وتمضي حكاية الفتي المجهول......................
1
من النافذة، في الطابق الخامس يبدو كل شيء جلياً لكنه ليس مكتملاً، فالناس الذين يسيرون في الشوارع لا يروون كل القصة، إنهم فقط يصنعون المقدمات أما القصص فهي مسؤوليتي أنا أشكّلها في دماغي المتوجع مع هذا الصباح. وأنا أقف وحيداً في انتظار أن تشرق الشمس لأراها وراء الجبل، أشعر كما لو أنني في مكان لا أنتمي له، أو في عالم آخر ليس له صلة بهذا الكوكب. ربما هي الغربة وجراحها كما يقولون وإن كنت مؤمناً أشد الإيمان أن الاغتراب الحقيقي يكون للذوات والأرواح وليس للأبدان والعلل الظاهرة من الأمور.
تاريخي القديم وإلى اللحظة ليس مهماً بدرجة كبيرة، لن أحكي عنه الكثير ولن أثرثر بشأنه سأترك كل شيء للظروف وللأوقات المناسبة، حتى لو أن هذه الكلمة تستفزني.. فالمناسب شيء غامض وغريب، صعب التحديد، هلامي. لندع كل ذلك ونركز.. أي أركز (أنا) في تأملاتي الصباحية، وأول خيوط النهار تنطلق بحياء تام، تدخل ناصية غرفتي المستطيلة، التي تتراكم فيها ذكرياتي الجديدة والقديمة، كتبي وأشيائي، وخرافاتي، وربما جنوني. لا أحد يتوقع كيف أعيش أو أصارع ما تبقى من عمري هنا، وأنا انتظر النهاية بهذا الداء اللعين، المؤلم والقاتل، فمنذ علمت بالخبر من ذلك الطبيب المتكرش وأنا لست حزيناً بقدر ما يشغلني هاجس أن أقوم بأمر ما، يكون له قيمة، ومن خلاله أعرف من أكون، أو يعرفني الناس من بعدي، إن مت. وحتماً سوف يكون ذلك قريباً جداً، فربما هو عام أو أقل تبقى لي.
ساعات أفكر في أن أنهي هذه الملهاة وأهرع سريعاً إلى عالمي الآخر، ماذا سأخسر، فأنا لست مؤمناً كما يجب. لكنني أيضا أخاف. تصارعني في الأحلام كائنات مجهولة وأشباح وزومبيات على شاكلة بشر، يمتصون دمي وينامون فوقي على أنني متحجر أو وسادة قطنية مبتلة في ليال حارة. هذه الكوابيس والتشرخات التي تحيط بي في الليل تجعلني غير واثق من المواجهة والمصير القادم، ما الذي يقبع وراء السرداب، إن مت اليوم معلقاً بحبل على السقف، أو تناولت تلك الأقراص التي اشتريتها ووضعتها منذ أيام في الخزانة وسط الأوراق والكتب في انتظار لحظة شجاعة. لكنني جبان. طيلة حياتي وأنا خاسر لا أعرف المواجهات ولا ابتكار اللحظات التي تصنع التحدي وتشكّل الإنسان الذي أحلم به. ربما كان ذلك تواضعاً مني. لكن ثمة أموراً أخرى يجب وضعها في الاعتبار، هي مخاوفي وظنوني، وكوني متقلب الفكر والبال، وأنني قبل كل شيء أجهل هدفي في هذا العالم، أسير بغير هوى. أنني بإختصار كائن وضيع.
منذ أن حللت هنا في هذه الغرفة التي تراكمت فيها الكتب واللوحات والصور والظلال القديمة لطفولة بائسة، وأنا أحاول أن أصنع لحياتي معنى في المتبقي لي من الوقت الضائع. فقد نصحني الطبيب بعدم اليأس وقال لي إن هناك من يتماثلون للشفاء فيما يشبه المعجزات، مؤكدا لي أن المعجزة موجودة في العالم وداخل كل إنسان لكن عليه أن يكتشفها ويستخرجها من باطنه مثل كنز مدفون في الأرض. كان طبيبي هندوسياً ينتمي لثقافة الهند العريقة، رجل له عينان قويتا النظرات، وكارفتة لها لون غريب يصعب أن اسميه، ربما لضعفي في تعريف الألوان رغم أنني أسمي نفسي رساماً في بعض الأحيان، وأنا الذي لم أقم ولو معرض واحد في حياتي. فاللوحات التي أرسمها غالباً هي لي وحدي وكثير منها ينتهي إلى التمزيق لجبني والخوف الذي يسكنني واغترابي الذاتي الذي لا أفهم مبرراته الحقيقية.
أجلس مقابله على الكرسي، يتكلم كثيراً بعربية ملكونة، يخلطها ببعض الإنجليزية بالطريقة الهندية، وقليل من الألفاظ والعبارات غير المفهومة بالنسبة لي، ربما لعدم الانتباه أو التركيز بدقة، وهي أفة أعاني منها منذ سنوات، أجهل أسبابها أيضا. يكلمني عن فلسفته حول المعجزات، وأنني يجب أن أتمسك بالأمل، وأن اقرأ كثيراً في مؤلفات وكتب سيقوم بتقديمها لي، موضوعها الأساسي ما يسمى بعلم الشفاء الذاتي أو التداوي بالإيحاء، يمضي في التعريف بذلك العلم ومن هم مؤسسيه وكيف يكون له أن يخلص الطب من عمليات جراحيات كثيرة تجرى بلا فائدة، فمن الممكن أن تكون الجراحة عملاً متوهماً له نتائج ناجحة. يحكي عن تجارب وقصص يقول إنها صحيحة مائة بالمائة ليس فيها أدنى تزييف تتعلق بهذا العلم القديم الذي أعيد اكتشافه في ثورة علوم جديدة في أواخر القرن الماضي، في اتجاه علمي لا يسميه، يشير إلى أنه موجود في الطب والعلوم عامة، يتعلق بالبحث عن الحلول البديلة والبسيطة والإيمان بأن المعجزة موجودة في داخلنا.
