سعودي..
صورة مقطعية لحزن مركَّب، أو يا زمناً بالغَ الوسامةْ! [1من2]
"كنَّا إشتراكيين بفطرة سودان فسيح، ومن فضل بيوت تسع فُتؤوي غرباء حتى يغدوا أهلاً وأقارب، متحدرين من أسلاف مغامرين يحدوهم كرم الروح إلى إرتياد فضاءات جديدة"
(خديجة صفوت: رحلة فتاة سودانية إلى الصين 1966. دار السويدي، أبو ظبي، 2006)
(1)
وبصدق وفخر بالغ أقول في مقام الإعتبار هذا، أني لجد فخور..!
وليس عندي سوى الفخر، والفخر والفخر.. ما أستطعتُ وما وَسِعْ
وهو قول عزيز لمن خبر الموت باكراً وكثيراً.. عميقاً، كأفدح ما يكون، ذاك أن إستطبت زمناً كثيراً عدم الحديث عن والدي "إبراهيم عبد الله" من فرط حنق على موته كان إلى القريب، كظيماً في جوفي –وأستغفر الله العظيم- إلى أن يسرت الخطى في دربي من قالت وأفهمتني بألا سبيل أمامي، إزاء الفقدان الذي أحمل وأرى، إلا الفخر بحياته والعطاء الذي بذل..
الآن أقول.. أني أيضاً فخور يا "سعودي دراج"..
(2)
"ينبغي على علماء الإجتماع أن ينظروا إلى التنمية على أنها تعني إطلاق طاقات السكان في سعيهم نحو حياة أفضل" (عبد الغفار محمد أحمد: في تاريخ الأنثروبولوجيا والتنمية في السودان. مركز البحوث العربية، القاهرة، 2002)
بداية أعلن صراحة بأنها محاولة بائسة لمقارعة غيمة من الحزن تظلل سماوات روحي، وتثقل عليَّ، فعذراً على (الإرتباك) هذا..
وبالطبع عرفت الرجل قبل أن أراه، فهو جزء من التاريخ العريض لنضالات شعبنا الباسلة، منذ النهوض ضد الإستعمار، مروراً بعبء تأسيس الدولة الوطنية، ومقارعة النيوكولونيالية التي تسورت بلدان القارة في عقابيل إستقلالاتها، من الأبواب الخلفية، وبمارشات العسكرتارية العميلة، ضد إرادة جماهير الشعوب. في صفوف الحزب الشيوعي كان منذ مهاده الأول، وعبر كافة مراحله، قابضاً على الجمرات، متقدماً ومنخرطاً وملتحماً مع الصفوف العريضة، والأوجه التي تلفحها سمرة شاحبة من نير الظلم والإستغلال. نقابياً وسياسياً، في سفره الخالد الرشيق الذي قدمه في تاريخ العمل النقابي في السودان.
فهو من أجيال ربما عبَّرت عن بعض نماذجها البروفيسور والكاتبة "خديجة صفوت"، حينما تحدث عن منابع نشأتها الروحية والفكرية:
"وأنا أحلم أن أجوب المسافات والأدغال وفوق ظهري كل ما أملك في حقيبة "جوجو" أو ما يسمى اليوم بــ"الروك ساك" Rock sack. وبقيت أحلم بالإلتحاق بمسيرة ثورات كبرى وقبل الثورة الكوبية وإطلالة وجه جيفارا النبيل الجميل مضيئاً سماء النزوع إلى عالم أفضل. كانت ثورة البرازيل يقودها جورج أمادو قد ملأت جوانحنا بالأمل في عالم خال من اللئام، رحت أمنِّي النفس –وكنت في الثالثة عشر- بالإنخراط في حرب تحرير. فركضت خلف الثورات وزرت مناطق أفريقيا البرتقالية المحرَّرة وإنخرطت ببعضها غب أزمنة الثورة من موزامبيق والجزائر وزيمبابوي إلى فلسطين والجزائر ونيكاراجوا نشداناً لحلم بناء الأساس المادي لحياة أفضل".
نعم كان "سعودي دراج" السكة التي تمضي دوماً وأبداً في إتجاه بناء حياة أفضل.. بالتأكيد!
وأعتقد بأن الرسل غير الواجب معرفتهم
أكثر مما يبدو.. ربما
إنما.. أجمل مما نعلم..!
