الجديد": "الآن توجد نسخ من رواياتي عبارة عن مسخ، سيئة الإعداد والإخراج، بعضها، حتى أنا كاتبها، لا أستطيع قراءته، وبعضها مسودات أولية لروايات". ويخلص بركة إلى أن "النشر الإلكتروني ليس سهلاً ولا يعدّ تجاوزاً لصعوبات النشر الورقي، كما يبدو".
ورغم الصورة القاتمة التي تظهر لدى النظر إلى واقع النشر الأدبي في السودان، خصوصاً بالنسبة إلى الأسماء الجديدة؛ إلا أن النشر الإلكتروني يعاني أيضاً من معوقات لا تزال تدفع في اتجاه ضعف أو انعدام المردود التجاري. وفي حال كانت هذه التجارب بدايةً لاندفاع عشرات الكتّاب، ممن يواجهون مشاكل تحول دون وصول أعمالهم للقراء؛ نحو هذا الباب في مقبل الأيام؛ لكن النشر الإلكتروني أيضاً ليس ضامناً لانتشار الكتاب، إذ تبدو القراءة الإلكترونية محدودة حتى الآن، وقلما يشتري القارئ الكتاب رقمياً، بل يفضل تحميله مجاناً من إحدى المواقع.
وهناك خيار تطبيقات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، المنتشرة في
السودان، لا سيما في الخرطوم. إلا أن الواقع الاقتصادي للسودان يجعل عملية
تسويق الكتاب الإلكتروني معقدة نوعاً ما، إذ لا وجود للبطاقات الائتمانية -
وهي وسيلة التبضع في متاجر الكتب الإلكترونية - بسبب حسابات سياسية
معلومة.
أما خارج الخرطوم، فيبدو الوضع أكثر حلكة، كما يصفه بركة، حيث "تندر خدمة الإنترنت الجيدة ذات السرعة المناسبة للتحميل، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ندرة الوسائط التي تعتمد على جودة خدمات الاتصال، مثل الحواسيب والهواتف الذكية. لذا لا يمكن أن يغطي النشر الإلكتروني الحاجة إلى الكتاب الورقي، فهو ليس متاحاً للجميع".
سؤال الرقابة الذي أشار إليه بركة ساكن، ربما كان دافعاً آخر أسهم في جعل نور الدائم يوجّه أنظاره صوب النشر الإلكتروني، إذ إن روايته الأولى، "قارعة الذات" (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013) كانت قد منعت "هيئة المصنفات الأدبية" في السودان تداولها "لما تضمنته من مساس بالأخلاق والأعراف"، بحسب تصريح سابق من أحد مقيّمي الهيئة لـ "الجزيرة نت"، رغم أنه امتدح في التصريح نفسه اللغة "الممتازة" للرواية، ووصف كاتبها بأنه "أديب متمكن". وإضافة إلى نشاطه السردي المستمر في الصحف والمواقع، ينشر نور الدائم حالياً، في ما يبدو أنه انحياز آخر للنشر الإلكتروني، روايةً جديدة على شكل فصول في مدونته، وصفحته على "فيسبوك".
ورغم التقدير الذي تجده أعمال نور الدائم في الأوساط الأدبية السودانية، وهو ما انعكس في تقرير هيئة المحكمين لـ"جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي" لعام 2013، الذي امتدح رواية "الفاني" ووصفها بـ"الجدة والجرأة والحداثة"، وبأنها "محمّلة بالدلالات العميقة والإشارات الذكية"؛ إلا أن كل ذلك لم يشفع لها في الحصول على فرصة للنشر الورقي، مثلها مثل عشرات من أعمال الشباب التي ظلت حبيسة الأدراج في انتظار الفرصة.
على أمل أن تفتح تجربة الفاروق، وقبله حامد بخيت وطلال الطيب، درباً جديداً يكون متنفَّساً لأدب ما زال يدفع فاتورة المزاج السياسي.
قرار نور الدائم هذا ليس جديداً على الأوساط الثقافية في السودان، فقد أصدر الشاعر حامد بخيت مجموعته الشعرية الأولى "أسرار الخروج" (دار قرطبة) إلكترونياً أيضاً، العام الماضي، الأمر الذي اعتبر حدثاً جديداً بالنسبة إلى القارئ والكاتب في السودان.
يومها برر بخيت مغامرته تلك بتزايد جمهور الكتاب الإلكتروني بين القراء من الأجيال الجديدة، الذين، بحسب رأيه، "يفضلون حمل هاتف ذكي أو كمبيوتر لوحي بدلاً من الكتاب"، إضافة إلى ميزات عدَّة، أهمها يسر النشر الإلكتروني مقارنةً بشروط النشر الورقي، وما سمَّاه "إجحاف الناشرين"، إلى جانب سرعة الانتشار، وتوزيع الكتاب، وتوسيع جغرافية القراءة.
لكنَّ هذه الأسباب التي دفعت بخيت إلى النشر الإلكتروني، ليست نفسها التي وقفت وراء قرار نور الدائم. فقد حاول الأخير نشر روايته ورقياً على مدى عام كامل من دون جدوى. "وجدتُ عقوداً مجحفة من بعض دور النشر العربية، وأخرى طالبتني بأن أتكفل بتسديد تكاليف النشر"، يقول نور الدائم لـ "العربي الجديد" حول هذه المسألة. ويواصل: "لم أفكر في دور النشر المحلية في السودان، إذ سيكون هدراً للزمن، ولديَّ تجربة معها عند محاولة نشر روايتي الأولى "قارعة الذات".
