السودان يختبئ طي اللسان
أسبابٌ كثيرة، على رأسها الإسلام، والتجارة، ودعم الدولة؛ مكّنت اللغة
العربية تاريخياً من أن تصير لغة التواصل الأولى بين سكان السودان الذين
يتكلمون لغات أخرى مختلفة. فإضافة إلى كونها اللغة الرسمية في البلاد، ما
يعني أنها لغة التعليم والمعاملات؛ نجد أن العربية تأخذ أيضاً حيّزها كأداة
تواصل بين متكلمي اللغات الأخرى من الأميين، وأولئك الذين يعيشون في هامش
الحياة بعيداً عن الدولة ومعاملاتها.
هذا الحضور اللصيق والقديم للغة العربية، أفرز تأثيرات مختلفة على الكثير من اللغات المحلية، مكتوبة وشفهية على السواء، لكنه كذلك أدى إلى تأثيرات متفاوتة لتلك اللغات، على اللغة العربية في السودان، ما جعلها تتميّز بكثير من الخصائص الفريدة.
مقايضات لغوية
تأخذ اللغة النوبية النصيب الأكبر والأوضح في التأثير على العربية السودانية، بحكم المعايشة الطويلة بينهما منذ اتفاقية البقط بين النوبة والمسلمين عام 651 ميلادي، وحتى سقوط آخر الممالك النوبية على يد التحالف العربي الأفريقي عام 1504. ولم يقتصر أثر اللغة النوبية على رفد العربية بكثير من المفردات، بل تعداه إلى التأثير على تركيب الجملة في اللغة العربية السودانية العامية، مثلما يقول الباحث في اللغة النوبية صابر عابدين، الذي أعطى مثالاً للأمر بإضافة (باء المضارع) النوبية إلى الأفعال في عربية السودانيين الدارجة حتى اليوم، وغيره من الأمثلة.
كذلك يجد من يحصي المفردات النوبية في اللسان العربي السوداني، أن كماً هائلاً من أسماء أدوات الزراعة والأدوات المنزلية والأماكن الجغرافيِّة وطقوس العبور من زواج وختان وولادة، هي نوبية، بل إن أسماء الكثير من القبائل العربية في السودان، هي نوبية كما يذهب إلى ذلك صابر عابدين.
وقام الباحث المعروف في اللغويات والفولكلور ميرغني ديشاب بتصنيف
كتابين، يبين فيهما أثر النوبية على اللغة العربية في السودان، أحدهما
"النوبية في عامية السودان العربية" (الخرطوم 2012)، والثاني "النوبية في
شعر بوادي السودان" "الخرطوم 2012". لكن أيضاً لا يمكن إهمال اقتراض
النوبية من العربية. فكما يقول الدكتور محمد جلال هاشم وهو أستاذ جامعي له
مؤلفات في اللغويات: "معروف في اللغات اقتراضها من بعضها البعض في مجال
المفردات، وقد اقترضت اللغة النوبية الكثير من المفردات من اللغة العربية".
حين النظر إلى نسبة المتكلمين بالعربية كلغة أم في السودان، لا نجدها نسبة غالبة في ظل وجود لغات قوية وراسخة، مثل النوبية (شمال)، والبداويت (شرق السودان)، ولغات الفور والزغاوة والهوسا والنوبة (غرب وجنوب غرب السودان)، ثم لغات منطقة النيل الأزرق الغنية (جنوب السودان)، وأكثر من (300) لغة أخرى. إذ ينحصر المتكلمون بالعربية كلغة أم في الوسط النيلي وكردفان، جنباً إلى جنب عدد مقدَّر من المتكلمين بغيرها من سكان تلك المناطق. وهو ما يفسر كثافة المفردات والتعابير والتراكيب في عربية السودان المقترضة من اللغات السودانية الأخرى نتيجة للتبادل الجدلي بينها. فما يمنح العربية الغلبة ـ كما أشرنا ـ هو تبوؤها لأسباب حضارية كثيرة مقعد لغة التواصل بين متحدثي اللغات المختلفة، ويأتي الإسلام في مقدمة هذه الأسباب. يقول عصام عبد الله علي المتخصص في اللغات الأفريقية، في كتابه "لغة الزغاوة" (الخرطوم 2011) إن "الزغاوة مسلمون، والعربية لغة القرآن، فمن الطبيعي أن يكتسبوا اللغة العربية للأغراض الدينية بجانب لغتهم الأم".
حقل قديم بلا فلاحة
من يتتبع أثر لغات السودان الأفريقية على اللغة العربية، ربما يدهشه الكم الهائل من المفردات التي تحويها، وقد تزيد دهشته أيضاً حين يتعقّب أثر العربية، كذلك، في تلك اللغات. وهو ما جعل باحثاً مثل أحمد صادق، الأستاذ الجامعي المتخصص في علم اللغة الاجتماعي والسياسي، يقول إن عربية أهل السودان بلهجاتها المختلفة، الريفية منها والحضرية: "تتميز بثراء لا مثيل له"، يرى أنه نتج من التفاعل بينها وبين الكثير من اللغات المحلية على مدى سنوات طويلة. وهو ذات ما يؤكد عليه ميرغني ديشاب بقوله: "إن العرب الوافدين إلى السودان لم يجدوا بدّاً من اقتراض ما ليس في لغتهم من اللغات المحلية، خصوصاً في مجال الزراعة".