(3)
هو العامل والنقابي والسياسي والمتفرغ الحزبي، المثابر على حرفة الكتابة. بحرفة ودراية تعي إقتصاد الحرف السياسي، مناقشاً وطارحاً للرأي، وأجمل من ذلك، حضوره في الجنس الكتابي الموسوم بـ(أدب الأخوانيات) وفي جانب نادر "أخوانيات سياسية"، وهي ميزة علها تعود إلى خصلة راسخة في الرجل: دماثة الخلق ولطفه. وتبرز تلك في حيز تعقيبه –وفي منتصف حلقات النشر- على مذكرات رفيق دربه المناضل الوطني الراحل "التجاني الطيب بابكر" المعنونة "نفي الشيوعيين إلى ناقيشوط" بجريدة (الميدان). في مشهد إستعادة أدبية فخمة لجنس أدب "الأخوانيات السياسية" في حقل الكتابة الأدبية المعاصرة، وهو ضرب من الأدب، شحيح لا يزال، ونفتقد! ولكأنهما "تجاني" و"سعودي" في تلك اللحظة، وبعد مرور خمسين عاماً، من الرفقة النضالية، بإشراقاتها وآمالها وخيباتها وتضحياتها العظيمة، وكـ"أفندية مضادين" إنتسبوا طوعاً في سلك الشعب والثورة، وكانوا بعضهم بعضاً ولكأنهم الساعد واليد، الجبين وحبات العرق، أو كما قال "أوكوت ببسيتاك": "أجبرهم أن يتجمعوا لبناء برج، فهكذا تصنع منهم إخوة، ولكن إذا أردتم أن يكرهوا بعضهم بعضاً، إِرم الطعام فيما بينهم. إن الحضارة مصنوعة مما هو مطلوب من الرجال، وليس مما يقدم لهم.." (بيتر أدوك نيابا: سياسة التحرير في جنوب السودان-نظرة مطَّلع. مركز عبد الكريم ميرغني، الخرطوم، 2005).
(4)
ولا من تلك (الأخوانيات) وحدها ينفتح قوس الفنان "سعودي دراج" في تاريخ الأغنية السودان(!) إنما من هلال عريض يمتد وينحني ويحتضن تاريخاً آخر، وحقلاً للصراع، بمستوياته المتعددة، وساحة للخلق الفني في تجربة فنون السودانيين الموسيقية، هو الهلال الذي يحتوي أسماء: عثمان ألمو، وأحمد مرجان، وبدر الدين عوض، وعبد الفتاح الله جابو، وشرحبيل أحمد، وعمر عبده، وسعودي دراج، ووليم أندريا وعبد الله دينق وأحمد تاور.. و.. و... إلى آخر قواميس "فرق الجاز" أو "فرق الغناء الحديث" بعبارة أخرى، إذ يكفي أن نشير إلى أن معادلة تلك التجربة، خارج النطاق الحلقي للفنون المسموعة، تكفي لتشير إلى أنها تعبير عن ذائقة ووجدان تلقي خارج نطاق الأغنية التي تبلورت عبر محطاتها التاريخية المتعاقبة من هداي وطمبرة وحقيبة وحديثة في النسق المسمى أذاعة أم درمان، شكلاً ومضموناً، حيث إستندت فرق الجاز على بعض إرث الموسيقى العسكرية، فصارت تعتمد آلات النفخ النحاسية والصاجات وبعدها الدرمس، والآلات الكهربائية، مقابل النسق الأوركسترالي المعلوم لفرقة الإذاعة، ومن قبل مناخاتها وأمزجتها اللحنية وقوالبها المعتمدة وأفلاكها الشعرية، والتي بطبيعة الحال تعبر عن مزاج طبقي محدد وفئات محددة –حتى لو كانت أغلبية!- الأمر الذي يقع في معترك الصراع الإجتماعي في السودان.
فكانت مماثلة في نهضتها لنهضة موسيقى الجاز في حقول القطن بـ"نيوأورليانز" بالولايات المتحدة الأمريكية وسط فئات المستعبدين السود، فجاءت بدايات فرق الجاز في مناخ إجتماعي معلوم الموقع في سلم التراتب الطبقي الذي كان، ولا يزال [والله أعلم!]. أو على أقل تقدير نهضت فرق الجاز كـ(حركة مقاومة) فنية ضد "السائد" و"المسيطر"؛ وسرعان ما لبثت عبر النضال الدؤوب والمقاتل، أن إنداحت وتخلخلت مفاصل وأنحاء المشهد الإجتماعي في حواضر وبنادر البلاد المختلفة، إلى أن نالت حظها في أعلى الوجدان الجمعي للذاكرة السودانية "حاجة كولن كولن".. "ما نسونا".. "كفاية مزاح".. "ياي بلدنا وكلنا كاكوا"، وغيرها.