وهذا التحميل المجاني كان أيضاً الخيار الأول للقاص طلال الطيب، الفائز بالجائزة التقديرية في "مسابقة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة" لعام 2014. وقد نشر الطيب حتى الآن ثلاث مجموعات قصصيّة مجاناً على الشبكة الافتراضية، ويوضّح أن "تجربة نشر كتاب إلكتروني تجربة هادئة جداً. ليس هناك أموال تُصرف، ولا جهة رقابية ننتظر منها رخصة أو إشعاراً يسمح بالنشر والتداول".
ومع أن الطريقة التي اختارها الطيب "ليس فيها ربح مادي يدخل إلى جيب المؤلف"، كما يقول، لكنه يشير إلى أنه اتجه منذ البداية إلى النشر الإلكتروني ولم يهتم كثيراً بالنشر الورقي. وينوّه إلى ظروف النشر الصعبة حالياً في السودان، مضيفاً: "حتى الكتّاب الكبار لا ينجحون، عادة، في طباعة كتبهم".
وكان الروائيان عبد العزيز بركة ساكن وعماد البليك أتاحا، أخيراً، للقراء تنزيل أعمالهما السردية مجاناً من الشبكة بصيغة PDF. إلّا أن هذه الروايات منشورة في الأصل ورقياً، وجاءت إتاحتها إلكترونياً بهدف تحقيق انتشار أوسع في السودان وخارجها. كما أنها طريقة لتفادي عقبات الحظر والمصادرة، مثلما حدث لأعمال بركة ساكن التي سُحبت من "معرض الخرطوم الدولي للكتاب" في عدة دورات (2005 ـ 2010 ـ 2012)، ما يجعل من توفّرها على الشبكة فرصة للقارئ السوداني للاطلاع عليها.
وبالنسبة إلى بركة ساكن، فإن ميزات الكتاب الإلكتروني، التي يجملها في "عبوره فوق أنف الرقابة، وسهولة وصوله إلى القراء ومجانيته"؛ لا تجعله يغض الطرف عن جانب آخر لمسه من تجربته، وهو أن التخريب يطال الكتاب الإلكتروني بسهولة. يقول بركة لـ "العربي الجديد": "الآن توجد نسخ من رواياتي عبارة عن مسخ، سيئة الإعداد والإخراج، بعضها، حتى أنا كاتبها، لا أستطيع قراءته، وبعضها مسودات أولية لروايات". ويخلص بركة إلى أن "النشر الإلكتروني ليس سهلاً ولا يعدّ تجاوزاً لصعوبات النشر الورقي، كما يبدو".
ورغم الصورة القاتمة التي تظهر لدى النظر إلى واقع النشر الأدبي في السودان، خصوصاً بالنسبة إلى الأسماء الجديدة؛ إلا أن النشر الإلكتروني يعاني أيضاً من معوقات لا تزال تدفع في اتجاه ضعف أو انعدام المردود التجاري. وفي حال كانت هذه التجارب بدايةً لاندفاع عشرات الكتّاب، ممن يواجهون مشاكل تحول دون وصول أعمالهم للقراء؛ نحو هذا الباب في مقبل الأيام؛ لكن النشر الإلكتروني أيضاً ليس ضامناً لانتشار الكتاب، إذ تبدو القراءة الإلكترونية محدودة حتى الآن، وقلما يشتري القارئ الكتاب رقمياً، بل يفضل تحميله مجاناً من إحدى المواقع.
أما خارج الخرطوم، فيبدو الوضع أكثر حلكة، كما يصفه بركة، حيث "تندر خدمة الإنترنت الجيدة ذات السرعة المناسبة للتحميل، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى ندرة الوسائط التي تعتمد على جودة خدمات الاتصال، مثل الحواسيب والهواتف الذكية. لذا لا يمكن أن يغطي النشر الإلكتروني الحاجة إلى الكتاب الورقي، فهو ليس متاحاً للجميع".
سؤال الرقابة الذي أشار إليه بركة ساكن، ربما كان دافعاً آخر أسهم في جعل نور الدائم يوجّه أنظاره صوب النشر الإلكتروني، إذ إن روايته الأولى، "قارعة الذات" (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013) كانت قد منعت "هيئة المصنفات الأدبية" في السودان تداولها "لما تضمنته من مساس بالأخلاق والأعراف"، بحسب تصريح سابق من أحد مقيّمي الهيئة لـ "الجزيرة نت"، رغم أنه امتدح في التصريح نفسه اللغة "الممتازة" للرواية، ووصف كاتبها بأنه "أديب متمكن". وإضافة إلى نشاطه السردي المستمر في الصحف والمواقع، ينشر نور الدائم حالياً، في ما يبدو أنه انحياز آخر للنشر الإلكتروني، روايةً جديدة على شكل فصول في مدونته، وصفحته على "فيسبوك".
ورغم التقدير الذي تجده أعمال نور الدائم في الأوساط الأدبية السودانية، وهو ما انعكس في تقرير هيئة المحكمين لـ"جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي" لعام 2013، الذي امتدح رواية "الفاني" ووصفها بـ"الجدة والجرأة والحداثة"، وبأنها "محمّلة بالدلالات العميقة والإشارات الذكية"؛ إلا أن كل ذلك لم يشفع لها في الحصول على فرصة للنشر الورقي، مثلها مثل عشرات من أعمال الشباب التي ظلت حبيسة الأدراج في انتظار الفرصة.
على أمل أن تفتح تجربة الفاروق، وقبله حامد بخيت وطلال الطيب، درباً جديداً يكون متنفَّساً لأدب ما زال يدفع فاتورة المزاج السياسي.
Comments
Post a Comment