عبور الربيع، شكرا بوعزيزي
فتحي البحيري
- الانتحار جريمة وحرام، هذه قضية وفرضية أخلاقية ودينية نناقش بها أولئك الذين هم على قيد الحياة ونهيب بهم على أساسها أن لا يفعلوا مهما صار هذا الانتحار طريقا وحيدا للخروج من المآزق والانسدادات التي وضعناهم فيها. بيد أنه ليس من الدين ولا الأخلاق ولا المنطق أن نحكم بها على من انتحر بالإعدام من جديد أو بجهنم أو الأشغال الشاقة المؤبدة بداهة أن أي متهم بارتكاب أي جريمة يملك حق الدفاع عن نفسه ونفي الفعل أو التعمد أو القصدية العدوانية فيه والمنتحر غير قادر على هذه المرافعة. صحيح أنه قد نحاكم شخصا ما بالشروع في الانتحار لكن شتان ما بين القتل وبين الشروع فيه، وبين القتل الخطأ وذلك الذي يتم مع سبق الإصرار والترصد.
- هذه الخاطرة ضرورية جدا ً لأي تقييم شعبي لانتفاضات الربيع العربي التي بدأت ( وهل نقول انتهت؟) شعبية محضة، نقول تقييم شعبي لأهمية هذه المعرفة العامّوية في التفاعل النظري مع مجريات هذا الربيع. بافتراض أن الأدوات المعرفية التي تنتمي لحقول بعينها لا تملك بطبيعتها احتكار تحليل ما حدث وتفسيره، وباعتبار أن انتفاض الجماهير واستقبالها لهذا الانتفاض واستمرارها فيه مدا وجزرا لم يكن بمعزل عن طريقة عامة الناس في النظر للأمور والحكم على الأشياء والأفعال، وأن الأفعال وردات الأفعال المختلفة على تناقضها هي نتاج نهائي لهذا الفهم الشعبي في الغالب، وأن نسبة تأثير العوامل الأخرى –غير الشعبية المحضة – ضئيلة مقارنة بالاختيارات التي اتخذتها الجماهير في اللحظات المختلفة لمنحنى الثورة في أي منطقة من المناطق التي تأثرت بما عرف بالربيع العربي.
- والمقصود بتقييم شعبي هو النظر إلى مآلات الربيع العربي بعد أربعة سنوات من تفجره في تونس ومصر وبقية الدول العربية من وجهة نظر المعرفة الشعبية السطحية لماهية الدولة والثورة والدين والتغيير والمطالب وإلخ التي تنبني على المفاهيم الأولية المتفق عليها للمواطنة والعدالة والكفاية والحرية كأربع دعامات رئيسية للحراكات الشعبية ولأهدافها. بالتالي فإن الدولة هي الكيان الذي يتساوى فيه المواطنون حقوقا وواجبات وانتماء و(يتعين أن) يتقاسموا موارده ومقدراته المادية والمعنوية بعدالة وصولا للكفاية التي هي تلبية الاحتياجات الضرورية في حدودها الدنيا وللتمتع بحرية إشباع الذات وجودا وحياة وضميرا واعتقادا وتنظيما وتعبيرا إلخ.
- أشرقت المواطنة كفكرة مثل شمس باهرة بددت ظلامات واقع بائس فرضته حياة اجتماعية تقوم على التمييز أكثر مما تقوم على الانسانية والمساواة في المجتمعات العربية المختلفة، ففي كل مكان في المنطقة هنالك قوى ما تعتاش من تقسيم الناس على أسس اثنية أو مذهبية أو دينية أو حتى اجتماعية واقتصادية وطبقية. ومع تطور حركات الاحتجاج المختلفة ضد البطالة أو ضد الفساد أو ضد التوريث السياسي أو ضد القمع أو ضد الغلاء أو إلخ اتضح للعامّة التي تثور أو تلك التي تراقب الاحتجاج أن ما يجمع الناس في بلد واحد هو المواطنة التي هي المساواة "القديمة" مقتطعة على الناس اليشتركون في الانتماء لبلد معين. الناس سواسية كأسنان المشط ، نعم. لكنهم الآن سواسية في الحقوق والواجبات بشكل فعلي وقاطع في إطار هذه الدولة. الحقوق التي يأتي في مقدمتها الأمن والعيش الكفاف والواجبات التي يأتي في مقدمتها النضال المستميت ليستمتع كل المواطنين بهذا الأمن وهذا العيش الكفاف كطريق أوحد لبقاء الدولة ولاستقرارها على المدى الاستراتيجي .
- الذي حدث ضمنا بعد ذلك أن احساس عامة الناس بهذه المواطنة (والمتولد عن المشاركة في الاحتجاج أو مراقبته على الأقل )هو الذي قادهم لتفكيك وتحليل أهم شائبتين في معرفتهم الشعبية بخصوص موضوعتي السلطة والدين فصار الأمر الواقع الآن أنه يستحيل انفراد طبقة أو نخبة أو مجموعة بالسلطة وعسلها واختفت للأبد أحلام ومخاوف مثل استغلال وتسييل النفوذ والتوريث السياسي واستغلال الشعارات الدينية والمذهبية في الوصول للحكم والبقاء فيه، والبقاء في سدة السلطة مدى الحياة وغيرها من المفردات والمفاهيم التي كان الناس يعتقدون قبل 4 سنوات من الآن باستحالة اختفائها من المشهد.