هنا ينتصب شاهد القبر، عالياً في صدر الريح، يتحدى الأبد:
هنا يرقد مناضل حقيقي من رواد فرق الجاز...
(*) يا ريت يوم د. علي نور الجليل، الجراح الأشهر والموسيقي، لو كتب عن تجربة الجاز، ووثق لتجربة، وضمناً شخوصها الأقرب.. يا ريت.. يا ريت.
(5)
ربما يندهش الكثيرون من الأجيال اللاحقة، إن علموا بأن الراحل "سعودي دراج" كان لاعب كرة قدم من طراز فريد، عرفه الليق ودار الرياضة، وأكثر من ذلك، كان حراس الهلال والمريخ والنيل والتاج وغيرها من فرق الدرجة الأولى، يرهبون جداً أهدافه، وأذكر بأنني طالعت خبراً أرشيفياً عن مباراة أقيمت بسنوات الخمسينيات من القرن المنصرم، منشور بـ(الأيام) عن هزيمة الهلال (2/1) أحرزهما "فلان" وسعودي دراج..!
وأكتفي بهذا الهامش بأن سعودي يتمثل هنا كلمة الـ"الزمن الجميل" فعلاً لا مجازاً بالنسبة لـ"ديمقراطية وأهلية الحركة الرياضية" ولتاريخ لعبة كرة القدم في الخرطوم بحري، إن لم نقل السودان ككل!
(6)
وتبقى جوانب كثر، وما كتبه ليس بأكثر من نقطة من محيط متكامل، متفرد، في مقام جمعة بحري الحزينة، ألا حزن هنا، فراحلنا العزيز، لم يترك واجباً، أو بذلاً، لم يقدمه، كأجمل وأنقى ما يكون ويرام، وليس هنا للحزن من متسع سوى الفقدان ومرارات العبور.. وتحتاج لشغل توثيقي بصرامة أكاديمية تشتغل على تجربة حياة عبقرية العطاء، ومتعددة الأوجه والمستويات: سياسياً وفكرياً وفنياً ورياضياً وإجتماعياً..إلخ نسيج الراحل المتعدد، كسودانه الذي هوى، وعشقْ.
وللحق والأمانة..
فخورين جداً يا "سعودي دراج".. وإن إنطفأ الســراجْ!
فبمثلك تتباهى الشعوب.. تفتخر
(ويتواصل نداك فينا)..
صورة مقطعية لحزن مركَّب، أو يا زمناً بالغَ الوسامةْ! [1من2]
"كنَّا إشتراكيين بفطرة سودان فسيح، ومن فضل بيوت تسع فُتؤوي غرباء حتى يغدوا أهلاً وأقارب، متحدرين من أسلاف مغامرين يحدوهم كرم الروح إلى إرتياد فضاءات جديدة"
(خديجة صفوت: رحلة فتاة سودانية إلى الصين 1966. دار السويدي، أبو ظبي، 2006)
(1)
وبصدق وفخر بالغ أقول في مقام الإعتبار هذا، أني لجد فخور..!
وليس عندي سوى الفخر، والفخر والفخر.. ما أستطعتُ وما وَسِعْ
وهو قول عزيز لمن خبر الموت باكراً وكثيراً.. عميقاً، كأفدح ما يكون، ذاك أن إستطبت زمناً كثيراً عدم الحديث عن والدي "إبراهيم عبد الله" من فرط حنق على موته كان إلى القريب، كظيماً في جوفي –وأستغفر الله العظيم- إلى أن يسرت الخطى في دربي من قالت وأفهمتني بألا سبيل أمامي، إزاء الفقدان الذي أحمل وأرى، إلا الفخر بحياته والعطاء الذي بذل..
الآن أقول.. أني أيضاً فخور يا "سعودي دراج"..
(2)
"ينبغي على علماء الإجتماع أن ينظروا إلى التنمية على أنها تعني إطلاق طاقات السكان في سعيهم نحو حياة أفضل" (عبد الغفار محمد أحمد: في تاريخ الأنثروبولوجيا والتنمية في السودان. مركز البحوث العربية، القاهرة، 2002)
بداية أعلن صراحة بأنها محاولة بائسة لمقارعة غيمة من الحزن تظلل سماوات روحي، وتثقل عليَّ، فعذراً على (الإرتباك) هذا..