ويبدو أن تميز عربية السودان كان عرضة للملاحظة منذ وقت مبكر، إذ يشير أحمد صادق إلى أن "أول من لفت الأنظار إلى تميّز لهجات السودان العربية، في مطالع القرن الماضي، كان رجل السياسة الكولونيالية البريطاني "إيمري"، في عام (1911)، والمستعرب هللسون الذي ألف كتابين عن التأثير المتبادل بين اللغة العربية واللغات القومية في السودان (1925-ـ 1927)".
لكن رغم هذا الاهتمام المبكر من المستشرقين يظل حقل البحث هذا بكراً لدى أصحابه، ولا يزال ينتظر فلاحتهم.
هذا الحضور اللصيق والقديم للغة العربية، أفرز تأثيرات مختلفة على الكثير من اللغات المحلية، مكتوبة وشفهية على السواء، لكنه كذلك أدى إلى تأثيرات متفاوتة لتلك اللغات، على اللغة العربية في السودان، ما جعلها تتميّز بكثير من الخصائص الفريدة.
مقايضات لغوية
تأخذ اللغة النوبية النصيب الأكبر والأوضح في التأثير على العربية السودانية، بحكم المعايشة الطويلة بينهما منذ اتفاقية البقط بين النوبة والمسلمين عام 651 ميلادي، وحتى سقوط آخر الممالك النوبية على يد التحالف العربي الأفريقي عام 1504. ولم يقتصر أثر اللغة النوبية على رفد العربية بكثير من المفردات، بل تعداه إلى التأثير على تركيب الجملة في اللغة العربية السودانية العامية، مثلما يقول الباحث في اللغة النوبية صابر عابدين، الذي أعطى مثالاً للأمر بإضافة (باء المضارع) النوبية إلى الأفعال في عربية السودانيين الدارجة حتى اليوم، وغيره من الأمثلة.
كذلك يجد من يحصي المفردات النوبية في اللسان العربي السوداني، أن كماً هائلاً من أسماء أدوات الزراعة والأدوات المنزلية والأماكن الجغرافيِّة وطقوس العبور من زواج وختان وولادة، هي نوبية، بل إن أسماء الكثير من القبائل العربية في السودان، هي نوبية كما يذهب إلى ذلك صابر عابدين.
حين النظر إلى نسبة المتكلمين بالعربية كلغة أم في السودان، لا نجدها نسبة غالبة في ظل وجود لغات قوية وراسخة، مثل النوبية (شمال)، والبداويت (شرق السودان)، ولغات الفور والزغاوة والهوسا والنوبة (غرب وجنوب غرب السودان)، ثم لغات منطقة النيل الأزرق الغنية (جنوب السودان)، وأكثر من (300) لغة أخرى. إذ ينحصر المتكلمون بالعربية كلغة أم في الوسط النيلي وكردفان، جنباً إلى جنب عدد مقدَّر من المتكلمين بغيرها من سكان تلك المناطق. وهو ما يفسر كثافة المفردات والتعابير والتراكيب في عربية السودان المقترضة من اللغات السودانية الأخرى نتيجة للتبادل الجدلي بينها. فما يمنح العربية الغلبة ـ كما أشرنا ـ هو تبوؤها لأسباب حضارية كثيرة مقعد لغة التواصل بين متحدثي اللغات المختلفة، ويأتي الإسلام في مقدمة هذه الأسباب. يقول عصام عبد الله علي المتخصص في اللغات الأفريقية، في كتابه "لغة الزغاوة" (الخرطوم 2011) إن "الزغاوة مسلمون، والعربية لغة القرآن، فمن الطبيعي أن يكتسبوا اللغة العربية للأغراض الدينية بجانب لغتهم الأم".
حقل قديم بلا فلاحة
من يتتبع أثر لغات السودان الأفريقية على اللغة العربية، ربما يدهشه الكم الهائل من المفردات التي تحويها، وقد تزيد دهشته أيضاً حين يتعقّب أثر العربية، كذلك، في تلك اللغات. وهو ما جعل باحثاً مثل أحمد صادق، الأستاذ الجامعي المتخصص في علم اللغة الاجتماعي والسياسي، يقول إن عربية أهل السودان بلهجاتها المختلفة، الريفية منها والحضرية: "تتميز بثراء لا مثيل له"، يرى أنه نتج من التفاعل بينها وبين الكثير من اللغات المحلية على مدى سنوات طويلة. وهو ذات ما يؤكد عليه ميرغني ديشاب بقوله: "إن العرب الوافدين إلى السودان لم يجدوا بدّاً من اقتراض ما ليس في لغتهم من اللغات المحلية، خصوصاً في مجال الزراعة".
ويبدو أن تميز عربية السودان كان عرضة للملاحظة منذ وقت مبكر، إذ يشير أحمد صادق إلى أن "أول من لفت الأنظار إلى تميّز لهجات السودان العربية، في مطالع القرن الماضي، كان رجل السياسة الكولونيالية البريطاني "إيمري"، في عام (1911)، والمستعرب هللسون الذي ألف كتابين عن التأثير المتبادل بين اللغة العربية واللغات القومية في السودان (1925-ـ 1927)".
لكن رغم هذا الاهتمام المبكر من المستشرقين يظل حقل البحث هذا بكراً لدى أصحابه، ولا يزال ينتظر فلاحتهم.
Comments
Post a Comment