أخرج من عنده مصدقاً لكل ما قال، مشكلتي أنني أصدق، أعيش الأقوال وأؤمن بها ومن ثم أسرع لنفيها وركلها ساعة أجلس مع ذاتي وأواجهها بالنقد اللاذع، ذلك الذي أعجز عنه أمام الآخرين. لا أعرف أن أنقد شيئاً أو أهدم فكرة إلا في خيالي وفي الورق الذي أدمنت الجلوس معه منذ سنوات صباي، أكتب وأثرثر بما شئت وأمزقه في الغالب، مرات أحلم بأن أكون كاتباً كبيراً أو روائياً ومن ثم أتنازل عن حلمي لأنني ببساطة لا أقدر موهبتي، أو أنني أرى نفسي عاجزاً، وأن ملكاتي ليست كالآخرين الأذكياء والماهرين، يعني ببساطة أنني لا أثق في قدراتي، تلك أفة أخرى من آفاتي منذ سنوات بعيدة. كما أمزق اللوحات، أصبحت بعد أن صرت أكتب على الكمبيوتر مباشرة، أسرع لمحو الملف بعد أن أكون قد عبأت صفحات بيضاء بالكثير جداً من الكلام والقصص والحكايات، التي ربما لا أتذكر منها الآن ما أراه مهماً.
أهرع لدخول مكتبة في المول الكبير الواقع قريباً من غرفتي، حيث أسكن بالطابق الخامس في تلك البناية القديمة. أتحسس الكتب وأشمها مثل رائحة أنثى عبقة، كواحدة من النساء اللائي كن رفيقاتي في تلك الليالي القريبة جداً قبل أن أعرف بخبر هذا الداء اللعين. فمنذ أن جاء ذلك اليوم، وأنا لا أرغب في سوى نفسي، لا أنام مع أية امرأة ولا أدفع ريالاً واحداً لعاهرة في الليل، من أولئك القادمات من بلدان شرق آسيا، فهن من كن يستهوين روحي ويقتلن وحشتي، أتي بالواحدة منهن في غرفتي المكدسة بالأوراق والكتب والأقلام وأشرطة الكاسيت والأقراص المدمجة لمطربين غربيين، بالإضافة إلى اللوحات والألوان المترعة على الأرضية والشخبطات على الجدران وفي قلبي. أُرقدِها في أي ركن من الغرفة وأفرغ أوجاعي، أدفع لها الثمن ثم تمضي لحالها وفي اليوم الثاني أبحث عن أخرى من بلد آخر، متنقلاً في الجغرافية الآسيوية التي تستغويني منذ أن جئت هذا البلد.
أقرأ عنوان كتاب وآخر، وأعيده إلى مكانه بعد أن أتصفحه، أخيراً أقرر شراء خمسة من الكتب في ظل الموضوع الذي يراهن الطبيب الهندوسي أنه سوف يحقق لي المعادلة المفقودة إذا ما رغبت روحي حقاً وتوصلت لقناعة بأنني سأشفى فعلاً وإلا فلن يحدث أي تطور. كان يكرر لي بأن اليقين هو أول الخطوات باتجاه العلاج، ما سوى ذلك لن يكون أي أمل. يجب أن تتسلح بالجياشة الكاملة التي تقنعك أولاً بأنك سوف تكون أفضل في الفجر التالي. نم مبكراً وصلي بحسب معتقدك ولا تنسى أن تدعو الله أو الطبيعة أو الكون. نعم نادي ذلك المجهول والغامض فهو الذي يسمعك، فالديانات واحدة. الله واحد تتعدد الوسائل والطرق الموصولة إليه، غير أنه في النهاية هو الرب وهو المسيح وهو يهوه وهو النار المشتعلة في معبد في ليل بارد، هو الحيرة التي تسكن كل كائن ويبحث عن تفسير لها. الله ليس بعيداً عن الكل، عن الذات، هو في القلوب والأوردة يعيش، وقلة هي التي تكتشفه لأن الناس باتوا محجوبين بأغلفة وستر لانهائية، لأنهم خائفون يفتقدون للشجاعة، يهرعون للعمل ولعبادة المكاتب والمصانع والأرزاق، وينسون أن الله فيهم يقرر لهم. الله لا يحترم الخائفين ويحب الشجعان يا ابني.
يختلط علي ما اقرأه في الكتاب قبل أن أضعه في الكيس، مع ما سمعته من الطبيب الهندوسي مع تأملاتي كخائف يجب أن يكون شجاعاً ليبصر المعجزة ويشفى من داء لعين. وقبل أن أسدد فاتورة الحساب للجرسون في المطعم القائم بالطابق الميزانين من المول، أدفع بالفيزا كارد، أكون قد قررت فعلاً أن أقوم بأشياء مهمة تجعلني شجاعاً وقادراً على العيش بجرأة سواء تحققت المعجزة وشفيت أم لا.
Comments
Post a Comment