وبالطبع عرفت الرجل قبل أن أراه، فهو جزء من التاريخ العريض لنضالات شعبنا الباسلة، منذ النهوض ضد الإستعمار، مروراً بعبء تأسيس الدولة الوطنية، ومقارعة النيوكولونيالية التي تسورت بلدان القارة في عقابيل إستقلالاتها، من الأبواب الخلفية، وبمارشات العسكرتارية العميلة، ضد إرادة جماهير الشعوب. في صفوف الحزب الشيوعي كان منذ مهاده الأول، وعبر كافة مراحله، قابضاً على الجمرات، متقدماً ومنخرطاً وملتحماً مع الصفوف العريضة، والأوجه التي تلفحها سمرة شاحبة من نير الظلم والإستغلال. نقابياً وسياسياً، في سفره الخالد الرشيق الذي قدمه في تاريخ العمل النقابي في السودان.
فهو من أجيال ربما عبَّرت عن بعض نماذجها البروفيسور والكاتبة "خديجة صفوت"، حينما تحدث عن منابع نشأتها الروحية والفكرية:
"وأنا أحلم أن أجوب المسافات والأدغال وفوق ظهري كل ما أملك في حقيبة "جوجو" أو ما يسمى اليوم بــ"الروك ساك" Rock sack. وبقيت أحلم بالإلتحاق بمسيرة ثورات كبرى وقبل الثورة الكوبية وإطلالة وجه جيفارا النبيل الجميل مضيئاً سماء النزوع إلى عالم أفضل. كانت ثورة البرازيل يقودها جورج أمادو قد ملأت جوانحنا بالأمل في عالم خال من اللئام، رحت أمنِّي النفس –وكنت في الثالثة عشر- بالإنخراط في حرب تحرير. فركضت خلف الثورات وزرت مناطق أفريقيا البرتقالية المحرَّرة وإنخرطت ببعضها غب أزمنة الثورة من موزامبيق والجزائر وزيمبابوي إلى فلسطين والجزائر ونيكاراجوا نشداناً لحلم بناء الأساس المادي لحياة أفضل".
نعم كان "سعودي دراج" السكة التي تمضي دوماً وأبداً في إتجاه بناء حياة أفضل.. بالتأكيد!
وأعتقد بأن الرسل غير الواجب معرفتهم
أكثر مما يبدو.. ربما
إنما.. أجمل مما نعلم..!
(3)
هو العامل والنقابي والسياسي والمتفرغ الحزبي، المثابر على حرفة الكتابة. بحرفة ودراية تعي إقتصاد الحرف السياسي، مناقشاً وطارحاً للرأي، وأجمل من ذلك، حضوره في الجنس الكتابي الموسوم بـ(أدب الأخوانيات) وفي جانب نادر "أخوانيات سياسية"، وهي ميزة علها تعود إلى خصلة راسخة في الرجل: دماثة الخلق ولطفه. وتبرز تلك في حيز تعقيبه –وفي منتصف حلقات النشر- على مذكرات رفيق دربه المناضل الوطني الراحل "التجاني الطيب بابكر" المعنونة "نفي الشيوعيين إلى ناقيشوط" بجريدة (الميدان). في مشهد إستعادة أدبية فخمة لجنس أدب "الأخوانيات السياسية" في حقل الكتابة الأدبية المعاصرة، وهو ضرب من الأدب، شحيح لا يزال، ونفتقد! ولكأنهما "تجاني" و"سعودي" في تلك اللحظة، وبعد مرور خمسين عاماً، من الرفقة النضالية، بإشراقاتها وآمالها وخيباتها وتضحياتها العظيمة، وكـ"أفندية مضادين" إنتسبوا طوعاً في سلك الشعب والثورة، وكانوا بعضهم بعضاً ولكأنهم الساعد واليد، الجبين وحبات العرق، أو كما قال "أوكوت ببسيتاك": "أجبرهم أن يتجمعوا لبناء برج، فهكذا تصنع منهم إخوة، ولكن إذا أردتم أن يكرهوا بعضهم بعضاً، إِرم الطعام فيما بينهم. إن الحضارة مصنوعة مما هو مطلوب من الرجال، وليس مما يقدم لهم.." (بيتر أدوك نيابا: سياسة التحرير في جنوب السودان-نظرة مطَّلع. مركز عبد الكريم ميرغني، الخرطوم، 2005).