- وإذا كانت الصورة بعد هذه السنوات الأربع أفضل نوعا ما في مصر وتونس فإنها تبدو مثيرة للوعة والإشفاق إن لم يكن اليأس في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان، بيد أننا إذا تأملنا نجد أن ما يحدث في هذه الدول الخمس هو أمر واحد في جوهره وبرعاية "عظمى" واحدة مهما اختلفت أشكاله وألوانه، ألا وهو المحاولة اليائسة المستميتة لخنق فكرة المواطنة ووأد شمسها في أذهان الناس ومشاعرهم باستثارة قصوى للاستقطابات الدينية والمذهبية والاثنية. ففي العراق كما في سوريا واليمن تم بشكل أو بآخر مساعدة المتطرفين الشيعة وجماعات متطرفة مضادة مثل داعش والقاعدة لتكريس تعريفات مضللة للصراع الاجتماعي الذي (كان) يهدف لتغيير يفضي لاستقرار تلك الدول وتحقيق مصالح مواطنيها دون استثناء، وفي ليبيا تم دعم قوى مسلحة متطرفة ضد مؤسسات الدولة وجيشها بما يحقق فوائد ومصالح لجهات دولية وإقليمية معروفة، أما السودان فقد استمر النظام الذي هيأ كل الظروف التي جعلت من تقسيم الدولة أمرا واقعا في المزيد من تمزيق البلاد وتشظيتها وقتل أطفالها ونسائها باستخدام مليشيات من المرتزقة والجنجويد إضافة لقوات الجيش والشرطة التي تم تتبيعها بالكامل لسيطرة الحزب الحاكم وأجهزته الأمنية ليصبح كل السلاح الموجود في الدولة موجها حصريا لصدور المواطنين والمدنيين العزل في ظل صمت وتواطؤ دولي واقليمي مخجل، مقلق ومريب.
- المؤكد هو أن انقاذ مفهوم الدولة التي تقوم على المواطنة في هذه الدول الخمس هو مهمة ضرورية لانقاذ العالم والاقليم من مآلات كارثية، والراجح أنها مهمة قابلة للإنجاز بالاعتماد على شعوب المنطقية وقواها الحية أولا وأخيرا ، وباستخدام ذات الأدوات السلمية الفعالة التي برهنت على قوتها ونجاحها في مصر وتونس. ولكن أيضا بمساعدة جادة واستراتيجية من دول المنطقة العربية مثل مصر وتونس والسعودية والامارات والدول الافريقية ذات الصلة كاثيوبيا وكينيا ويوغندا. إن ترك بلدان وشعوب بأكملها، لاسيما هذه الدول الخمس، مزيدا في براثن أنظمة اقليمية متوحشة كالنظام الإيراني، وتنظيمات دولية ارهابية متطرفة كالاخوان وداعش والقاعدة والحوثيين وغيرهم هو بمثابة انتحار اقليمي جماعي بطيء لا يغتفر. ولا ينفع في ذلك الاكتفاء فقط بسياسة احتواء مستحيلة إزاء نظام البشير في السودان أو حرب باردة لن تنتهي مع الأسد أو مجرد حلول أمنية تجاه داعش والقاعدة أو ذلك التساهل القاتل مع مليشيات مسلحة تقوم على أساس طائفي بغيض مثل مليشيات الحوثيين في اليمن وغيرهم.
- الوضع المطمئن نسبيا في مصر وتونس يدعونا للتفاؤل والأمل أنه بالإمكان عبور المرحلة المسماة بالربيع العربي إلى أوضاع أفضل وأكثر واقعية واستقرارا لحالة الدولة القائمة على المواطنة في المنطقة بشكل فعلي، فمهما ركز البعض أنظارهم على الربع الفارغ من الكوب هناك فإنهم لن يستطبعوا إنكار أن الأوضاع قد تم تعديلها لصالح الجماهير بدرجة كبيرة لا يمكن بعدها التفكير – مجرد التفكير – في استحواذ أسرة أو أسر قليلة على السلطة والموارد ولا في تمسك فرد بالسلطة مدى الحياة ولا في توريث سياسي ولا – حتى – في مسئولين سياسيين فوق المساءلة. كما تم الابتعاد بقدر كبير عن شبح إمكانية استغلال عاطفة دينية أو مذهبية للوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها وتجييرها لصالح أهداف لا تمت بالصلة للوطن ومواطنيه وتضرب في مقتل فكرة المواطنة نفسها. وصارت الاحتمالات في مصر وتونس مفتوحة ومفتوحة فقط على المضي قدما في طريق تحقيق المصالح الحقيقية والمباشرة لمجموع المواطنين بتسارع قد يزيد أو يبطئ ولكن لا سبيل للتراجع عن هذا الطريق هناك طالما انتبه الناس لقدسية الحفاظ على أرضية الدولة المستقرة جسدا بقوة مؤسساتها وروحا بسيادة فكرة وقيمة ومفهوم المواطنة على تفكير وإحساس الجماهير والنخب والقيادات.
- كل هذا يقودنا إلى تحية واجبة لروح الشهيد بوعزيزي ولكل الثوار والشهداء والمناضلين السلميين التلقائيين الصادقين غير المرتبطين باجندات وموضوعات تناقض مصالح هذه الجماهير. تحية ملؤها الامتنان والحب والتكريم. شكرا بوعزيزي، في الانتحار أن يكون أي فعل آخر سوى ما فعلت وأنجز في إقليمنا هذا العبور العزيز إلى غد أحلى
1 يناير 2015
Comments
Post a Comment