(4)
ولا من تلك (الأخوانيات) وحدها ينفتح قوس الفنان "سعودي دراج" في تاريخ الأغنية السودان(!) إنما من هلال عريض يمتد وينحني ويحتضن تاريخاً آخر، وحقلاً للصراع، بمستوياته المتعددة، وساحة للخلق الفني في تجربة فنون السودانيين الموسيقية، هو الهلال الذي يحتوي أسماء: عثمان ألمو، وأحمد مرجان، وبدر الدين عوض، وعبد الفتاح الله جابو، وشرحبيل أحمد، وعمر عبده، وسعودي دراج، ووليم أندريا وعبد الله دينق وأحمد تاور.. و.. و... إلى آخر قواميس "فرق الجاز" أو "فرق الغناء الحديث" بعبارة أخرى، إذ يكفي أن نشير إلى أن معادلة تلك التجربة، خارج النطاق الحلقي للفنون المسموعة، تكفي لتشير إلى أنها تعبير عن ذائقة ووجدان تلقي خارج نطاق الأغنية التي تبلورت عبر محطاتها التاريخية المتعاقبة من هداي وطمبرة وحقيبة وحديثة في النسق المسمى أذاعة أم درمان، شكلاً ومضموناً، حيث إستندت فرق الجاز على بعض إرث الموسيقى العسكرية، فصارت تعتمد آلات النفخ النحاسية والصاجات وبعدها الدرمس، والآلات الكهربائية، مقابل النسق الأوركسترالي المعلوم لفرقة الإذاعة، ومن قبل مناخاتها وأمزجتها اللحنية وقوالبها المعتمدة وأفلاكها الشعرية، والتي بطبيعة الحال تعبر عن مزاج طبقي محدد وفئات محددة –حتى لو كانت أغلبية!- الأمر الذي يقع في معترك الصراع الإجتماعي في السودان.
فكانت مماثلة في نهضتها لنهضة موسيقى الجاز في حقول القطن بـ"نيوأورليانز" بالولايات المتحدة الأمريكية وسط فئات المستعبدين السود، فجاءت بدايات فرق الجاز في مناخ إجتماعي معلوم الموقع في سلم التراتب الطبقي الذي كان، ولا يزال [والله أعلم!]. أو على أقل تقدير نهضت فرق الجاز كـ(حركة مقاومة) فنية ضد "السائد" و"المسيطر"؛ وسرعان ما لبثت عبر النضال الدؤوب والمقاتل، أن إنداحت وتخلخلت مفاصل وأنحاء المشهد الإجتماعي في حواضر وبنادر البلاد المختلفة، إلى أن نالت حظها في أعلى الوجدان الجمعي للذاكرة السودانية "حاجة كولن كولن".. "ما نسونا".. "كفاية مزاح".. "ياي بلدنا وكلنا كاكوا"، وغيرها.
هنا ينتصب شاهد القبر، عالياً في صدر الريح، يتحدى الأبد:
هنا يرقد مناضل حقيقي من رواد فرق الجاز...
(*) يا ريت يوم د. علي نور الجليل، الجراح الأشهر والموسيقي، لو كتب عن تجربة الجاز، ووثق لتجربة، وضمناً شخوصها الأقرب.. يا ريت.. يا ريت.
(5)
ربما يندهش الكثيرون من الأجيال اللاحقة، إن علموا بأن الراحل "سعودي دراج" كان لاعب كرة قدم من طراز فريد، عرفه الليق ودار الرياضة، وأكثر من ذلك، كان حراس الهلال والمريخ والنيل والتاج وغيرها من فرق الدرجة الأولى، يرهبون جداً أهدافه، وأذكر بأنني طالعت خبراً أرشيفياً عن مباراة أقيمت بسنوات الخمسينيات من القرن المنصرم، منشور بـ(الأيام) عن هزيمة الهلال (2/1) أحرزهما "فلان" وسعودي دراج..!
وأكتفي بهذا الهامش بأن سعودي يتمثل هنا كلمة الـ"الزمن الجميل" فعلاً لا مجازاً بالنسبة لـ"ديمقراطية وأهلية الحركة الرياضية" ولتاريخ لعبة كرة القدم في الخرطوم بحري، إن لم نقل السودان ككل!
(6)
وتبقى جوانب كثر، وما كتبه ليس بأكثر من نقطة من محيط متكامل، متفرد، في مقام جمعة بحري الحزينة، ألا حزن هنا، فراحلنا العزيز، لم يترك واجباً، أو بذلاً، لم يقدمه، كأجمل وأنقى ما يكون ويرام، وليس هنا للحزن من متسع سوى الفقدان ومرارات العبور.. وتحتاج لشغل توثيقي بصرامة أكاديمية تشتغل على تجربة حياة عبقرية العطاء، ومتعددة الأوجه والمستويات: سياسياً وفكرياً وفنياً ورياضياً وإجتماعياً..إلخ نسيج الراحل المتعدد، كسودانه الذي هوى، وعشقْ.
وللحق والأمانة..
فخورين جداً يا "سعودي دراج".. وإن إنطفأ الســراجْ!
فبمثلك تتباهى الشعوب.. تفتخر
(ويتواصل نداك فينا)..
Comments
Post a Comment